هل تسير حضارتنا رأساً صوب الهاوية؟ ذلك هو السؤال الذي أدار عليه إدغار موران، عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي، وأحد كبار المفكرين وأكثرهم أصالة في زمننا الحاضر، كتابَه الجديد، الذي نقدم له ههنا ترجمة عربية. إنه كتاب يجمل فكر صاحبه، من رحلة طويلة في مقاربة الواقع العالمي المتغير وسؤال الفكر الملاحق لتغيراته. والمؤلف يستعرض في هذا الكتاب أوجه الأزمة التي تتخبط فيها الحضارة الحديثة، ويتوقف بإسهاب عند الإصلاح الذي يقترحه للعالم ولنظم التفكير. ويقلب النظر في ظواهر بعينها، كالعولمة، وظهور «المجتمع العالم»، ويتمعن في الجواب الذي يمكن أن تقدمه «سياسة حضارية» في سياق ما بعد أحداث 11 شتنبر. ليخلص إلى نتيجة أنه لاسبيل لحضارتنا إلى الخروج من أنفاقها المسدودة بغير التحول. ينبغي الإقلاع عن الفكرة المجردة عن (المكون) الإنساني وأنه يوجد في صلب الإنسانوية. فهي فكرة مجردة لأننا بها نختزل الإنساني في الإنسان الحكيم Homo sapiens، وفي الإنسان الصانع homofaber، والإنسان الاقتصادي homo economicus . فالكائن البشري فيه الحكيم وفيه الشيطان وفيه الصانع faber، وفيه الخرافي mythologicus، وفيه الاقتصادي economicus ، وفيه اللعبي ludens، وفيه النثري وفيه الشعري، وفيه الطبيعي وما فوق الطبيعي. فينبغي أن نعرف أن العمومية قد أصبحت شيئاً متحققاً في التحقق الذي صار للعصر لكوكبي، حيث بات بمكنتنا أن نكتشف لاتجمعاً للأصل، أو تجمعاً للطبيعة من خلال تنوعهما، بل وبات بمكنتنا أن نكتشف تجمعاً في المصير. وحينها يمكن للأنسية أن تصبح شيئاً ملموساً. لقد أصبح التقدم يتوقف في الوقت الحالي على الوعي الإنساني. فالتقدم المكتسب ينبغي أن يظل في توالد مستمر ومتواصل. إن إمكانية التقدم توجد في ما أسماه ماركس «الإنسان الجنسي»، وفي المقدرات التي تكبحها مجتمعاتنا، ويكبحها التخصص، ويكبحها تقسيم العمل، ويكبحها التصلب والشيخوخة... إن هذه الفكرة التي نجدها لدى روسو نجد مارك يجعل لها أهمية قصوى. في هذه المجتمعات، وحدهم الشعراء والفنانون والمبتكرون - بما هم كائنات منحرفة - قادرون على أن يكونوا مبدعين وأن يخلقوا لنا شيئاً ما. فيحنها ترتسم إمكانية للذهاب أبعد من الأنوار، بالانخراط فيها. ينبغي أن نجمع بين أربع سبل لا تزال إلى اليوم منفصلة عن بعضها. فأما السبيل الأولى فهي إصلاح التنظيم الاجتماعي، ولا يمكن أن تكون هي السبيل الوحيدة للتقدم، لكن لا ينبغي تركها أيضاً. وأما السبيل الثانية فهي سبيل الإصلاح عن طريق التربية، التي ينبغي أن تتم على المستوى العميق جداً، لكي يتسنى للتربية أن تساعد على تطوير الأذهان. وأما السبيل الثالثة فهي سبيل إصلاح الحياة. وأما السبيل الرابعة فهي سبيل إصلاح فهي سبيل الإصلاح الأخلاقي بمعناه الحقيقي. وينبغي لنا أن نعي بأنه متى تحقق لنا تقدم حقيقي، فمعناه أنه قد صار بإمكاننا أن نعرف التحول. فإذا وجد مجتمع عالمي، فسيكون نتيجة لتحول، بأنه سيكون مجتمعاً من نوع جديد، لا إعادة إنتاج ضخمة لدولنا القطرية الحالية. ولاشك أن هذا الأمر بعيد عن الاحتمال، لكنني عشت حياتي كها أؤمل في ما هو بعيد عن الاحتمال، وقد كان مؤملي يجد له التحقق أحياناً. إن الأمل الذي نحمل هو المشعل الذي نرفعه في الليل؛ فليس هنالك من أضواء ساطعة، وما هنالك إلا مشاعل تصارع ظلمة الليل. تحدي العولمة نشهد