لعل ما يميز معظم الدبلوماسيين الأمريكيين عن نظرائهم في باقي دول العالم، هو أنهم يسجلون مرورهم وتجاربهم في دواليب الادارة وكواليس الدبلوماسية، في كتب ومؤلفات توثق التاريخ القريب للصراعات الدولية و رهاناتها وتكشف خيوط المؤامرات المحبوكة وخباياها وترسم «بورتريهات» للشخصيات الفاعلة والمتحركة على الرقعة الدولية والصانعة للتاريخ. ومن بين الدبلوماسيين الأمريكيين الذي بصموا مرورهم، كتابة، على التاريخ الدولي المعاصر السفير الأمريكي لمدة طويلة في اسرائيل «مارتن أنديك» الذي شغل هذا المنصب ما بين 1995 و 2001، خلال فترة تميزت بمحاولات الرئيس الأمريكي «بيل كلينتون» حلحلة خيوط قضية الشرق الأوسط من أجل التوصل إلى سلام دائم بين إسرائيل والفلسطينيين. وحول هذه الفترة، كتب «مارتن أنديك» كتابه الذي نشر بنيويورك في العام الماضي «بريء في الخارج» وهو كما ورد في عنوانه الفرعي «رواية حميمية لدبلوماسية السلام الأمريكية بالشرق الأوسط»، وهو الكتاب الذي سنترجم منه في هذه العجالة بعض المقتطفات التي تضعنا داخل البيت الأبيض وتقودنا إلى لقاء شخصيات مختلفة وأماكن متعددة من الشرق الأوسط. برودة الدم التي أبداها «وارن كريستوفر» أمام الحسن الثاني لم تكن ناتجة عن سلوك دبلوماسي ولكنها كانت تعكس استخفافا عميقا بالحكام العرب. فقد كان كريستوفر رجلا مهذبا وأنيقا دوما. كان دمقراطيا بقناعة عميقة، وباعتباره طفلا نشأ في مدينة صغيرة (سكرانتون) بولاية داكوتا الشمالية خلال فترة الأزمة الاقتصادية عاش معاناة إنسانية كبيرة غذت لديه التقشف والقناعة أمام الغنى والكره لمظهر الثراء الفاحش، وكان لذلك لا يحفل إلا قليلا بالطغاة ويُكٍن احتراما أقل للملوك. وهكذا فإن لا شخصيته ولا اهتماماته كانت تسمح له بالقيام بالتعاطي مع القادة العرب الذين كانت عاداتهم تتعارض تماما مع السلوك الأمريكي العادي. فالكرم والاحتفاء بالضيف مثلا توجد في قلب الثقافة العربية ،إذ أن كل لقاء يبدأ بتقديم القهوة أو الشاي، ففي السعودية والأردن يقوم رجال القبيلة بصب القهوة في فناجين صينية صغيرة، وفي عمان يرفق السلطان بالقهوة بعض الحلويات والسفوف التي يفترض أن يقوم الضيف بتناولها بأصابعه، وفي الجزائر يُدعى الضيوف، في حفلات المشوي، الى الوقوف أمام جزور غنمي كامل الشواء ويتناولونه بأصابعهم. وفي العالم العربي تتحرك الأمور ببطء شديد، وكنا نتبادل النكت حول هذا الموضوع، فنقول ان «بُكرة» العربية هي نفسها «مانيانا» (غدا باللغة الإسبانية) لدى أمريكا اللاتينية مع استعجال أقل. كما أن ساعات العمل في العالم العربي أقصر منها في الغرب، مع تخصيص وقت أطول لشرب القهوة وتدخين النرجيلة ولعب النرد في المقاهي المحلية. وفي المقابل كان القادة العرب يملكون كامل الوقت لملاقاة زوارهم المهمين، فلا يتناولون صلب الموضوع إلا في آخر الاجتماع. وعلى العكس من ذلك كان لكرستوفر مقاربة مختلفة في اجتماعاته، إذ كان يتصرف مثل محام ينتظره زبناء آخرون كثيرون. عليهم أن يقضوا الوقت المخصص لهم، وحين يدنو انتهاء هذا الوقت المحدد يطفق كريستوفر في التطلع الى ساعته بشكل متكرر و متراتر ،ويشرع في اختزال الحوار. وهذا الأسلوب لم يكن يروق الرئيس السوري حافظ الأسد الذي كان يحلو له التجول عبر ردهات التاريخ من أجل الدفاع عن موقفه أو توضيحه، وهكذا فإن اللقاءات مع الأسد