يصعب الحديث في المغرب الآن، عن وجود نخبة بالمعنى الدقيق لما تتقصده الصفة من خصائص دالة على التميز في لحظة، أو عدة لحظات، من منظور تاريخي يجعل هذه النخبة، إن وُجدت أو حتى وُجدت، معنية بمشروع محدد في المجتمع والسلطة على الأقل، وحتى عندما نسلم بوجود نخبة، بوجود «النخبة»، افتراضيا، فإننا مطالبون، بنيويا، بضرورة الحفر والتقليب في حمولتها الدالة على تفردها وفرادتها، خصوصيتها إن أمكن، في النسيج المجتمعي المشيد هرميا بحيث لا نعير اهتماما الى جذورها الطبقية وإنما الى مدى تمكنها من صياغة هذا المشروع أو ذاك ووسائل إنجازه عموديا، لا أفقيا فقط، على المستوى الفكري والثقافي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي. عامة: تقترن صفة النخبة بمجموعة، أو عدة مجموعات من الأطر المتعلمة، من جهة، كما تقترن بربط صفة «التعلم» بالوعي بشروط خدمة المجتمع والدولة، من جهة أخرى، بحسب الاختصاص والخبرة والصدور عن خلفية معرفية في ذلك في مجمل قضايا التقنية والنمو والتقدم والتطور واقتراح صيغ ذلك، بل توفير حلول لكل ما من شأنه أن يعطل صيرورة التحول والانتقال من حال الى حال. النخبة، بهذا ليست مجرد تكتل أو تمترس أو حظوة وامتياز وردي، وإنما قناعة ونسق أساسهما الشعور بالمسؤولية بترجمة الوعي الفردي والجمعي بالمجتمع الى واقع ملموس في البرامج اللازمة لمواجهة الجمود والركود خاصة، في مجال الصناعة والتجارة والفلاحة ثم في التعليم والتشغيل والصحة والاعلام وسائر المجالات الخاصة بتدبير أمور الحياة العامة، أو ما يمكن أن يسمى «المجال الثقافي» مع منح صفتي «المجال» و«الثقافي» مدلوليهما الوظيفيين في تمثل المواطنة، ومعها المواطن، ككائن له الحق في الحياة والدراسة والعمل والسفر والعلاج والرعاية الصحية وحرية التعبير والنقد والمساءلة والاحتجاج والانتماء النقابي والسياسي. وبذلك تكون النخبة وسيطا وليست صاحبة القرارات النهائية. النخبة، إذن، نخب وليست «منتخبات»، وبقدر ما تتوفر كل نخبة على مشروع خاص بها، في هذا المجال أو ذاك، المالي مثلا أو الاقتصادي أو التجاري، بقدر ما يمكن القول بأن هذا المشروع الخاص أو ذاك لا يمكن أن يتحقق متى كان معزولا عن دينامية الاسئلة والأجوبة بصدد كل ما أشرنا إليه بالنسبة الى القناعة والنسق والوعي والمسؤولية واقتراح البرامج والوساطة في ظل شروط ما أصبحنا نسميه، عادة و بمطلقية مأزومة ومغدورة، «دولة القانون» بكل أبعادها ووظائفها وأدوارها، المادية والرمزية معا، نسميه (ها) ولا نقدره (ها) غير آبهين بالحشو الفكري ولا بخطاب المراقبة أو خطاب الوصاية أو خطاب الشعبوية حتى، الخطابات التي تحاصرنا وتحاصر النخبة النخب وتجعلها حبيسة أحلامها، سجينة أوهامها، فتلجأ، تارة الى التصعيد أو الى التنفيس والتعويض، تارة أخرى، عن مآلها في خرابات النفس وفي عذابات الأزمة الذاتية، الشراب السحري لكل تصور قبلي في التشخيص والتحليل والتفسير والفهم والتأويل، السند في ذلك نزعة علموية وضعانية تجريدية مدارها الارقام والنسب والاحصائيات ثم الوضع السياسي الفطري كما هو وليس كما يفترض ألا يكون، ثم قس على ذلك الوضع الاجتماعي والاقتصادي مثلا. بعض النخب الصغيرة، النخب المغلقة على نفسها وفق تقليد مجتلب من مرجعية صورية ونافرة، في حرمها، تختار المداهنة بقدر ما تختار المراهنة على الكسب والربح وخلط الاوراق ورصد الولاءات الى الاحزاب والمؤسسات المتوحشة، وبذلك تصبح مرتهنة ومستخدمة لأجل مسمى لا غير من باب بيع الافكار لاستثمارها أفقيا، وبالتالي تفقد مصداقيتها الواجبة تاريخيا، زمنيا على الأقل، والزمن ليس هو التاريخ مباشرة. أما النخبة الفعلية فإنها تتآكل من الداخل وتحيل نفسها على معاشات من تلقاء ذاتها، طرف منها يلجأ الى خطاب المواربة وطرف يكتفي بخطاب التواري وراء أبواب وعي زائف، تارة باسم فجيعة مشروع وطني ديمقراطي في النهضة والاصلاح والتغيير، وتارة باسم حداثة موؤودة على الورق، في الذهن، في الكتابة، في التنظير، في النقد، في التدريس والتأليف، وليس على أرض الواقع كما يلزم. النخبة النخب الحقيقية لا تموت حين تدرك الطريق الى المساءلة والتحليل المادي الجدلي، ذلك التحليل الذي أعدم بدعوى طي صفحة الماضي لمجرد طيه وكأنه لا يوجد في الحاضر ولن يوجد في المستقبل، في حين يتضح للجميع ممن يدركون أوضاع أو أحوال النخبة النخب، في المغرب وفي غير المغرب، من دول العالم العربي والعالم الاسلامي، ودول الجنوب، أن فشل بناء الدول الحديثة والمعاصرة مصدره عزلة النخبة النخب، أو لنقل «عزل النخبة -النخب» العزلة التي تحكمت في خطاب النقد والنقد المضاد دون اعتبار لموازين القوى والعزل المنظم للفكر التجريبي والفلسفي والرياضي ثم الفكر السياسي والاقتصادي والتاريخي والديني والقانوني الى جانب التعلق الى هويات قوميات تجمع بين الحنين الدائم الى تراثات شكلية تمجد هذه الهويات وبين مصادرة الوعي الجدلي بالذات والكائن، فردا وجماعات، والتاريخ والوجود من باب نبذ الصراع والاختلاف وضمان الاستقرار والاستمرار والأمن في المطلق، بينما ظل الصراع، ومعه الاختلاف، هو (هما) المحرك الاساس، الدينامو الجوهري، لاقتراح صيغ ونموذج الحلول الممكنة في أي مظهر من مظاهر الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالأساس. تأسيسا على كل هذا يحتاج الامر الى حوار لتبين صيغ الصراع بين الاطراف المرشحة لاقتراح الحلول الممكنة، والحوار يحتاج الى جدل، يحتاج الى الجدل العقلاني المنظم بقدر ما يحتاج الى توفير شروط هذا الحوار في المجتمع حول قضايا محددة، أعتقد أن أبرزها قضية التعليم والمعرفة والبحث العلمي، وتأتي بعدها قضية التنمية وتطوير الاقتصاد لمعرفة كيفية مسايرة ما يحدث خارج المغرب، والقضيتان معا متصلتان في المدى البعيد. أما في المدى القريب والمتوسط فتحتاج الى التخطيط المرحلي لضمان الدينامية والوازع الهيكلي في جميع القطاعات التي يحتاج بعضها الى الاصلاح الفوري وبعضها الى التغيير الجذري، ولن يتحقق هذا بدون الاعتراف بالنخبة النخب مع حثها ودعوتها الى تقديم تصوراتها وتطوير أفكارها وخلق سبل ومسالك التفاعل فيما بينها نظريا وعلى مستوى الميدان في مجمل الحقول المعرفية، انطلاقا من الجامعة والمعاهد العليا والمراكز المتخصصة على أسس من تشجيع البحث وتكوين الأطر في شتى العلوم الدقيقة والعلوم التجريبية والعلوم الانسانية. الدولة تحتاج الى النخبة النخب. النخبة النخب معزولة، وعلينا أن نذيب نذوب الجليد علينا أن نلغي الحدود ونقلص المسافات. علينا أن نقتنع بأن مصير المغرب المعاصر مصير مشترك بين الجميع.