تشكل مدينة معسكر،بحكم مورفولوجيتها الطبيعية والبشرية، حصنا جبليا منيعا،في الشمال الغربي للمغرب الأوسط، وقلعة منيعة لرد المغيرين والغرباء على أعقابهم سواء أتوا في صفة أقرباء(آل عثمان) أم في صفة قوم يجمعنا وإياهم الجوار والتاريخ المشترك(الإسبان) أم في صفة ثقافة لا زلنا نقرأ لكتابها وفلاسفتها، ونستلهم ثوراتها، ونستلذ بعصر أنوارها، ونميل إلى بروز حقوق الإنسان فيها قبل أن تنقض بكل بأسها على حقوق الغير والتحكم فيها نفسا وترابا (الفرنجة). في هذه المنطقة من جغرافية المغرب الأوسط، كان الأمير عبد القادر الجزائري يختلف إلى الجبال ويركن إلى السهول لحشد أكبر قوة بشرية ممكنة من الأنصار. ويمعن البصر في ترتيب الصفوف وتشييد عظم الرحل.ويعمل بتفان وبكل ما أوتي من رباطة جأش على بث جذوة المقاومة وشحذ أداتها.وعلى نشر قيم العقيدة السمحة بين خلانه الأوفياء، قيم لا تنفصل عن تحصين الذات وحماية بيضة الوطن في الفرج والشدة. ولتحقيق هذا القصد الأسمى، سخا به أبوه، محيي الدين، ودفع به للقيام بهذه المهمة النبيلة والمعقدة بدلا عنه.وهو الشاب الذي لم يعمر سنه عتيا. لكن الاستعداد البدني والنفسي، والذهني والثقافي، والجبلة والآداب التي أبان عنها، بكل كفاية وبعد نظر، جعلته يكبر في عيون علية القوم ومشايخها وسوادها الأعظم. ويتقدم خطوة إلى الأمام لاجتياز هذا الاختبار الصعب في بداية مشوار حياته، والذي يتطلب أهلية شاملة بغية توفية أمرين: فصل الخصوم ومداومة الركوب. لم تكن البيعة ،في هذا السياق، إلا شكلا تعاقديا رمزيا، يقبل به زعماء القبائل والعلماء، والأفراد والجماعات، ويباشروا العمل به، فكرا وممارسة، بإضفاء جزاء الشرعية على القائد المصطفى، وتحيين فقرات البرنامج العملي، بغض الطرف عن جاذبية الإكراهات المادية، وضرورات الشرائط القاهرة. وما تسلسل هذه البيعة ، وتعدد صورها، في الزمان والمكان،إلا التعبير الحي عن ترسيخ بنود هذا العقد الاجتماعي وترجمة أفق رمزيته وتجذير بعده القدسي في الواقع الملموس للناس. فشجرة الدردارة وبيعتها(1832) تمثل شاهدا طبيعيا لمدلول رمزي ثقافي سجل في دفتر سهل غريس الترابي؛ ولايزال التاريخ يحتفظ في مظانه وفي جوف أرضه بسمات هذه الإحالة الدلالية التي لم تقدر اختراقات الحاضر على تحوير شكول علاماتها وتبديل معانيها.وبيعة المسجد الثانية(1833)، التي تلتها، تمثل برهانا ثقافيا في لبوس ديني أضفى عليه الفضاء حجة التأثير الحضري داخل بنية كلية شاملة لمطلوبات العقد الاستراتيجية.فالجمع بين البادية والمدينة، والجبل والسهل، والخاصة والعامة، والطبيعي والثقافي، والخلاء والمغلق، والمطلق والمقيد،،من الدلالات المستوفاة لتعيين مرجع القائد ورقعة نشاطه والمحمولات التي عليه أن يتحلى بها لاستمداد صفات الهبة والهيمنة والغلبة والسلطان والملك والعصبية؛ وبالتالي كفاءة إدراك الكليات وشرعية التحكم في الأشياء والذوات، لدمغ برهان القيادة بطابع اتحاد السلطتين: الدينية والدنيوية.» فولا السائس ضاع المسوس،ولولا قوة الراعي لهلكت الرعية»(الجاحظ).يتبين هذا، من ترجمة مفهوم هذه السلطة إلى واقع عيني يتجسد في تكوين الحكومة وإنشاء القيادة والمحكمة والمسجد؛ والمؤسسات الأخرى التي تضمن سير المجتمع وإقرار شرعنة الدولة وإواليتها قيد التأسيس.