كانت تدوم عادة ما بين ثلاث وخمس ساعات يتخللها توزيع أكواب الشاي والقهوة والمشروبات الأخرى، مما جعل «دجيمس بيكر» يسميها ب «دبلوماسية المثانة». ولم يكن هذا ليعجب كريستوفر، خاصة في السعودية التي لم تكن اللقاءات مع قادتها تأخذ ضعف الوقت المخصص لها بسبب الترجمة من وإلى العربية فحسب، بل أيضا لأن توقيتها نادرا ما يكون قبل منتصف الليل، لأن الزعماء السعوديين يشتغلون بالليل وينامون بالنهار، وهي عادة بدوية قديمة تعود الى عصر ما قبل الهواء المكيف وهذا ما كان يزعج كريستوفر الحريص على مواعيد نومه بدقة. وعلى العكس من ذلك كان «بيل كلينتون» يندمج تماما مع مضيفيه العرب إذ كان ينسج بسرعة علاقات شخصية مع محاوريه وكان يهوي السهر طويلا لو أن مساعديه كانوا يدعونه يفعل ما يروق له. فقد كان نادرا ما ينام قبل الثالثة صباحا. وفيما كان كريستوفر يلامس موضوعا من المواضيع بدقة المحامي. كان كلينتون يطوق الموضوع بحنكة السياسي الذي تعني نعم بالنسبة له «ربما» وربما تعني «لا»، أما الجواب المباشر فيعتبر في مملكته من قلة الأدب، إضافة إلى هذا كونه محبا للطعام بدون تحديد. وخلال فترة رئاسته قام «بيل كلينتون» بأربع رحلات للشرق الأوسط، أي أكثر من أي رئيس أمريكي آخر، لكن لم يكن بإمكانه القيام بالدبلوماسية المكوكية التي دشنها هنري كيسنجر سنة 1973 إذ أن دبلوماسية الشرق الأوسط أصبحت تحت مسؤولية وزير الخارجية. كان كريستوفر محاميا محنكا ودبلوماسيا مجربا، تجول عبر العالم بينما كان كلينتون قارئا نهما للتاريخ، وربما كان أذكى من سكن المكتب البيضاوي على الاطلاق، لكن كيف لهما ان يعرفا ويفهما التأثيرات المتقاطعة للثقافة العربية والسياسة والتجربة التي تحدد سلوك ومواقف قائد عربي حيال نظيره العربي ومواقف القادة العرب جميعا تجاه أمريكا كقوة عظمى. ولهذا واجه كلينتون وفريق السلام التابع له (وأنا منهم) معضلة الغوص في الثقافة والعقلية العربيتين. وأصبحنا نتفهم أكثر كلمات ذات دلالة خاصة لديهم مثل الفخر والكرامة، كما أصبحنا على وعي بالمنافسات المحلية. وفي كثير من المناسبات كنا قادرين على استثمار ذلك لصالحنا، ولكننا في أحيان أخرى، أخفقنا في توقع آثار بعض الكلمات أو الأفعال على بعض قادة المنطقة وحساباتهم. بيد ان جهود كلينتون لإنهاء الصراع العربي الاسرائيلي أقحمته في مواجهة حرص القادة العرب على «الوضع القائم». وقد كان الحسن الثاني ملك المغرب حامل لواء الحفاظ على الوضع القائم بينما كان الحارسان الأكبران لهذا الوضع هما حسني مبارك رئيس مصر والعاهل السعودي فهد بن عبد العزيز، باعتبارهما قائدا أكثر البلدان العربية سكانا بالنسبة للأول وأغنى الدول العربية بالنسبة للثاني. ومن موقعيهما هذا كان لديهما تأثير كبير على المنطقة، وكانا يريان معا بأن بقاءهما في السلطة يتوقف على حفاظهما على «الوضع القائم» الذي كان كلينتون يسعى الى تغييره. ففي الظاهر كان مبارك وفهد يبدوان مرحبين بجهود كلينتون للسعي الى سلام دائم بالمنطقة لكن الخفي كان مختلفا تماما. فإذا ما وقع تصعيد للتوتر بالمنطقة وهو أمر وارد باستمرار، فإن هذا من شأنه إلهاب مشاعر الشارع العربي وبالتالي تهديد بقائهما في السلطة، لكن بقاء الصراع العربي الاسرائيلي في «وضعه القائم» من شأنه تحويل أنظار الجماهير عن إخفاقاتهما كقادة. إضافة الى أن إنهاء النزاع