ما من شك أن موضوع جمع القرآن، ضمانا لحمايته كنص مقدس، عمل «ابتكره» الخليفة عثمان بن عفان. غير أن هذا العمل أثيرت حوله الشبهات وطرح إشكالات كبرى لم يقع تجاوزها تماما، إلا عبر اختيارات إيديولوجية مملاة،. ذلك أن مجموعة من الروايات تذهب إلى أن «المشروع العثماني» قام على مصادرة سلطة القراء (الحفاظ) كمؤتمنين على الذاكرة الشفوية، ومنهم أزواج الرسول، ومجموعة من الصحابة. ولعل هذا ما فتح الباب أمام القائلين بأن عثمان- الذي أمر بحرق المصاحف-كان وراء انفساخ العلاقة بين تلقي الحدث القرآني وبين الأثر المكتوب والمرتب في «المصحف». بل سمح لمجموعة من الباحثين «القرآنيين»- القدامى والمعاصرين- بتقديم بيانات حول وقوع التحريف في القرآن والتغيير في آياته وترتيبه وسقوط أشياء منه».. «إذا أمعنا النظر في الكلام القرآني- يقول يوسف صديق- وتحديدا في ذلك الطيف (ما يعلق حول معنى «الكتاب») الذي يبدأ من معنى «الربط» إلى معنى أعلى، أي ذلك الاتساع الذي يضيع- حسب الرؤية الإنسانية- في أسرار المعرفة الإلهية، سنكون أمام تشكيلة من المعاني، حيث يحمل المعنى، في كل مرة، دلالة معينة». فأولا، إن هذا الكتاب- حينما يتعلق الأمر بمادة منشورة- يحمل غالبا، في القرآن، معنى خلافيا، أو الأصح معنى محقرا. وكان لهذا ثقله في المعارضة التي استهدفت الخليفة عثمان، جامع المصحف، من طرف بعض صحابة الرسول، حول موضوع «توحيد المصحف» وتداوله في الفضاء الفقهي: «فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ» (البقرة. الأية: 79). أو أيضا في الخطاب الموجه إلى اليهود المعاصرين للنبي بخصوص التوراة: «وَلَمَّا جَاءَهُمْ [اليهود] كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ» (سورة البقرة. الأية 90 و91و92). غير أن مفهوم «الكتاب»- يقول يوسف صديق- حينما يستعمله القرآن بنية تقريظية، يعنى الإرادة الإلهية أو البشرية التي تشترع القوانين وتنسب الزمن، أي تلك التي تجمع وفق ترتيب أسباب وعناصر الكل. والمعنى الأكثر تداولا الذي يواجه تحليلنا هو الذي يجعل من الكتاب ملءا لفراغ وحلولا لأجل، أي فاصلا بين المشروع وتحققه، وبين الرغبة ومصيرها، كما جاء في الآية: «لكل أجل كتاب» (سورة الرعد. الأية 39). وهذا معناه أن «الكتاب» عبور (مسيرة) نحو أجل أو اكتمال لدورة وتحقيق لانتظار أو وفاء بوعد. إنه البياض التي تحاول الرغبة، إلى حين زوالها، أن تملأه. أما القرآن، فيجعل الإنصات هو المجال الأساسي للاستقباله: «وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولّوا إلى قومهم منذرينتقالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين» (سورة الأحقاف: 29.32). ويعلق القرطبي على الآية: «وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن» بقوله: «هذا توبيخ لمشركي قريش، أي إن الجن سمعوا القرآن فآمنوا به وعلموا أنه من عند الله وأنتم معرضون مصرون على الكفر. ومعنى: «صرفنا» وجهنا إليك وبعثنا. وذلك أنهم صرفوا عن استراق السمع من السماء برجوم الشهب- على ما يأتي- ولم يكونوا بعد عيسى قد صرفوا عنه إلا عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم». فرغم أن «الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا» (النساء. 103)، فإن الكتاب يعرف نفسه أنه في الوقت نفسه وميض مرتبط بطبيعة المتلقي وبتواتر الأحكام الإلهية الذي لم تتوقف أبدا على إنتاج ترجمة له. فالكتاب بالنسبة للقرآن، هو أولا، «العالم الموسوعي» الذي كتبه الله: «وكذبوا بآياتنا كذابا، وكل شيء أحصيناه كتابا، فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا» (سورة النبأ: 28. 29). والأية الأخرى: «لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا» (الجن: 28). وأيضا الآية: «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (سورة يس: 12). ومنذ تأسيس فقه اللغة حول «المصحف»، لم تعد المؤسسة الفقهية تهتم باللغة القرآنية إلا من أجل الدفاع عن مبدأ الإعجاز القرآني.