لم يجد الباحثون والمهتمون بالعلوم الاجتماعية، قبل وبعد خمسينيات القرن الماضي بالمغرب المستقل - بل وفي الوطن العربي والعالم النامي عموما- أمامهم في هذا الحقل بالذات، سوى ما خلفته الدراسات الكولونيالية والاستشراقية من تراكم معرفي متعدد الأنماط، والمستويات حول المجتمع المغربي تحديدا. ولذا فقد كان على الرواد في مجال البحث السوسيولوجي بشكل خاص، مثل الخطيبي وباسكون وجسوس ... مهام إنجاز قراءات ومراجعات علمية ونقدية لهذا التراث. وذلك بهدف فهم موضوعي لمرجعياته وأبعاده ومضامينه المعرفية، والكشف عن موجهاته وخلفياته الثقافية والإيديولوجية المرتبطة أساسا ب«المؤسسة الاستعمارية»، بكل ثقلها وتموقعها التاريخي، وبأغراضها الظاهرة والمضمرة من توظيف ما ينتج في كنف توجهاتها من دراسات ومعارف وتصورات ومعطيات... في توطيد دعائم هيمنتها المادية والرمزية. كما كان عليهم أيضا أن يجترحوا لأنفسهم بعض إمكانات الاستفادة العقلانية الهادفة من هذا التراث. وذلك في أفق البحث عن أنسب الشروط والمقومات العلمية والاجتماعية القمينة بتأسيس «معرفة سوسيولوجية» تمتح، من جهة، من مرجعية معرفة كونية إنسانية - على نسبيتها وقابليتها للنقد والتجاوز...- وتتواصل، من جهة ثانية، مع تراثها ومع المحددات الخصوصية لإنتاجها وتطويرها واستعمالها في واقع محلي أو وطني محدد في الزمان والفضاء. وهو في هذا الموقف السوسيومعرفي يتناغم مع المنظور النقدي لعالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين في دفاعه عن السوسيولوجيا حين يقول :«إن موضوع علم الاجتماع لا يمكن الإشارة إليه بتعريف، وإنما بالعمل النقدي، وبرفض تصديق جميع التفسيرات، ابتداء من التعقيل الذي يسوغ الفاعل به أفعاله، حتى المعنى المتجسد في المقولات الإدارية، التي تبدو أبعد ما تكون عن أن تصبح محملة بالمقاصد (...) فإذا ما نبذ علم الاجتماع، في الأغلب وبعنف شديد، أو نظر إليه دائما تقريبا بالكثير من الحذر، فهذا لأنه يسعى إلى إدراك اندفاع المجتمع وفهم الحركة التي يقودها ذاته بذاته بدون أن يلجأ، من أجل ذلك، إلى تفسير فوق اجتماعي (...). فعلم الاجتماع لا يكون متمتعا بحريته وهو على الهامش في معزل عن العواصف، وإنما يكون كذلك حين يصهره الصراع بقوة شديدة تجعله يلتقط أنفاسه بمشقة (...) ولما كان هذا العلم مهددا، من ناحية، بالإيديولوجيا والخضوع للفاعلين، ومهددا، من ناحية أخرى بالحرفية والهامشية، فإنه يعيش بصعوبة، ولا يعمل إلا ضمن الحدود التي يكون فيها مجتمعه متسامحا، وتكون السلطة غير موحدة، وعلى نحو أدق، حينما تكون القوى الجديدة تعتمد على التحليل النقدي لعالم الاجتماع، فتتقبله أو تشجعه في جهدها من أجل كسر الحواجز التي تقف في وجه عملها الخاص. سواء أكان ذلك من جهة الطبقة القائدة، أو جهاز الدولة، أو من جهة القوى الشعبية»(11). إن هذه الرؤية النقدية لعلم الاجتماع هي التي كانت وراء ذلك النقد الصارم الذي وجهه محمد جسوس للوظائف الفكرية والتربوية والاجتماعية والإيديولوجية للجامعة ول»للعقل الجامعي» أو «الثقافة الجامعية»، ولأزمة علم الاجتماع والبحث العلمي عامة، ورفض اقتصارهما على ممارسات بيداغوجية ومهنية ضيقة وأحيانا سطحية، وعلى الأوضاع التي يظلان فيها مجرد خدمات تعليمية، أو «معرفة تحت الطلب»، منشغلة بهم الاستجابة لمتطلبات السوق رغم الأهمية الوازنة لذلك في الشروط الراهنة لمجتمعنا أكثر مما هي منشغلة بمهام ورهانات التأسيس لمعرفة علمية نقدية مؤصلة، مستقلة عن جل إكراهات ومنزلقات الارتهان للمعرفة الغربية الكولونيالية أو الاستشراقية، ولاسيما في بعض نماذجها ومضامينها الإيديولوجية... ولكن شريطة أن تظل معرفة متواشجة ومتواصلة مع شروط إنتاجها ومقومات خصوصياتها الذاتية بكل أبعادها وارتباطاتها الكونية الإنسانية ... ضمن هذا التوجه يمكن أن نفهم ونفسر، كما سنشير إلى ذلك لاحقا، طبيعة وثقل الحضور الذي تحتله «المسألة الاجتماعية» في المجهود الفكري والمسار السياسي لمحمد جسوس. (11) ألان تورين: من أجل علم الاجتماع، ترجمة تيسير شيخ الأرض، دمشق، 1979، ص ص : (18-22/9-15) على التوالي حسب تراتب النصوص المقتبسة.