ما من شك أن موضوع جمع القرآن، ضمانا لحمايته كنص مقدس، عمل «ابتكره» الخليفة عثمان بن عفان. غير أن هذا العمل أثيرت حوله الشبهات وطرح إشكالات كبرى لم يقع تجاوزها تماما، إلا عبر اختيارات إيديولوجية مملاة،. ذلك أن مجموعة من الروايات تذهب إلى أن «المشروع العثماني» قام على مصادرة سلطة القراء (الحفاظ) كمؤتمنين على الذاكرة الشفوية، ومنهم أزواج الرسول، ومجموعة من الصحابة. ولعل هذا ما فتح الباب أمام القائلين بأن عثمان- الذي أمر بحرق المصاحف-كان وراء انفساخ العلاقة بين تلقي الحدث القرآني وبين الأثر المكتوب والمرتب في «المصحف». بل سمح لمجموعة من الباحثين «القرآنيين»- القدامى والمعاصرين- بتقديم بيانات حول وقوع التحريف في القرآن والتغيير في آياته وترتيبه وسقوط أشياء منه».. هل يمكن القول إن رفض عبد الله بن مسعود الامتثال لأمر الخليفة عثمان كان بسبب نظرته إلى ذاته كمرجع قرآني بلا منازع، أم أن صيحته «يا أهل الكوفة، اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها» تعود إلى ما أسماه الباحث السوري نبيل فياض «الكوارث النصية» التي اعترت النص المعياري أثناء جمعه وتعميمه، إذ أثبتت مرافعة ابن مسعود، إضافة إلى الأحاديث التي رويت عن عائشة، أن هناك سورا لم تكن في الأصل جزءا من القرآن، بل حشرت في النص الأصلي (من الشروحات والحواشي) ، كما أن هناك أيات ناقصة ضاعت (نسخت) كأن تنسى أو تمحى أو تأكلها الدواب، إضافة إلى الخلاف حول ترتيب القرآن وأسماء بعض سوره؟ لا مجال لتجنب الاعتراف أن أغلب المعارك التي اندلعت حول القرآن، لم تكن بسبب جمع القرآن (إنقاذه من التحريف)، بل بسبب امتزاج الناسخ بالمنسوخ، وأصل النص بالحواشي، وكلام الله بالدعاء، إضافة إلى تدخلات «الجامع» والمحو الذي اعتري الكتابة على رقائق الخشب والحجر والجلد. وما محاولات القفز على ذلك إلا مجرد عنف يعتبر أدنى تشكيك في الأثر الممحو فعلا فاحشا- حسب يوسف الصديق- وهذا الإبعاد يجد تفسيره، قبل كل شيء، في التداخل الشائن بين الرؤية السياسية والدينية في المبادرة التي أثبتت النص. ومما يروى عن ذلك العراك القرآني أورد الأصفهاني ملخصّاً لما ورد في أمّهات الكتب حول نقص القرآن: «أثبت زيد بن ثابت سورتي القنوت في القرآن، وأثبت ابن مسعود في مصحفه: لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب. وروي أن عمر (ض)؛ قال: لولا أن يقال زاد عمر في كتاب الله تعالى لأثبت في المصحف، فقد نزلت الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله شديد العذاب. (القرطبي). وقالت عائشة: لقد نزلت آية الرجم ورضاع الكبير، وكانتا في رقعة تحت سريري، وشغلنا بشكاة رسول الله (ص) فدخلت داجن فأكلته. وقال علقمة: أتيت الشام فجاء رجل فقعد إلى جنبي فقيل لي: هو أبو الدرداء، فقال: ممن أنت؟ قلت: من الكوفة. قال: أتحفظ كيف كان يقرأ «والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى»؟ قلت: نعم هكذا أقرأنيه رسول الله (ص)، وفوه إلى فيّ فما زال هؤلاء بي حتى كادوا يردونني عنهما. وأثبت ابن مسعود: بسم الله في سورة البراءة. وقالت عائشة: كانت الأحزاب تقرأ في زمن الرسول (ص) مائة آية، فلما جمعه عثمان (القرآن) لم يجد إلا ما هو الآن وكان فيه آية الرجم؛ وأسقط ابن مسعود من مصحفه أم القرآن والمعوذتين (510). وفي الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، ورد التالي: «وكتب عثمان منهم فاتحة الكتاب والمعوذتين». وأخرج الطبراني في الدعاء ة عن عبد الله بن زرير الغافقي؛ قال: قال لي عبد الملك بن مروان: لقد علمت ما حملك على حبّ أبي تراب، إلا أنك أعرابي جلف، فقلت: والله لقد جعلت القرآن من قبل أن يجتمع أبواك، ولقد علمني منه علي بن أبي طالب سورتين علمهما إياه رسول الله (ص) ما علمهما أنت ولا أبوك. اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق. وأخرج البيهقي من طريق... عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع؛ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا نستدعيك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى نقمتك، إن عذابك بالكافرين ملحق. قال ابن جريج: حكمة البسملة أنهما سورتان في مصحف بعض الصحابة. وأخرج محمد بن نصر الروزي في كتاب الصلاة عن أبي بن كعب أنه كان يقنت بالسورتين فذكرهما، وأنه كان يكتبهما في مصحفه. وقال ابن الضريس:... في مصحف ابن عباس قراءة أبي وأبي موسى: بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك الخير ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، وفيه: اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نخشى عذابك ونرجو رحمتك، إن عذابك بالكفار ملحق. وأخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي إسحاق، قال: أمنا أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بخراسان، فقرأ بهاتين السورتين: إنا نستعينك ونستغفرك. وأخرج البيهقي وأبو داود في المراسيل عن خالد بن أبي عمران أن جبريل نزل بذلك على النبي (ص) وهو في الصلاة مع قوله «ليس لك من الأمر شيء». وفي محاضرات الأدباء، نقرأ عن ابن عروة عن أبيه: «سألت عائشة عن لحن القرآن عن قوله: إن هذان (الأصح: هذين) لساحران، وعن قوله: والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة، وعن قوله: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون (الأصح: الصابئين)، فقالت: يا ابن أختي هذا عمل الكتّاب أخطأوا في الكتابة. كان عمر (ض) يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما اقرأها وكان رسول الله (ص) أقرأنيها، فأخذت بثوبه وذهبت به إلى رسول الله (ص) فقلت: إني سمعته يقرأ القرآن على غير ما أقرأتني، فقال: اقرأ فقرأت، فقال (ص) هكذا أنزلت. ثم قال لهشام: اقرأ فقال (ص): هكذا أنزلت. ثم قال: إن هذا لقرآن نزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه». في «مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي»، نقرأ «عن ابن عمر؛ قال: قرأ رجلان من الأنصار سورة أقرأهما رسول الله (ص) فكانا يقرآنها؛ فقاما ذات ليلة يصليان بها، فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديين على رسول الله (ص)؛ فذكروا له؛ فقال رسول الله (ص): إنها مما نسخ أو نسى فالهوا عنها!!... وعن عمرو بن رافع مولى عمر بن الخطاب حدث أنه كان يكتب المصاحف في عهد أزواج النبي (ص)؛ قال: فاستكتبتني حفصة (زوج النبي) مصحفاً؛ وقالت إذا بلغت هذه الآية من سورة البقرة فلا تكتبها حتى تأتيني فأمليها عليك كما حفظتها من رسول الله (ص) قال: فلما بلغتها جئتها بالورقة التي أكتبها فيها؛ فقالت: اكتب «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين».