إنه قدر نصنعه ونتصور أنه يصنعنا. نكرره ونقول إنه يكررنا. نكتبه بطفولتنا ونحن نلهو وحين نكبر يلهو بنا. فكرت هكذا اليوم، مرة أخرى، وبإلحاح شديد، وأنا مع زبيدة نعبر مدينة ليون عبر مترو الأنفاق الكهربائي. اعتقدت بعد هذا الزمن الطويل من الغياب بيننا ، أن زبيدة تغيرت، لكني فوجئت وقد جاءت لزيارتي من إسبانيا، بأنها مازالت زبيدة ذاتها كما عرفتها منذ زمن بعيد. فتاة تجعلني أحس بخواء رهيب. أراها تدور حول جرح غائر ومجهول من طفولة متخفية. جرح يصرخ فيها . بقدر ما تتجاهله ...يكبر... ويزداد زحفا ... إلى أن يسد منافذ القلب كلها, وبقدر ما يختنق قلبها... تتكلم... لتتنفس... تتكلم... تتكلم ... ولا تتوقف. كانت تزورني في منزلنا، فتضع لي أمي مع صينية الشاي حبات أسبرين.أتناول منها حبة ثم أخرى, أضع وسادة خلف ظهري، أستند إلى جدار، واستمع إليها تتحدث... تتحدث و لا تتوقف. تنتقل من موضوع لأخر دون رابط... وهكذا...إلى أن أفقد قدرتي على المتابعة. وأرحل بدوري إلى عوالم أخرى... أحن لأشخاص ... وأتخاصم مع أشخاص... أتذكر كتبا وأشعارا وأماكن دافئة ...أكتب رسائل وقصصا جديدة، وهي مازالت تتكلم . أفتح عيني... فلا أرى سوى شفاه تتحرك... وأيد تصعد وتنزل في حركات دائرية...تلعن كل شئ, الزمن والوحدة والناس، الموت والفراق واللقاء، إلى أن تتعب من الكلام، وتعود إلى شقتها حيث تسكن وحيدة. هذه المرة لم أشتر حبات أسبرين ، فزبيدة تغيرت. لم تعد وحيدة , هاجرت إلى إسبانيا، تزوجت من شاب تركي, وأنجبت منه طفلا جميلا .أخبرتني بحياتها الجديدة، ونحن نتجول في المدينة القديمة, قبل أن نصعد إلى مترو الأنفاق باتجاه أحياء أخرى، وما أن جلسنا حتى عادت إلى سابق عهدها... تتكلم دون انقطاع. المترو الكهربائي يمشي وحده من دون سائق, برمج لكي يتوقف دقيقة عند كل محطة, حيث يصل صوت نسائي جميل يشعر باسم المحطة، مررنا بمحطات... ومحطات...وزبيدة تتكلم... إلى أن وصلنا إلى نهاية الرحلة، واضطررنا أن نعود مع الرحلة الجديدة. و كلما أردت أن أوقفها تقاطعني: « انتظري قليلا لم أكمل لك بعد». انتبهت إلى سيدة نائمة في المقعد المجاور، واستفسرتها عن المحطة التي تريد أن تنزل فيها. سألتني و هي شبه نائمة:» وأنتم؟ « «نحن تجاوزنا محطتنا, وسنعود مع الرحلة الجديدة»، هكذا أجبتها. عادت المرأة للنوم وهي تردد:» أيقظوني في المحطة التي تنزلون فيها» أما زبيدة فقد كانت في قمة المتعة, ولم تتوقف عن الترديد بصخب الأطفال: « هذا مترو يشبهني... إنه مترو عجيب لم أر له مثيلا، كيف يمكن أن يمشي دون سائق ؟« لم أرد على سؤالها، كنت أحاول إقناعها بالنزول, وأنا اردد بين الفينة والأخرى: ». إننا ندور حول أنفسنا». يبدو أن الفكرة أعجبتها كثيرا، فالتفتت ضاحكة ، تنظر إلى المرأة المستسلمة للنوم وتقول: «يبدو أنها مثلي تدور حول نفسها دون أن تدري لا تدرك زبيدة، أننا يمكن أن نقضي حياة بكاملها ندور حول أنفسنا إن لم ننتبه.». مترو الأنفاق مازال يمشي بسرعة كبيرة عابرا المحطات...جون ماسي.. ساكس كامبيطا..فينيسيو ... زبيدة تتكلم...تتكلم...ولاتريد أن تتوقف. اضطررت أن أقاطعها بحزم هذه المرة: « يجب أن ننزل». وأنزلتها بصعوبة في محطة «بيل كور» أي الساحة الجميلة. كانت تشبه ديكا ذبح, ومازال يتخبط في دمه. قالت ونحن نصعد الدرجات للخروج من الأنفاق: » كلما تكلمت كثيرا أحس بالذنب والخواء ؟ ويخنقني الإحساس بأني أدور كثيرا حول نفسي لأهوي في ظلمة صاعقة « كان الغمام قد افقد الساحة الجميلة الكثير من بهائها، وكنت أفكر في الصمت والكلام. تخيلت زبيدة طفلة تتحدث دون أن يستمع إليها احد. هل كان ذلك هو جرحها؟ سمعنا هدير طائرات ، تطلعت زبيدة بعينيها إلى السماء تبحث عن الصدى وهي تقول: «سمعت أن الطائرة تدور طويلا حول نفسها, قبل أن تسقط وتتحطم أشلاؤها على الأرض». أجبتها بما يشبه الهمس , وأنا أكلمها , وأكلم نفسي: « أعماقنا تشبه العلبة السوداء في الطائرة، ولكي لا نموت من الصمت، ولا نموت من الكلام الذي يخفي كل شيء، ولكي لا نعيش حياتنا، ونحن ندور حول أنفسنا، وحول جرح يؤلمنا ونجهله، ولكي لا نسقط كالطائرة، نحتاج أن نفتح علبنا السوداء للضوء، كلما أحسسنا أنها ضاقت بأسرارها». قاصة من المغرب مقيمة في فرنسا [email protected]