عمى عميقاً عن طبيعة ما ينبغي أن يكون معرفة مكينة. فالقاعدة السائدة تقوم على اعتبار أن الدقة تزداد مع التخصص ومع التجريد. والحال أن حداً أدنى من المعرفة بما تكون المعرفة يعلمنا أن الأهم هو وضع (الأمر) ضمن سياق. فهذا كلود باستيين يسجل أن «التحول المعرفي لا يتجه نحو وضع معارف تزداد تجريداً، بل هو يتجه، على العكس، وضعها في سياق» وهو الأمر الذي يحدد شروط اندراجها وحدود صحتها. إن المعرفة المتخصصة تعتبر في حد ذاتها شكلاً خاصاً من التجريد. التخصص المجرد؛ أي أن تنتزع شيئاً من حقل من الحقول، وتضرب صفحاً عن روابطه وتعالقاته مع وسطه، وتدخله في قطاع تصوري مجرد هو قطاع العلم المجزإ، الذي تحطم حدوده بصورة اعتباطية النسقية (العلاقة التي تقوم بين الجزء والكل)، وتحطم تعددية الأبعاد في الظواهر، فهي يقود إلى التجريد الرياضي الذي يقيم هو نفسه فاصلاً مع الملموس، إذ يجعل الأفضلية لكل ما قابل للحساب وقابل للصورنة من جهة، ويجهل بالسياق اللازم لفهم أشيائه من جهة أخرى. ومن ثم فالاقتصاد، الذي يعتبر العلم الاجتماعي الأكثر تقدماً من الناحية الرياضية، هو العلم الأشد تخلفاً من الناحيتين الاجتماعية والإنسانية، لأنه تجرَّد من الشروط الاجتماعية والتاريخية والسياسية والنفسية والبيئية التي لاسبيل إلى فصلها عن الأنشطة الاقتصادية. ولذلك أصبح خبراؤه يزدادون مع الوقت عجزاً عن تأويل أسباب الاختلالات التي تعتور العملات والبورصات وتأويل عواقبها، ويزدادون عجزاً عن التكهن والتنبؤ بالمجرى الذي سيسير فيه الاقتصاد ولو على المدى القصير. وكما قال غيلبرايث، فإن «الوظيفة الوحيدة للتوقعات الاقتصادية هي أن تجعل الاقتصاد في صورة تدعو إلى الاحترام». حقاً إن المعرفة ينبغي أن تتوسل بالتجريد، ولكن إنما تفعل في سعيها إلى بناء نفسها بالاستناد إلى سياق، فينبغي لها، لأجل ذلك، أن تسخر كل ما يعرف العارف عن العالم. كتب فرونسوا ريكانتي : «إن فهم الملفوظات لا يكون بالاقتصار على استشفارها، بل باتباع سيرورة تأويلية غير معيارية، يتجند لها الذكاء العام وتعتمد أيما اعتماد على المعرفة بالعالم». ومعنى ذلك أن فهم المعطيات الخاصة لن يكون بالفهم الملائم إلا عند من يتعهد وينمي ذكاءه العام، ومن يجند معارفه الجامعة في كل حالة من الحالات الخاصة. قال مارسيل موس : «ينبغي أن نعيد تكوين كل شيء». ونضيف إلى ما قال : ينبغي تجنيد كل شيء. حقاً إن من غير الممكن معرفة كل شيء عن العالم، ولا الإحاطة بتحولاته متعددة الأشكال. لكن مهما بلغت المعرفة بمشكلات العالم الأساسية من ال والصعوبة، فينبغي السعي إلى معرفة الأخبار الأساسية التي تهم هذا العالم، وإلا وقعنا في الغباوة المعرفية. ولاسيما أن السياق، اليوم، لكل معرفة سياسية واقتصادية وإناسية وبيئية، إلخ. هو العالم نفسه. فالعهد الكوكبي يقتضي وضع كل شيء في السياق الكوكبي. وإن معرفة العالم بما هو عالم تبح ضرورة ثقافية وحيوية على حد سواء. وتلك هي المشكلة الكلية لكل مواطن : كيف يتأتى له الوصول إلى الأخبار التي تفيده عن العالم، وكيف تتحقق له إمكانية ربطها ببعضها وتنظيمها. لكن لكي يتأتى ربطها ببعضها وتنظيمها، ويتسنى، من ثم، التعرَّف عليها ومعرفة مشكلات العالم، ينبغي القيام بإصلاح للفكر. وهو إصلاح يقوم على تطور المعرفة ووضعها في سياقها، ويدعو، من تلقاء نفسه، إلى التركيب بين مكونات المعرفة.