حركت الاستشارة في موضوع الجهوية الموسعة بحر السياسة الراكد منذ زمن طويل. كما فجرت طاقات كامنة لدى عدد من الأحزاب، خصوصا المتموقعة يسار المشهد السياسي، وعدد من المهتمين كذلك ، عبر تصورات أولية أو اقتراحات ومساهمات. وإلى حين أن تعبر جميع المكونات السياسية عن رأيها في الموضوع وإحالته على اللجنة الاستشارية ذات الصلة، نرى أن لا بد من التحدث عن الإصلاح السياسي عامة وخاصة عن المناهضين لهذا الإصلاح مع استحضار موجز لدورهم في عرقلته ومقاومته سواء من داخل الوطن أو من خارجه خلال الحقبة الممتدة من القرن الثامن عشر إلى يومنا هذا.. إن مقترح الجهوية إن كانت تستدعيه ظروف بلادنا محليا ، فمن الصعب عدم ربطه برغبات من الخارج، ومن أوربا تحديدا . ذلك أن موقع المغرب الجغرافي ، ومنذ القرن الثامن عشر، جعله امتدادا طبيعيا للمجال الحيوي لأوروبا ، وبالتالي جعل منه مركز اهتمام أطماع لعدة دول منذ ذلك التاريخ، إذ شكلت التجارة وضمان حريتها وأمنها ، معضلة مزدوجة لسلاطين المغرب والأوروبيين معا ، بما أن الموانئ المغربية كانت معبرا ضروريا لتلك التجارة. ولمواجهة تلك الأطماع واستتباب الأمن في الموانئ والطرقات تفرد السلطان إسماعيل العلوي عمن سبقه بإقامة جيش عرمرم عزز الدولة المخزنية التي كانت في حاجة ماسة لذلك.لكنه جيش سرعان ما أصبح عاملا أساسيا في عدم استقرار هذه الدولة وتمزقها. ثم جاء من بعده السلطان محمد بن عبد الله فأدخل إصلاحات جزئية خاصة على نظام العدلية أواخر القرن الثامن عشر واصطدم بالأعراف المتعددة التي كان يعمل بها في مختلف مناطق المغرب إضافة إلى دور العمال الذي بالغ في التفريط في الدين والاستهتار بمناهج الشرع. محاولات جادة قام بها السلطان الحسن الأول لإصلاح الجيش ونظام الجبايات والتعليم في آخر القرن التاسع عشر . لكن مقاومة فقهاء الدين لأنظمة التعليم والجبايات الآتية من بلاد الروم من جهة ورفض بعض القوى الأروبية وجود «خبراء»عسكريين من الدولة العثمانية ومن الإمبراطورية الألمانية أفشلا كل مجهود السلطان في تلك الميادين. وإن كان الحاجب القوي أحمد بنموسى (أباحماد) استمر في خط السلطان الحسن بعد وفاة هذا الأخير ولصغر سن خلفه السلطان عبد العزيز، فسرعان ما تبددت آخر آمال المغاربة والسلطان في إنجاح أي من تلك الإصلاحات ، وبات المغرب نقطة طمع وخلاف دوليين مابين فرنساوألمانيا تحديدا ، خلاف يعتبره مؤرخون عديدون أحد الأسباب البعيدة للحرب العالمية الأولى. ورغم المحاولات الهادفة التي عرفتها الفترة المخزنية العزيزية من تأسيس مجلس للأعيان يعمل بجانب السلطان قصد الاستشارة، وطرح للعناصر الأولى لإصلاح سياسي ودستوري ، فإن الدولة الفرنسية معضدة بالولايات المتحدة وبريطانيا وإسبانيا ، قاومت تلك المحاولات بهدف وضع يدها على المغرب واستعماره تحت غطاء حمايته وهو الشيء الذي تم لها سنة 1912 بمساعدة عناصر مخزنية رفيعة المستوى والمحميين من المغاربة باختلاف أديانهم. اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914 أعطى الفرصة الذهبية للماريشال ليوطي أن يبتر من السلطان والمخزن معا كل السلطات ليضعها كلها بين يدي الدولة الفرنسية. ولم ينتبه المغاربة وقتها إلى ذلك إلا في بداية الثلاثينات من القرن الماضي وبعد تأسيس كتلة العمل الوطني كحزب مطالب بإصلاحات فقط. لكن انقسام أول حزب مغربي بين مؤيد لجناح المرحومين علال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني بين حركتين الأولى مطلبية وطنية والأخرى قومية ، مكن الحماية من الاستمرار في بناء هياكل إدارة استعمارية موازية لنظام المخزن والاكتفاء بالقيام بعدة مشاريع جيدة في مجال الطرق والسكك الحديدية والتنظيم المالي، طبعا بما يستجيب لحاجيات المعمرين وحكومة باريس ، وإهمال تام لجميع البنود التي تهم الإصلاح السياسي بالمغرب. ومع بداية الحرب العالمية الثانية تأكدت قناعة الأوربيين بأن المغرب الأقصى ومعه دول الشمال الافريقي يشكلون عمقا حيويا لهم . فأولى