ومولا مليانة هذا هو الشاعر إدريس الملياني، الذي ما إن تحركت الحافلة من أمام بوابة مركز طارق بن زياد بالرباط في اتجاه مهرجان الصحراء بتافيلالت، حتى فاجأنا ببطاقة التوقير والاحترام التي يحملها في جيبه، والتي سيتَعيّنُ علينا في حضرتها، أن نُجزل له العناية اللازمة لشخصه شاعرا وشريفا مخنترا، تجري في عروقه دماءُ الشعر الزكية و بعض المليغرمات من الكوليسترول التي اكتشفها مؤخرا. ما سيدفعنا، نحن أصدقاء الرحلة، إلى ممارسة ديكتاتورية غذائية على وجباته خلال أيام السفر. لحِقت، مولا مليانة، لعنة ُالشعر والشيوعية باكرا، فحملتاه قدماه إلى بلاد الرفيق فلاديمير إليتش لينين، لينهل من معين الشعر الروسي،الذي نجده حاضرا كخلفية شعرية باذخة، تغذي وعيه ومتخيله الشعري والفني و الجمالي. في الطريق إلى الرشيدية، نستحضرُ معا بعض القامات الشعرية الروسية الباسقة التي طبعتِ المتن الشعري الروسي: بوشكين،ليرمنتوف،سيمونوف،يفتيشنكو، ماياكوفسكي، الشاعر الذي خصَّه ومحطة ميترو النفق التي تحمل اسمه بموسكو، بقصيدة جميلة كتبها سنة 1988 ،مازال جمهور الشعر المغربي يطلب منه قراءتها في الأمسيات واللقاءات الشعرية : « عندما تُذكَرينْ أرى.. في محطة ميترو النفقْ ماياكوفسكي يُطلْ على عاشق واقفٍ ينتظرْ وفي يده باقةٌ من قرنفلْ والقطاراتُ تأتي وتمضي قطاراً وراء قطار ْْ تارةً عن يمين ْ تارة ًعن يسارْ ْ وهْو في زحمة العابرينْ واقفٌ بانتظارْ ْ » عبر الطريق السيار من الرباط إلى مكناس في اتجاه الرشيدية، نستدرجُ، مولا مليانة، إلى الحكي، فلا يكفُّ صاحبُ»زهرة الثلج» و»مغارة الريح»عن الكلام المباح وغير المباح . نظل مشدودين إلى رواياته ومروياته الكثيرة والممتعة . هوُ المقيم بين التجربتين الشعريتين الستينية و السبعينية، إلى أن يتيه السائق عن الطريق، لنجد أنفسنا قد أضعنا بوصلة الولوج إلى مدينة مكناس. وأننا على مشارف مدينة فاس. المدينة التي ولد بها الشاعر إدريس الملياني سنة 1945 وعبر كلية آدابها وظهر مهرازها انتسب،إلى اللاجيلية في الشعر المغربي . فقد ظل، مولا مليانة، خارج البنيات التي شكلت متننا الشعري المغربي من سقوط وانتظار و شهادة واستشهاد. لم يكن أمامنا من تفسير لهذه الواقعة سوى الميتافيزيقا، فها هو المولى إدريس، دفين مدينة فاس، جد إدريسنا الملياني، يأبى إلا أن يباركَ قافلة الشعر المتجهة صوب أرض الشرفا : تافيلالت. وها نحن نمر مجاورين لدوار إدريس الملياني «سيد الطيب»،على الطريق التي كان يسلكُها يوميا، من عين الشقف على دراجة هوائية في طريقه إلى السكويلة. طفولة ٌستتسلل إلى مجموعته الشعرية «مغارة الريح»،حيث العم بوزيان،عم الشاعر/الطفل الذي تاه عن أهله صغيرا، بعد أن حمله القطار خطأ إلى مدينة الدارالبيضاء. ليظل بها بعيدا عن أهله لمدة عشرين سنة ، قبل أن يعود إلى الدوار ويقرر أن يحمل معه ابن أخيه إدريس إلى المدينة/ المتاهة: « ... وحينما صحا من بعد عشرين عام عاد إلى سوق المدينة باحثا عن أهله و قد أتى بي معه صغيرا إلى متاهته ولا أزال مثله ضائعا أبحث عن طفولتي فيها ! » إنه نفس الطفل الذي يرافقنا الآن إلى الشعر، لا يلثغ سوى بكلمة «أرجوك حبيبي أرجوك...» فنقهقه جميعا ضاحكين من هذه البراءة التي تسكنُ جسد شاعر يقطر دمُه زبدة و جبنا و كوليسترول...آه عن الكوليسترول . لقد أفسد علينا هذا الملعونُ الرحلةَ، فارضا طقوسه وواجباته الصارمة على أكل مولا مليانة، الذي يبدو أنه يعشق الحياة ويتشبث بأهدابها . بين لحظة حضوره بمنظر شروق الشمس بين كثبان مرزوكة و حجّه إلى ضريح المولى علي الشريف بالريصاني، يستعجل إدريس الملياني المتعة و البهجة و يتغيا الاستفراد بهما ...