شكلت المسرحية الموسيقية «كليوباترا، آخر ملكات مصر» الحدث الفني، بامتياز وبكل المعايير، في فرنسا خلال السنة الماضية. 29 يناير 2009. قصر الرياضات في باريس يحتضن العرض العمومي الأول للعمل الذي كلف إنتاجه تسعة ملايين أورو. النجاح باهر، لكنه لم يفاجئ أحدا، إذ، وأسابيع قبل هذه الأمسية الباريسية، كانت 150 ألف بطاقة لحضور العرض قد نفذت؟ الفرجة، التي جالت باقي المدن الفرنسية وولجت مسارح بروكسيل وجنيف ومونريال، بعثت، بالتشخيص والرقص والغناء، الأيقونة كليوباترا، المرأة التي تجسد في ذات الوقت، بالنسبة للمتخيل الإنساني برمته، الإغواء، السلطة والوجد، بالإضافة لأقصى درجات المأساة. كمال الوالي، مخرج المسرحيات الموسيقية ومصمم الرقصات، الأستاذ بأكاديمية الرقص بباريس، لم يقامر في اختياراته كي يضمن نجاح «كليوباترا» فنيا وجماهيريا. وكان من بين الرهانات المتعددة المفروض على الفنان، ذي الأصول الجزائرية، الحسم فيها حتى لا تتسلل إلى عمله أدنى ثغرة، سؤال أجبره على الأرق قبل عرض المسرحية بسنتين تقريبا: إلى من يؤول دور الملكة؟ من الفنانة المتعددة المواهب والفاتنة التي تستطيع تجسيد عبق الشرق التقليدي، منظورية ومهنيا، وأن تضفي، بالفعل وليس بالتمويه، صورة عصرية على حاكمة مصر ؟ من ستستطيع، فوق الخشبة ذات الديكورات المستقاة من الأزمنة العتيقة والمازجة بين البذخ والفخامة، امتلاك قدرات التماهي مع سيدة مصر الفراعنة، وتجسيدها، في ذات الآن، على أساس كونها إحدى نساء اليوم؟ انتقى كمال الوالي لهذا الدور المركب الفنانة المغربية الشابة المقيمة على ضفاف نهر «لا سين»، صوفيا السعيدي، ولم يخطئ الاختيار. لنتذكر بنت الدارالبيضاء، التي جاءت الحياة قبل أربعة وعشرين ربيعا، لتعم البهجة بيت الوالد المغربي، الطيار في الخطوط الملكية، والأم الفرنسية. لنتذكرها يوم أطل علينا صوتها العذب، نحن المغاربة (من يقيم منا خارج الحدود ومن يقطن في جغرافيتها)، من شرفة النسخة الثالثة من «ستار أكاديمي» على شاشة القناة الفرنسية الخاصة «تي. إيف. 1»، سنة 2003. حينها، شاركنا بعفوية في الاستفتاء من أجلها، لترتقي إلى دور نصف نهاية المسابقة. لنعد بعقارب الذاكرة كذلك إلى الاستقبال التلقائي الكبير الذي حظيت به حين زيارتها لوطنها الأول عقب تعبيد برنامج تلفزيون الواقع طريق النجومية لها. قبل الأضواء هذه، شدت الطالبة الرحال إلى باريس، عاصمة الفن عالميا رغم منافسة نيويورك الشرسة لها، من أجل متابعة دراستها في شعبة الاقتصاد، ف «مراهقة ليسي ليوطي المتمردة بقدر ما هي جميلة» لا تريد صحبة الرياضيات والفيزياء والكيمياء، ولا مقاعد المعاهد العلمية العليا المشرعة لأبواب المستقبل المهني لطلبة المغرب النجباء، مثلما ظلت تطالبها بذلك الأسرة. هي تفضل الكلية لما توفره لها من وقت فراغ لتهيئ اجتياز اختبارات الانتقاء الفنية « الكاستينغ»، لأنها تبتغي «تركيز كل الجهد من أجل الموسيقى». أجل، كيف لها الانخراط في قارة أخرى غير قارة الفن وقد أصابتها لعنته اللاتقاوم منذ الصغر؟ طفلة، كانت صوفيا ترقص وتغني بدون انقطاع، مما دفع الوالدة إلى تسجيلها في دروس الرقص الكلاسيكي والعصري في ربيعها السادس، ثم في معهد موسيقي، وبعدها في أحد المعاهد الخاصة لتحسين قدراتها الصوتية. ومع ذلك، سيمنعها خجلها الجلي من الشدو أمام الجمهور إلى حدود بلوغ السادسة عشر من العمر. وهي تطرق باب عامها العشرين، أصرت على تحقيق الحلم الساكن دواخلها مثل قدر لا بديل عنه: غزو باريس فنيا. هكذا، ولأن حياتها تنتمي لمجرة مغايرة للمقاعد الدراسية الجامعية، سترسل ذات ليلة شريط فيديو للمكلفين بانتقاء المشاركين في «ستار أكاديمي». رسمت «أميرة كازا» المسافة اللازمة مع بريق النجاح التلفزيوني العابر والتزمت بحدودها، ولم تقع ضحية التباهي السريع بالذات، فأدمنت على العمل والتكوين الفنيين، على ترديد الألحان أينما حلت وارتحلت، في البيت والسيارة والمصعد والأروقة التجارية، واضعة نصب عينيها هدف بلوغ درجة سحر الجمهور، ليس عبر نبرات صوتها الآسرة فحسب، بل بواسطة حركات جسدها الراقصة ببراعة، فهي تريد « الغناء والرقص والتمثيل في الآن ذاته». وبعد ألبومها الغنائي الأول «كاباري»، عادت خريجة تلفزة الواقع، الفائزة بجائزة «خميسة» سنة 2004، إلى صفتها ك «جوهرة» للمخرج ومصمم الرقصات، كمال الوالي، الذي رافقها فنيا طوال سنة ونصف في إطار «ستار أكاديمي»، قبل أن يلقي على عاتقها وزر الدور الأول في «كليوباترا، آخر ملكات مصر». عبر الجسد الراقص المضبوط ب «كوريغرافيا» أصيلة في رحم ديكور باذخ وفخم، والصوت الصادح وكأنه منبعث من ثنايا الأهرام، والتشخيص القوي، أعادت بنت «كازا» الحياة لامرأة متعددة الوجوه، استطاعت الهيمنة على قلوب الرجال ونفوسهم، موظفة في ذلك جمالها وطبائعها، امرأة برزت في العرض، رغم انتمائها لتاريخ غابر، عصرية ومعاصرة حتى النخاع. وحضر هذا الانتماء للعصر كذلك في أغنية «فام دوجوردوي» المغناة من طرف صوفيا السعيدي. وقبل خشبة أب الفنون، اختارتها، أو بالضبط «انتقتها» المخرجة السينمائية الجزائرية الأصل، يامينة بنكيكي لأداء دور البطولة في شريطها التلفزيوني «عائشة»، رغم أن سليلة الدارالبيضاء تقدمت ل «كاستينغ» دور ثانوي فقط. الفيلم حصد إحدى جوائز مهرجان لاروشيل 2008، مثلما أثنى النقاد على طاقات صوفيا التشخيصية فيه. صوفيا السعيدي تتقن العربية والفرنسية، وتتحدث الإسبانية والإنجليزية، وتقول، بهذه اللغات كلها، وبلغة الجسد وشذى الصوت، إنها قادمة من المغرب ل «فتح» قارة الفن الغربي العصية.