دولة دالت حينا من الدهر ، وانتهت باعتبار غوائله وعوائد العصر. إذا كنا نستشف من سيرة الأمير عبد القادر انتسابه إلى إحدى الزوايا،وانعطافه إلى طريقة من طرقها، كما تقتضيه تقاليد ذلك العهد، فإن مدينة معسكر، التي لاتبعد عن مدينة وهران إلا بنحو تسعين كلم أو أقل، تبدو للزائر مدينة الزوايا والأولياء والصالحين والمرابطين بامتياز.بل يجوز تسميتها على سبيل الحكاية: مدينة الأولياء. وإذا ألحقنا بها محيطها: أرض الصلحاء. لكثرة أعلامهم. ووفرة أضرحتهم. وسمو قببهم. وتعاور الأمكنة والمجلات التي حلوا فيها وشهدت وجودهم والنطق بشهادة دعواهم: سيدي محمد بوجلال، سيدي الموفق، سيدي عبد القادر، سيدي بوسكرين (أبو زكرياء) وزاويته، سيدي بوراس الناصري صاحب قبة المذاهب الأربعة الممثلة للملة، سيدي محمد الشريف، سيدي الشارف، سيدي علي بنعمر، الزاوية التيجنية الخ. وتطول القائمة وتتشعب بتشعب مسالك شعبهم، ومتون كراماتهم، وجداول مناقبهم. وحضورهم لطفا وغيابهم عطفا بين الحياة والمماة. فلا يعدم شعب، ولاحي، ولادرب، ولازقاق، من بيان نصبتهم ورفرفة راياتهم. في كل طلعة أو منحدر، في كل منعرج أو منبسط، يلقاك مبنى إشارتهم وحروف كتابتهم. لاتقدم رجلا وتؤخر أخرى إلا بتخطي تكة مرابط أو حلقة زاوية. لايتجرد جبل، ولا تمعر أرض من سكن إقامتهم.الأرض تحفل بهم وتمور، كما تحفل بالنبات والغرس والمعادن وأشجار الكروم واللوز والزيتون. يتذوق الطالب الوارد فاكهة الروحانيات، ويستنشق بخور المتعبدات القانتات، ويعلل النفس بماء الموائد في الغسق والعشي. لا ينشط عقل، في هذه الأصقاع، ويتغنى قلب ، ويهتز جسد، إلا في هوى حضرتهم. دائبو الحضور في الوعي واللاشعور. يتصفون بالقدرة العرفانية، والاستطاعة الجفرية والفلكية الخارقة، على اجتلاب الشفاء، وصد الداء، واستحضار الدواء، وقضاء حاجة المريد إذا نوى وطلب التسليم وإن استحالت. دون نسيان الوفاء بالنذور وكرم الذبيحة والاستخارة كما جرت العادة. يقيدون الزمان والمكان، والجنس والعرض، ويرخونه، كالحبل، متى شاءوا. يطوون الفيافي والقفار والمسافات طيا. متى طلبتهم تجدهم قبل أن يرتد إليك طرفك. لا يأبهون بسلطان الدهر وهم الدهر، و لايهابون سلطان البشر وهم بشر. يحيون فوق الطبيعة وتحتها.يدمرون الصخر ويفتتون الحجر.بعزيمتهم يطلع البذر ويورق الشجر أفنانا. يتخللون الموج ويغتسلون بزبد البحر. أحوالهم أشكال وألوان.يؤولون الحلم ويعبرون الوهم ويقبضون سراب العيان. يسيرون في البسيطة بمقتضى سنن سري لا يفك نظامه إلا الراسخون في العلم من الإنس والجن. لا يؤمنون بتاتا بالحدود الفاصلة بين الثنايا.كل شيء متصل في حد تعريف لوحهم وناموس عرفهم. يسع علمهم وحركة جرمهم الكون كله. جلة منهم كان المغرب الأقصى لها مجازا وموئلا. نفر شد المطي إلى الشرق وعرج لأداء الفرض فكان الردى من نصيبه. دفن في صحرائه ورياضه. شبيه حالهم هذا، حال عبد القادر الجزائري المذكور أعلاه، وعبد الكريم الخطابي أمير أجدير، والشيخ ابن عربي متصوف الأندلس. شيوخ دفنوا في أوطان غير أوطانهم. تثبيتا لقوله تعالى: « وما تدري نفس بأي أرض تموت». وجدير بالإشارة وتحرير العبارة، أن نقول إن بين الأول والثاني توجد أكثر من آصرة. في الدم والقرابة. في الطبيعة والثقافة. في الطبع والمزاج. في الأس والنص.فليعتبر أولو الألباب قبل مصرع الأبواب.فبالتغابن والبوار تنطمس الآثار وتدرس الديار