في الرابع من هذا الشهر (يونيو) ، مر علينا أخونا محمد باهي صامتا، في ذكرى وفاته الرابعة عشرة. وعلينا أن نعترف أننا لم ننتبه لهذه الذكرى كما اعتدنا ذلك، وكما كان ينبغي أن نفعل وفاءا للرجل، وللقيم التي جسدها في حياته كقلم صحفي بارز وكمناضل تقدمي عربي كبير. ولعلها المصادفة الحزينة، تلك التي جعلت إخوان ورفاق وأصدقاء باهي يغفلون عن الذكرى هذه السنة، فقد فوجئنا جميعا بفقدان فادح آخر، إنه رحيل المفكر محمد عابد الجابري الذي كان أقرب الأصدقاء إلى نفس باهي مثلما كان باهي أقرب إلى نفسه. في العمق، لم نبتعد عن باهي وذكراه حين انشغلنا باسترجاع المسار الفكري والثقافي والإعلامي والنضالي للفقيد الكبير محمد عابد الجابري. ولعل تلك الصورة الجميلة الغنية بالدلالات التي جمعت الرجلين أيام كانا معا صحافيين بجريدة «العلم» توضح عمق هذه العلاقة. صورة بالأبيض والأسود، وبلباس أنيق وفق موضة مغرب بدايات الاستقلال، روح شابة تبدو على وجهيهما، وذكاء تكاد تنطق به الملاح والنظرتان. شابان رائعان وصلا إلى الرباط قادمين من هوامش جغرافية بعيدة عن العاصمة : الباهي القادم من شنقيط ثم من العمق الصحراوي الجنوبي حيث عاشر كتائب جيش التحرير المغربي قبل أن تنهي معركة «إيكوفيون» الاستعمارية، زحف هذا الجيش البطل وتطفئ حماسه الوطني، والعابد القادم من تخوم صحراء المغرب الشرقية حيث ولد في واحة فيكيك على الحدود المغربية الجزائرية كما نعرف. الباهي، جاء به الزعيم علال الفاسي إلى جريدة «العلم»، والعابد،جاء به إلى نفس الجريدة الزعيم المهدي بنبركة. والشابان معا أبانا عن ذكاء فكري وأدبي، وعن قدرة على الترجمة من الفرنسية إلى العربية أساسا مما كان يحتاجه العمل الإعلامي آنذاك. كما التزما مبكرا في صفوف شبيبة الحركة الوطنية، وفي صفوف حزب الاستقلال خصوصا. وقادتهما التجربة المشتركة بجانب الشهيد المهدي بنبركة والمجاهد عبد الرحمان اليوسفي والمرحوم الفقيه البصري وآخرين، إلى أن يكونا في قلب الانتفاضة التنظيمية والسياسية والفكرية والإعلامية التي تولد عنها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بكل عنفوانه وحيوية خطابه المشتعل، في أفق سيقود الرجلين معا إلى ميلاد هذه الحركة من جديد مع بروز الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. والحق أنني عرفت محمد عابد الجابري من بعيد، كمتابع وكقارئ ملتزم في خطه الفكري. ولا أنس تلك اللحظة التي اقتربت منه جدا عندما استجاب للدعوة التي وجهناها إليه في إطار الأنشطة الثقافية والفكرية لدار المغرب في باريس. وفي أول أسبوع ثقافي لمجلس القاطنين في أبريل من سنة 1986،استجاب الجابري رحمه الله لدعوتنا وكانت الفرصة سانحة لأتعرف على المفكر والمناضل والإنسان عن كتب، وكان يغمرني فرح خاص كونه استجاب لدعوة مجلس القاطنين الذي كنت أتشرف آنذاك برئاسته. ولعل مسؤوليتي تلك، ووحدة الإطار السياسي، هو ما جعله ينفتح علي ويحدثني مطولا حول المغرب، وحول الحزب وحول أهمية الانفتاح على كل المكونات الأخرى بما فيها المكون الإسلامي الذي من الخطأ إقصاؤه،وغير ذلك من القضايا والأفكار. أما السنوات التي قضيتها في باريس كطالب مغربي مهاجر، وبالأخص كطالب التزم تنظيميا وسياسيا في إطار الاتحاد الاشتراكي،فقد أتاحت لي-بدون شك-فرصا متعددة لا فقط للتعرف على المرحوم محمد باهي بل لمرافقته والاقتراب من شخصه ونضاله وحياته اليومية،التي كانت تطبعها روح البداوة والمزاج الصحراوي الذي كان يميزه. وأكاد أقول أنني صرت كأحد أفراد عائلته الصغيرة، أو على الأقل أصبحت أحس بكونه أحد أفراد عائلتي. وهو نفس الشعور الذي ملأني طوال سنوات الحياة الطلابية والحزبية في فرنسا في علاقتي الأخوية والنضالية والإنسانية مع إخوة أعزاء آخرين وفي مقدمتهم المناضل عباس بودرقة، والمناضل مولاي حفيظ أمازيغ والمناضل إبراهيم أوشلح. ولعلها ليست مصادفة أن هؤلاء الإخوة مع مجموعة من الأوفياء بادروا، حين غادرنا الباهي إلى دار البقاء، إلى تأسيس «حلقة أصدقاء محمد باهي»، وهي جمعية للوفاء ظلت تنظم كل سنة لقاء حول باهي، مساره ونضاله، وحول القيم التي ظل يكرس حياته من أجل خدمتها وترسيخها. كما انتقلت ببعض الندوات الهامة حول باهي وأفقه النضالي الوطني والديمقراطي من باريس إلى المغرب، فنظمت ندوة حول «باهي وقضية الصحراء المغربية» بمدينة مراكش في يونيو 2004 بتعاون مع اتحاد كتاب المغرب ومكتبه المركزي ورئيسه السابق الأخ حسن نجمي، وندوة أخرى بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيله في موضوع «الحداثة وتحرير الإنسان» بمدينة مكناس سنة 2006 وبتعاون مع مركز طارق بن زياد ورئيسه الأستاذ حسن أوريد. أريد أن أقول بكل وضوح بأن علينا، على الاتحاد الاشتراكي - حزبا وإعلاما - أولا، وبالتالي على المغرب الإعلامي والسياسي الوطني التقدمي،مواصلة استحضار إسم محمد باهي حرمة. يحتاج هذا الإسم وما يمثله من قيم نضالية وإنسانية إلى أن نجدد حضوره بيننا باستمرار،خصوصا حين نذكر مكانته كأحد كبار المواطنين المغاربيين، أو إن شئنا كأحد «آخر العرب»، كما وصفه الصحافي حميد برادة،