نحاة العربية يقولون « إن أفضلهم هو من لا يخطئ أحدا»... فهو متمكن من قواعد النحو، إلى درجة أنه قادر على تعليل رفع أو جر أو نصب الكلمة الواحدة نفسها، عبر الدفع بثلاث قراءات مختلفة الموقع في الجملة...« باز» سيقول بعضكم، و بعضكم الآخر سيرى في تلك القدرة وسيكون محقا أبلغ تعبير عن الموقع الثانوي فما دون ذلك الذي توجد فيه القواعد كلها ( وضمنها قواعد النحو) والمعطيات الموضوعية عامة، في «التفكير» الذي يملي على البعض ممارساته الحياتية و المهنية.. الأسبقية عنده لتحقيق رضى الآخر، بمقابل نفسي هو ارتياح الذات أو بمقابل مادي له طنين، و لو على حساب القوانين والمعطيات الموضوعية... على تلك الشاكلة، لدينا في بنيات الممارسة السياسية، نحاة، مختصون في «النحو السياسي»، وأكثرهم، يتباهون بكونهم يتقنون حتى « الزيادة فيه.» نحاة « أبرعهم» من لا يخطئ في السياسة أحد و«يحلل» كل خطاب و ممارسة من أي توجه أو منطلق. في فورة المسار الديمقراطي المغربي وفي حمأة انشغال « خلق الله» بتدقيقه وإرسائه مسارا واصلا... تشكل في الحواشي « كائن متحدث» أسمى نفسه « المحلل السياسي». وقد ندر نفسه « لحمايتنا» من عسر الهضم السياسي... عبر تعتيم الواضحات وحقن الغامضات بالمزيد من الغموض حتى لا «نتضرر» من فهم ما يجري. « المحلل السياسي»... فرض نفسه علينا « وسيطا» بين السياسة و « محترفيها» و بين الممارسة عليهم... وسيط يقول عن نفسه إنه موهوب في فك ألغاز السياسة... وهي لديه ممارسة غامضة في مبناها و معناها. اهتداء ، بما حفظناه في« تلاوة» زماننا ، عن الزبون الذي انتفض ضد حلاقه قائلا « لعن الله السياسة والسياسيين و الناس أجمعين». أصل هذا البلاء الذي أصابنا... ممارسة مهنية في الإعلام السمعي البصري الغربي. منذ أواسط السبعينات... للتمييز بين تقديم الأخبار و إبداء الرأي فيها... عمدت وسائل الإعلام الغربية تلك، إلى تخصيص ركن، في نشراتها الإخبارية، بعد المعطيات الإخبارية حول حدث بارز، للتعليق و إبداء الرأي في الحدث يقدمه صحافي من القناة نفسها، ويعرف بأنه مختص في قضية ذلك الحدث... الإعلام الأمريكي، الموجه للخارج، «صوت أمريكا» أساسا، بعد الأخبار التي يدعي أنها محايدة ، يقول« إليكم رأي الحكومة الأمريكية»، يقرأه معلق من الإذاعة. نفس التصرف مارسته التلفزة الإسرائيلية الحكومية، للتمييز بين إخبارها بوقائع الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي وبين رأي الحكومة الإسرائيلية فيها... و طبعا الفرق بينهما كالفرق بين نعم و أجل. وزير الداخلية و الإعلام المرحوم إدريس البصري، و انسجاما مع « تحرك التلفزة» في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، ساق لنا، في الانتخابات خاصة، « محللين» من درجة أساتذة جامعة. يقرؤون محتويات صناديق الاقتراع أيامها « بفصاحة»، فغرت أفواه الصناديق فيها... ومن يومها، أضحى قدرنا أن نتحمل « أعباء» السياسة و معها تبعات « محلليها». لقد باتت الممارسة السياسية، بغناها و تعقيداتها وبسياقاتها التاريخية المركبة ...