الانتصارات لدول التحالف على ألمانيا أحرزت في هذه البلدان وشكلت معركة «العالمين» نقطة تحول كبير في الحرب بعد اندحار جيش «أفريكا كور» الألماني بقيادة رومل. ومن شمال إفريقيا أيضا انطلقت أولى الضربات الموجعة لبلدان المحور. وانتبه السياسيون المغاربة، سلطانا ووطنيين ، لذلك وكانت نتيجة أعمالهم أن قدموا سنة 1944عريضة المطالبة بالاستقلال للمقيم العام الفرنسي ولسفارتي بريطانيا والولايات المتحدة بالمغرب . عريضة وُوجهت بقوة من طرف عناصر دار المخزن، الحاكمين بأمرهم في عدد من جهات المغرب. ذلك لأن تلك العريضة وإن كانت ترمي لتحقيق الاستقلال على المدى المتوسط ، كانت كذلك تتوخى قبل ذلك وضع أسس للدولة بعيدا عن نظام المخزن المتآكل والعتيق والمتآمر أيضا. وبعد ، ولإبقاء المغرب في حالة التبعية لاستعمار ، جندت فرنسا أطرا مغربية عديدة من أتباعها، عسكرية ومدنية ، استطاعت مناهضة الإصلاحات السياسية التي طرحت غداة الاستقلال وأغمضت عينيها ،على جزء من الإصلاحات في الميادين الاقتصادية والمالية والفلاحة ، كما أغمضت عينيها أيضا على العودة القوية لمخزن الحسن الثاني في قالب عصري شكلا وبعقلية قديمة مضمونا. ونتائج تلك العودة مازالت تلاحقنا إلى يومنا هذا . فرغم وجود حكومة مركزية بالعاصمة ، ورغم كون وزارة الداخلية من بين وزارات هذه الحكومة ، فالعامل أو الوالي يجمع بين يديه كامل اختصاصات كل الحكومة في مجال تراب إقليمه أو ولايته، ويخضع له مناديب كل الوزارات الأخرى ويستفرد وحده باختصاصات وزارة المالية. لا لشيء سوى أن الهاجس الأمني كان هو العامل الحاسم في تسيير وتدبير أمور الشعب .وهكذا أصبح التمركز هو السمة الغالبة لسياسة النظام . مما همش الحكومة كجهاز تنفيذي والبرلمان كجهاز تشريع ومراقبة. ومع مرور الأيام استطاعت لوبيات الاقتصاد وتجارة الريع أن توطد علاقاتها المصلحية مع هؤلاء العمال والولاة ، بما يخدم مصالحهم جميعا ، وبالتالي جعل منهما قوة أساسية مناهضة لأي إصلاح ،واستطاعت أن تعبر عن ذلك وبوقاحة حتى داخل المؤسسات المنتخبة باستخدام الأحزاب مطية وباستعمال المال ،مهما كان مصدره ، وسيلة. وخلاصة الأمر، إن كانت فكرة الجهوية تحظى الآن بدعم الملك وعدد من الأحزاب الراغبة في التغيير ، وتحظى بدعم من الخارج، أوربا تحديدا، لما ستكتسبه من وجود دولة مغربية عصرية، تعمل وفق ضوابط ومقاييس بعيدا عن العرف والتقليد ، فإنه مع ذلك يجب الاحتراس من القوى المناهضة . وكما علمنا تاريخ المغرب ،أن هذه القوى التي لا تلجأ في الغالب للمقاومة المباشرة بل إلى إفراغ أي إصلاح من محتواه ليبقى الوضع عما عليه ، وضعُ ُ لن يساهم إلا في تأزم أوضاع البلاد مستقبلا وفي إذكاء عدم ثقة أبناء شعبنا في أي إصلاح سواء كان مصدره الملك أو حزب أو أحزاب. وفي الخطوط العريضة لمقترح بعض الأحزاب كانت الإشارة ، ربما خفيفة ولفظية إلى الهاجس الأمني وإلى دور العمال والولاة ، اعتقادا أن الرغبة في الجهوية هي رغبة الملك نفسه . لكن خلال الحقبة التي أشرنا إليها في أول هذا المقال ، كانت جل المبادرات الإصلاحية تأتي من السلاطين والملوك، ومع ذلك سعت عناصر مخزنية في إحباطها والحيلولة دون تفعيلها. فيجب عدم الاقتصار على طرح الدور الغامض للعمال والولاة كأفراد فقط بل يجب المرور وبعمق لتغيير العقلية المخزنية العتيقة التي تتحكم في عملهم ووظيفتهم كجهاز عَمرَ لقرون عديدة واكتسب العديد من «المهارات» في مقاومة كل إصلاح .وما تجربة بعض الوجوه الحزبية والجامعية على رأس العمالات والولايات كافية للبرهنة على تجذر تلك العقلية المخزنية. إن نجاح الجهوية الموسعة سيقاس بنجاح كل المسؤولين السياسيين في تحديد دقيق لمسؤوليات هؤلاء العمال والولاة . تحديد دقيق يسمح، بلا هوادة ، من مراقبتهم ومحاسبتهم من قبل الملك و أيضا من قبل الشعب عبر مؤسسات منتخبة تعبر وبحق عن رأيهم وتطلعاتهم في غد أفضل ، وبعبارة أوضح حان الوقت لإستبدال العقلية المخزنية على المجتمع بإقرار العقلية الديمقراطية داخله.