بدأت إحالة المفصولين في الحسيمة على القضاء، وبدأت مرحلة ثانية من العمل المؤسساتي في تطبيق قرار دعا إليه ملك البلاد، ولقي الترحيب والتصفيق المستحقين. لقد لقي القرار في شقه الاداري، و شقه - الذي يعد سابقة محمودة في السلك الإداري - المتعلق بالمتابعة القضائية، تجاوبا متفاوت المبررات والمسوغات، وفي زوايا النظر. الآن والملفات أمام القضاء، أصبح نفاذ القرار ومصداقيته وقوته ونموذجيته، لكي يصبح مرجعا لا يبلى، أمام السادة القضاة. القضاء في المرحلة التي يوجد فيها الملف هو البرهان على أن الأشياء معصومة من أية تأويلات قد تنظر إلى مرتبة من اتخذ القرار ولا تنظر إلى مرتبة الجريمة وفداحتها. القضاء اليوم مطالب أيضا بأن يحصن الإرادة الملكية في تنقية الإدارة من شوائبها من أي تأويلات أو تصفيات تكون قد وقعت في طريق التنفيذ والنظر، بالتجرد الكامل، ويحصنها بالعدل في النظر إلى الحيثيات والبينات والقرائن. ليبرأ من يبرأ ويدان من يدان، ويشعر الجميع أن المغرب انتصر على التسيب الإداري والرشوة في القرار الأول، وأنه انتصر على نفسه وعلى عادات تكاد تكون مترسخة، في القرار الثاني . لنقلها بصراحة: إننا نعرف بأن الوزن الرمزي والدستوري والشخصي والروحي للملك، يجعل القرار له وزنا كبيرا ووقعا كبيرا، وربما قد يكون هناك ميل إلى أن يعتبر البعض أن ذلك كافيا لكي لا نطيل النظر في الملفات أو في الحيثيات أو نعتبر الجميع مدانا. إن الأحكام تصدر باسم الملك، ويجب أن يكون لها صفاء وقدسية الذي تصدر باسمه. والقدسية في القضاء ليست فقط أصلا، بل هي أيضا عدلا وإنصافا. وعليه، فإن القوة والوزن والحضور الروحي والسياسي والمؤسساتي للملك يعطي الطمأنينة لمن ينظر في الملف بأنه محصن، وأنه سيكون قويا بالحق وبالمحاكمة العادلة وبتفادي أي منزلقات نحن نعرف أنها تقع منذ القديم، وقد ترسخت للأسف كسلوكات. إن عاهل البلاد، هو نفسه الذي عبر في الخطاب الأخير، والذي جاء بعد القرارات المتصلة بالحسيمة والنواحي، عن انشغال بالغ بإصلاح القضاء، عماد سيادة القانون، ليأخذ وجهته الصحيحة وفق جدولة مضبوطة. ولنا في حيثيات ما وقع في خنيفرة، في قضية حفصة أمحزون، خالة جلالته خير دليل على أن القضاء يجب أن يجد في إرادة ملك البلاد ما يكفيه من قوة ليتحرر ويستقل. وقد استطاع ذلك، واستطاع أكثر من ذلك، عندما دفع السيدة حفصة إلى تعميق المصالحة مع الضحايا الذين أنصفهم القضاء بمودة و ودية. لا يمكن أن يعتبر أي كان أن ما سبق هو تشنيع بالقضاء قبل حتى أن ينظر في القضية المعروضة في الحسيمة أو تكرار مثالب سابقة. فأمامنا اليوم النقاش الدائر في فرنسا، حول إصلاحات قضائية جارية، وأخرى ترتبط بالنقاش حول الأمن وحول الأمنيين... وما إلى ذلك. فرنسا التي تولى فيها القضاء محاكمة رئيس الجمهورية جاك شيراك، والوزير الأول السابق ديفيلبان، وينظر فيها في قضايا تتعلق بالمسؤولين العسكريين والمدنيين والحكوميين، فرنسا هاته لا تعفي نفسها من النقاش ومن الإصلاح كلما بيّن تطور نظامها السياسي والقضائي أن هناك حاجة إلى ذلك. لقد غير المجلس الدستوري الفرنسي، بندا في المسطرة الجنائية، حيث قرر حكماء الجمهورية أن البنود الرئيسية التي تحكم الحراسة النظرية «لا تتلاءم مع الدستور»، أي نزعوا الصفة الدستورية عن مسطرة تعمل بها الحكومة منذ عقود، لم تتردد الصحافة الفرنسية في وصف ما وقع بالزلزال أو بالرعد! وقد كان ذلك كله من أجل ضمان أفضل لحقوق الدفاع ولحقوق المتهمين. ولكنه في الوقت نفسه لم يلق التجاوب مع نقابات الأمن في فرنسا التي اعتبرت بأنه سيقلب عملها رأسا على عقب. ما يجب أن نحتفظ به هو أن المجلس الدستوري الفرنسي لم يتردد، عندما تبين له ذلك حقا، في أن يدخل إصلاحا راديكاليا على النظام القضائي الفرنسي، في ارتباط مع قضايا الأمن والعدالة بين المواطنين. وتدور بالفعل مناقشات كبيرة اليوم في فرنسا حول الموضوع وحول القضاء دفعت بكل الأطراف إلى النزول إلى ساحة المنازلة، مع الاحترام المتبادل والسعي الحثيث إلى خدمة العدالة والوطن، لا تصفيات الحسابات أو إطلاق الشتيمة في الخصوم السياسيين. لقد دخلت إيليوت ماري، وزيرة العدل إلى حلبة النقاش الدائر في بلادها، ولم تكتف ببلاغ يوضح مواقفها، بل امتشقت القلم ووقعت مقالا في يومية «لوموند»، المرجعية الإعلامية في الجمهورية، سمته - بدلالة- «دفاعا عن شرف القضاء». وكتبت بالحرف القوي بأنه «كفي من الهجومات غير المبررة والعصبية ضد القضاء. ورفضت القبول بأن يقال «بوجود القضاء تحت الطلب أو تحت الإدارة السياسية»..الخ الخ! وتعيش فرنسا في نفس الآن حراكا كبيرا بعد الخرجات التي قام بها الرئيس ساركوزي حول قضايا الأمن والمواطنين، وحول تصريحات وزرائه في نفس الموضوع. وهناك صخب كبير في الجمهورية الخامسة، العريقة في عمل المؤسسات والديموقراطية، بدون أن ينزعج أحد منه ومن ظروفه. ولعل من أجمل ما كتبت الوزيرة اليمينية، هو قولها بأن «الإنصاف يتطلب الهدوء ورباطة الجأش، والتحصين من أي تأثيرات إعلامية وسياسوية، بله شخصية»، مضيفة بأن وظيفتها كوزيرة للعدل،(حارسة للاختام) هي «حماية القضاء من كل الضغوط، سواء كانت ضغوطا تراتبية إدارية، أو سياسية أو إعلامية». وهو العدل الذي يريده كل من يجد نفسه في وضع الهشاشة والضعف وبين فكي الآلة الكبيرة، وحتى يشعر بالفعل الذي ثبت جرمه، بالزلزال وبالعقوبة، إحساسا كبيرا، لا بد من ألا نعطيه ما يواسيه بمعاقبة من لا يستحق..! وعندما نعاقب من لا يستحق فنحن في الغالب نواسي المجرم!