يتطلب منهما تقديم تنازلات وتسويات مع إسرائيل مما سيعرضهما للانتقاد. لهذا فإن مبارك وفهد كانا يريدان مسلسل سلام يخفف من حدة النزاع بعض الشيء ولا يحله أبدا. وفي أواخر ولايته اضطر كلينتون الى الاعتراف والرضوخ لهذا الواقع. ونفس الحرص على «الوضع القائم» هو الذي دفع فهد ومبارك الى معارضة القضاء على النظامين العراقي والإيراني. وهذا السبب نفسه هو الذي جعل مبارك وعبد الله (خليفة فهد) يحذران جورج بوش من غزو العراق للقضاء على صدام حسين. فقد كان حسني مبارك يرى ضرورة الحفاظ على نظام صدام حسين الذي لا يثق به كما أكد ذلك لكريستوفر في لقائهما عام 1993 لأنه ضروري للحفاظ على وحدة العراق الترابية ولأن إزاحته تعني إفساح المجال لإيران كي تستفيد من الوضع. لهذا كان مبارك يقترح أن يتجاهل بيل كلينتون صدام حسين ولا يحفل به. ونفس الموقف اتخذه القادة السعوديون الذين ربطوا حمايتهم وحماية نظامهم منذ زمن بعيد بالولايات المتحدة التي يضمنون لها تدفق النفط بأسعار زهيدة وتحكما في السوق العالمية للذهب الأسود وإنعاشا لاقتصادها (بإبرام صفقات كبرى مع شركاتها..) وتمويلا لحملاتها الخارجية السرية (أفغانستان، نيكاراغوا...). ومقابل هذا كله تقوم الإدارة الامريكية (كلينتون في وقتنا هذا) بدعم النظامين المصري والسعودي والتغاضي عن مشاكلهما الداخلية. ونتيجة لهذا وفيما كانت إدارة كلينتون تقود حملة كبرى لإنعاش التغيير الديمقراطي في كل أركان العالم، كان حلفاؤنا العرب في منأى عن هذه الحملة. وبموازاة مع هذا التجاهل أو للتغطية عليه، ركزت إدارة كلينتون على أطراف العالم العربي.. وهكذا دعمنا حقوق المرأة في كل من قطر والكويت وضغطنا على النظام الجزائري من أجل انفتاح سياسي أوسع في نظامه السياسي وفتح حوار مع الأصوليين الاسلاميين (الذين تخلوا عن العنف) كما دعمنا الجهود المثمرة للعاهلين المغربي والأردني لضم معارضتهما الى الحكم من خلال الحكومة والبرلمان، كما قمنا بمجهود ملموس لدعم الاصلاح السياسي في اليمن وفي باقي دول الجزيرة العربية على أمل أن يمتد هذا الى باقي الجزيرة. أيام قاهرية أحبُّ أن أبدأ تدوين رحلتي هذه، بتذكر كل الرحالة الذين زاروا مصر عبر مراحل مختلفة من التاريخ ولأسباب شتى، وقد يُسعفني تخيل أجزاء متناثرة مما عاشوه وأحسوا به . في كل رحلةٍ لي ،سواء كتبتُها أو تركتُها في وجداني ضمن أرشيفٍ صامت، أحبُّ قراءة أشياء كثيرة عن البلد الذي أزوره، سواء من التراث أو من تآليف حديثة ومعاصرة لعرب أو أجانب . مثلما هي قراءاتي الدائمة للرواية العربية وضمنها السرود المصرية،إنها تجعلني قريبا من المتخيل العام لأرض الكنانة ؛كما شكلت النصوص الرحلية إلى مصر أو تلك العابرة منها إلى الديار المقدسة مرجعية هامة لي. هذه المرة، قرأتُ فقط للصُّبيحي السَّلاوي رحلته الطريفة إلى مصر ،كما قرأتُ ما أمدني به الدكتور عماد أبوغازي من دراسات خمس له حول « مصر قصة حضارة»، وعكفتُ على قراءة الكتاب الذي أهداني إياه الصديق العزيز جمال العسكري «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة «لابن تغري بردي الأتاباكي. كما أسَرَّ لي، رفيقُ رحلتي، عبد المنعم بونو بأنه يحوزُكتابا نادرا لأديب من غواتيمالا زار مصر في مطلع العقود الأولى من القرن الماضي ، ودوَّن رحلة طريفة. فاقترحتُ عليه تخصيص جزء من وقته لترجمتها.