والمنبثقة من خاصيات الوضع السياسي المغربي، باتت في حاجة إلى أضواء البحث و الدراسة لفهمها و لتفهمها... في حاجة إلى آراء الباحثين و الدارسين المؤهلين علميا - و أخلاقيا - لإبداء الرأي ، باعتباره اجتهادا و ليس حكما قطعيا معقما من الخطأ... ولحسن حظنا أن كليات حقوق وآداب و مراكز أبحاث عدة منتجة في هذا الاتجاه و بأطقم من الباحثين الحقيقيين الذين لم يصفوا أنفسهم ، قط، بكونهم محللين سياسيين ، و دراساتهم مراجع مفيدة و لأمد بعيد. « المحلل السياسي» المقصود اليوم، هو شرطي المرور في «دوار تاريخي» مفترض، يصفر ضد من يشاء و يسمح بالمرور لمن يشاء... إنه ذلك الذي يتصدى لقضايا كبيرة، بقدر يسير من المعرفة السياسية، الذي توفره السنوات الأولى من كلية الحقوق. قدر يسير، يمزجه بقدر ضخم من « قلة الحياء» .إذا شئت أن تكون «محللا» أنت الآخر، يكفيك، لكي « تصطفى» لدى بعض وسائل إعلامنا و لدى بعض الفضائيات العربية، أن تجيد المراوغة بجمل، يعمي بريقها عن إدراك معناها، من نوع،« الحراك الاجتماعي و الحراك السياسي، الإستحقاقات، الفاعلين السياسيين، الفاعل الرئيسي و الفاعل الثانوي، الاحتقان الداخلي، استفحال الأزمة الحزبية الداخلية، تخلف الأحزاب عن مواكبة متطلبات المرحلة ،التقاطبات....» وتمرن على عد الكلمات و عصرها، لتقطر لك معنى، من نوع، فلان في خطابه قال سبع مرات كلمة غضب، وهذا يعني أنه غاضب من مجريات الأوضاع... و آخر قال في خطابه عشرين مرة « اللامركزية»، و استخلص أنت أنه لا مركزي محض.و خذ حريتك في تحريك الأحزاب و تشكيل تحالفاتها وفق رغبتك... مثلا، فك وثاق الكتلة، و اقذف بحزب الاستقلال بعيدا في جهة « المحافظين»، ثم شق الاتحاد الاشتراكي إلى ثلاثة... أما الأحرار فهم طوع تحاليلك طوح بهم إلى حيث شئت و حتى «البام» تستطيع أن تقول فيه ما لا يعرفه عن نفسه... و هكذا حلل على كيفك و لا تخشى في ذلك ملامة أحد، لأنك تكون نجحت في تلقيح كل «ذلك الأحد» ضد السياسة. ولعلنا، إذا واصلت هذه «التسلية» استشراءها في فضاءات السياسة، سنجدنا يوما، أمام مهنة كاملة المواصفات اسمها « محلل سياسي». وربما وجدنا أمام أبواب عمارتنا لوحة أخرى، إلى جانب لوحات الأطباء و المحامين و الموثقين، تقول « محلل سياسي، مختص في أحزاب الأغلبية، مقبول للتحليل أمام مصطفى العلوي» أو لوحة أخرى «محلل سياسي، دولي مختص في العزوف الانتخابي، مقبول لدى الفضائيات العربية». فيكون ، ساعتها ، على أحزابنا ومؤسساتنا السياسية، أن تبتاع التحاليل المناسبة، لما تروم فعله، بلا «وجع دماغ» إنتاجها ذاتيا. إنها « ظاهرة» استحدثت، و استعملت على مشارف نهاية سنوات «الجمر»، للتعتيم على الرأي المعارض لسياسات الفساد، واليوم نفس الظاهرة تتوجه لمعارضة سياسات وإرادات التطوير والتحديث، والتغطية عليها بضجيج تدافع المصطلحات و صفير« قصف» التوصيفات و التصنيفات. سيدي« المحلل السياسي» سامحك الله... ارحمنا، وابحث لك عن مورد رزق آخر غير «النميمة التحليلية » فينا... إذ أن السياسة بدون تحليلك ستكون أوضح، و تعابيرها بدون شروحك ستكون أفصح ، و تحملها بدون وزنك لها سيكون أريح.