حدثنا حنضلة بن حجر قال: في اليوم الأول. بينما نحن وقوف على هضبة عالية إذ هبط علينا رجل ربعة القوام. عريض المنكبين ذو لحية كثة . شديد سواد الثياب يشبه دراكولا تتبعناه بأعيننا فمر ولم يقف. قلنا .. لعله في شغل من أمره. في اليوم الثاني. كنا واقفين على الرصيف فوقف. اجتمع حوله أهل الدرب بنساءهم وشيوخهم وأطفالهم وكهولهم وشبابهم. تحلقنا حوله كذباب المزابل. جلس وفتح كتابا ضخما وبيدين ضخمتين .. أشار إلى السماء وقال: من هناك أحمل إليكم رغيفا وعنبا لأن السماء لا تمطر ذهبا بل رغيفا. تقدمت إليه إحدى النساء المجلببات وسألته: هات حدثنا عن سيدنا قدر.قال: -لا قدر هناك إلا الذي صنعتموه. ولا تترقبوا السماء طويلا. انصرفت غاضبة وعلى وجهها علامة الاستغراب. صاح شيخ عجوز من وراء الحلقة. ماذا تقول عن الرزق؟ -الرزق يأتي بعرق الجبين والأنين والطنين وانحناء الظهر والقيام في الفجر وهلم جرا... انبرت فتاة رشيقة القوام تمشي بدلال وغنج وجلست وسط الحلقة فبانت سيقانها للناظرين وقالت: - هات حدثنا على الغناء؟ -باختصار الغناء الجيد هو الذي يحرك فيك الجزء الأعلى من جسدك والغناء الهابط هو الذي يحرك فيك الجزء السفلي . ضحكت الفتاة حتى استلقت على ظهرها. فضحك الناس وتحرك الجزء السفلي من بعضهم . تقدمت فتاة أخرى كاسية الجسد لا يرى منها إلا الوجه واليدان. وصاحت في الشيخ: - ما هذا الهراء الذي تحدث به الناس؟ التفت إليها رجل من المتحلقين صائحا بدوره: - لعن الله امرأة ترفع صوتها فوق صوت الرجال. ضحكت العاريات وتشنجت أعصاب الكاسيات وتبادلن النظرات القاسيات وكدن يقلبنها اشتباكا بالأيدي لولا تدخل العقلاء. الشيخ صامت بوقار يتأمل الكتاب الضخم الذي بين يديه. الناس صامتة. الأطفال كسروا هذا الصمت الرتيب بضجيجهم وازدحامهم حول الحلقة. نهرهم الكبار فلم ينصرفوا فزمجر أحد الشيوخ: « لعنة الله عليكم يا جيل هذا الزمان» ، ونفث آخر نفس من كازا فتطاير الدخان راسما ضبابا تلاشى مع أول نسمة. تقدم شاب في مقتبل العمر يرتدي نظارتين، يبدو عليه الوقار وقال: - هل تأذن يا سيدي أن نتحدث عن الشعر والشعراء وهل يتبعهم الغاوون؟ ضحك الشيخ وقال: -الكتابة هوس وجنون لأن المبدع عليه أن يعصر اللغة وينحث من روحها تمثالا خالدا في شكل من الأشكال جنون ! لأن صاحبها يدخل في متاهات الذات ليعانق الذوات الأخرى. ولا يقدر على ذلك إلا من له عقل مخبول. الكتابة ليست لهوا ولا عبث أطفال يلعبون بالأقلام الملونة وليست كرسيا فارها ومكتبا ضخما يجلس وراءه الكاتب ليخط سطوره. الكتابة التي تعبق رائحتها بعطور الكولونيا تزول رائحتها مع ريح الصباح. الكتابة الحقة هي التي تخرج من الأحراش والأكواخ من صهد النار في الأفران من عرق الحمالين في الأسواق من بيوت تأكل الرطوبة ساكنيها، من أفواه تغمس الخبز في الماء، من خيام منصوبة في الظلام حيث لا ماء ولا شجر. الكتابة الحقة هي التي تقض مضاجع المتخومين، هي الحجر المرمي في أرض سليبة. هي الصوت المدوي في أذان صماء.. هي نقطة ماء تتشكل ينبوعا صافيا يتحول طوفانا. هنا تراجع الشاب ذو النظارتين إلى الوراء وهمهم كلمات غير مسموعة. دوى صوت كالرعد من أقصى الحلقة سائلا: - ماذا تقول في اللغة يا هذا؟ إني أراك ترتكب أخطاء قاتلة. لابد أنك لا تعرف شيئا. هات حدثنا عن المبتدأ والخبر؟ ابتسم الشيخ نصف ابتسامة وقال: -المبتدأ يكون في أول الكلام والخبر يأتي بعده، لكن هذا ما علمونا وسكتوا عن الواسطة بينهما. فانبرى الصوت الرعدي ثانية: وأي واسطة تجمع بينهما؟ صاحب القاعدة ذكر المبتدأ والخبر وأخفى المخبر فالكلام كيفما كان لابد فيه من مبتدأ وخبر ومخبر ينقله. - وأين يوجد المخبر؟ -أينما تولوا وجوهكم . -لم أفهم ! -لا أستطيع أن أفهمك أكثر مما تفهم. زمجر الصوت الرعدي: لا بد أن أفهم وإلا كسرت قفاك. - ماذا تريد أن تفهم؟ - أريد أن أعرف كل شيء عنك، قف مستقيما. اسمك.. نسبك.. تاريخ ولادتك.. مسكنك.. بطاقتك. الشيخ صامت ونحن ننظر بدهشة إلى هذا الفض الغليظ ثم انفضضنا من حوله. في اليوم الثالث: لم يظهر الشيخ. في اليوم الرابع: قرأنا عنه في الجرائد. في اليوم الخامس: لم تكتب عنه الجرائد. في اليوم السادس: صورته بدون تعليق. في اليوم السابع: ظهرت صورته بالألوان. في اليوم الثامن: رأينا صورة مادونا تقبل الفراغ. في اليوم التاسع: صورة مارادونا يتابع إحدى المباريات. في اليوم العاشر: مات. نهض حنظلة. والتفت إلينا متسائلا: - هل قرأتم نعيه في قصاصات الأخبار؟ قلنا بصوت متشتت: نعم. قال: وهل بكيتموه؟ قلنا بصوت واحد: نعم. قال: اذهبوا فأنتم الجبناء.