وصلنا مطار القاهرة الدولي في الساعة السابعة والنصف من صباح يوم الأحد، تاسع مايو ألفين وعشرة، لحضور الندوة الدولية حول «تفاعل الثقافات الإفريقية في عصر العولمة»، والتي ينظمها المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة في ما بين ثامن ورابع عشر مايو ، وقد كان عنوان ورقتي « الإبداع الإفريقي بين تقاليد الشفاهية والهوية الثقافية «، إلى جانب أزيد من ستين مشاركا من أدباء ونقاد وجامعيين ينتمون إلى عدد من الدول العربية والإفريقية جنوب الصحراء ، أما الوفد المغربي فكان متكونا من حسناء اللبادي ، عبد المنعم بونو ، محمد الفلاح العلوي ، ربيعة ريحان وعبد ربه ،كاتب هذه الرحلة، غفر الله له ولهم جميعا. كان يوما صاهدا بلغت درجة حرارته إحدى وأربعين درجة مئوية ، ورغم ذلك خرجنا في جولة تفقدية بوسط البلد، قبل أن نعود متأخرين، وقد اقترحتُ على صديقيَّ منعم ومحمد الفلاح قضاء بقية السهرة، إلى غاية الساعة الواحدة والنصف صباحا، بمقهى خان شقاوة.
مثل طمي خلاَّق القاهرة لا تُصبح مدينة بدون أحيائها المحملة بتواريخها وعمارتها وثقافتها سواء في الجهة الغربية حيث قصر النيل وغاردن سيتي والزمالك ؛أو في شرقها بمصر الجديدة والعباسية وحدائق القبة والمصرية ..أما شمال القاهرة فتوجد به شبرا وروض الفرج والمنيرة الجديدة ؛ وفي جنوبها مصر القديمة ، المعادي، وحلوان ...فيما نجد الموسكي والمقطم وباب الشعرية والسيدة زينب بوسط القاهرة . أحياء هي علامات تحمل أسرارا مُعتَّقة ، تتحول إلى رسالات من وجهين ، حقيقي وتخييلي ..فهذا حي الأزهر الذي بناه جوهر الصقلي منذ 970 ميلادية حيث يوجد مسجد سيدنا الحسين بالقرب من أهم مركز تجاري وأثري ، خان الخليلي ، والذي أنشأه الشريف الخليلي كبير التجار في عهد السلطان برقوق سنة 1400 ميلادية ، وأعادَ السلطان الغوري ترميمه بعد قرن وإحدى عشرة سنة . وإلى جوار هذا الإرث ، يوجد حي الغورية ثم شارع المعز لدين الله بكل عجائبه ، فهو متحف تاريخي وثقافي مفتوح ، يُفتنُ باستمرار وفي كل الأوقات..منذ بنائه من طرف جوهر والذي أنشأ سوره الشمالي من بابين : باب النصر وباب الفتوح أما السور الجنوبي فمدخله يحتوي على بابين هما : باب زويلة .ومن باب الفتوح إلى باب زويلة يمتد شارع المُعز والذي يُسمى أيضا بالمقطم والقاهرة والقصبة .
يوم الاثنين، انطلقت أشغال الندوة في حفل افتتاحي بقاعة الأوبرا الصغيرة، وسط جو ربيعي معتدل الحرارة، قبل الانتقال إلى قاعة الندوات بالطابق الثالث بالمجلس لمتابعة جلسات المحاضرات والتي ستعرف مناقشات ساخنة ومهمة حول ثقافات إفريقيا بأصوات الأفارقة في الشمال الغربي والشرقي أو في دول جنوب الصحراء. يوم الثلاثاء، يستمر نفس المستوى ويتشعب النقاش في محاور جديدة ؛ أم بخصوص أحوال الدنيا فقد بلغ إلى عِلمنا أن سحابة بركان ايزلاندا تَعبُرُ سماء المغرب ،مما أجبر المطارات الثمانية إلى الإغلاق المؤقت، ففكرتُ بسرعة في البحث عن وسيلة أخرى للسفر إذا ما رفضت السحابة القاتلة الانسحاب عن سمائنا. وحتى استثمر كل الزمن القاهري بشكل جيد ومنظم ،كنتُ أنتهز فرصة السويعات بين الجلسات الصباحية والمسائية ، وتحديدا في ما بين الظهيرة والساعة الخامسة، لقضاء بعض الأشغال والزيارات. وهكذا زرتُ الجامعة الأمريكية الموجودة بشارع القصر العيني في جلسات عمل مع فريال غزول وليد الحمامصي، كما زرت أصدقائي في الهيئة العامة لقصور الثقافة بعمارة العرائس، وفي المسافة ما بين الجامعة الأمريكية والهيئة ، صادفتُ مظاهرات بالقرب من مجلس الشورى، لعمال يرفعون شعارات تطالب بإنصافهم، يعتصمون ليل نهار.. في حين كانت هناك مظاهرات أخرى تحتج على استمرار قانون الطوارئ ، والذي صودق على تمديده لفترة أخرى .