بالمجهول والممتع والرائع. شكلنا مجموعتين شعريتين: مجموعة شعراء الفصحى، وتضم،إدريس الملياني، وداد بنموسى ونبيل منصر. ومجموعة شعراء الزجل، وتضم، أحمد لمسيح، نهاد بنعكيدا وأنا. وكان بيننا رهان: من يكون الأكثر تألقا... الفصيح أم الزجل... في هذه الرحلة الشعرية والثقافية التي شهدتها ضفافُ واد زيز و باحة عين مسكي. قرأ،مولا مليانة، قصيدته الجميلة، في مدح مدينة ميدلت «تفاحة الأطلس». وهي قصيدة ٌسبق لمسؤولي مركز طارق بن زياد أن كتبوها على لوحة رخامية ووضعوها على مدخل المركز. وقد حرص الشاعر إدريس الملياني، وحرصنا معه، على زيارة المركز لمشاهدة اللوحة. غير أن البناية التي كان يشغلُها المركزُ سابقا صارت مقرا للعمالة الوليدة، وتم نقل جميع المقتنيات الخاصة بفرع ميدلت،ومن بينها الرخامة،إلى مدينة الرشيدية. في زيارتنا إلى مركز طارق بن زياد بالرشيدية، سألنا على اللوحة/ القصيدة ... ولم نعثر عليها، وقيل لنا أنها مازالت ملفوفة بأحد الصناديق، تنتظر من يستخرجها ليعيد لها الحياة والشعر من جديد. قرأنا جميعا بعضا من قصائدنا ومن ذواتنا خلال أمسية شعرية جميلة، امتزجتْ فيها الموسيقى بالرقصات وبالشعر. لم يكن هناك من منتصر ولا من منهزم . وحده الشعر المغربي بمختلف تعابيره و تلاوينه ( عربي،عامي ،أمازيغي) كان حاضرا ومتسلطنا، مؤكدا انفتاحه وإيمانه بأن الشعر قادر على المجيء من مختلف التعابير اللغوية المنتصرة للغة وللرؤية الشعرية في لحظة تعالقها مع لغة الحلم والجمال . نعود أدراجنا على إيقاع مباراة أخرى، كروية هذه المرة. إنها المباراةُ النهائية التي جمعت بقر هولاندا مع ثيران إسبانيا، أستعير هاتين التسميتين نكاية في مولا مليانة، وقضية الكوليسترول التي دوخ أدمغتنا بها طيلة الرحلة، فقد كان يجد، لكل موضوع نثيرُه، علاقة بالكوليسترول: خبيثه وطيبه. حتى أنه مرة صاح فينا بعد أن تعب من طول الطريق الرابطة بين مدينتي الرباط وأرفود: - الرفاق، شفتْ هاد الطريق تتزاد بحالْ الكُوليسترول. نستعجل السائق»باسو»في الوصول إلى الرباط ،علّنا ندرك الشوط الثاني من المباراة. والظاهر أننا جميعا كنا نشجع الثيران الإسبان و نطمح أن نراهم متوجين بالكأس العالمية لأول مرة في تاريخهم الكروي .فإسبانيا جارة لنا . نفرح لفرحها ونحزن لحزنها. أودِّع وعائشة مولا مليانة، الشاعر الذي أحب حارس مرمى وترجم له سيرته الذاتية»العمق الرمادي» وبعض القصائد الشعرية. أعني الشاعر الروسي الكبير يفغيني يفتيشينكو الذي سبق له أن حل ضيفا على اتحاد كتاب المغرب موسم 1987/1988 :» كان يفتوشينكو مدمناً في مراهقته على لعب كرة القدم، في الليل يكتب الشعر وفي النهار يلعب الكرة في الساحات العمومية والأرض الخلاء. يعود إلى البيت بسروال ممزق وركبتين داميتين. كان يبدو له صوت الكرة أشد النغمات الموسيقية سحراً، يشعر أن هناك قاسماً مشتركاً بين كرة القدم والشعر». لم يكن شغف إدريس الملياني بيفتيشينكو سوى لأنه يذكره بسلفه ماياكوفسكي وبالمحارق التي جمعتهما معا: محرقة الوطن، ومحرقة الشعر ومحرقة الحب. على إيقاع الكرة والشعر وما ويوحد بينهما: ارتفاع الضغط وزيادة الكوليسترول، أودّع مولا مليانة. متصيدا الدروب المفضية إلى بيتي بسلا، متمتما ب»بملء الصوت» بحب إدريس الملياني. سلا في 12 يوليوز 2010