المقالة التي نترجمها هنا هي وجهة نظر تتحدث عن الإسلام والديمقراطية، وقد قدمت من طرف الكاتب بنيامين باربر في منتدى إسطنبول المنظم من طرف إعادة الحوار حول الحضارات في اسطنبول في الفترة الممتدة من الثاني إلى السادس من يونيو 2008 تحت عنوان «هل يمكن للإسلام أن يتكيف مع الديمقراطية أو هل يمكن للديمقراطية أن تتكيف مع الإسلام؟». وللتذكير فالكاتب يعمل أستاذا للعلوم السياسية ومديرا للمركز ويتمان في جامعة روتجرز، وهو مؤلف لعديد من الكتب منها «الديمقراطية القوية» (1984) ، و»أرستقراطية كل واحد» (1992): - المترجم- من السخف الاعتقاد بأن الإسلام لا يمكنه أن يتكيف مع الديمقراطية أو أن الديمقراطية لا يمكنها أن تتكيف مع الإسلام، ليس الإسلام في حد ذاته الذي يبدي بعض التوتر مع العلمانية والديمقراطية ولكنه بكل اختصار الدين هو الذي يظهر هذا التوتر الذي يكون نافعا، على أنه يكون ضارا في مجتمع حر. فالإسلام، مثله المسيحية والديانات الأخرى، ديانة تمارس في كثير من الثقافات والمجتمعات: طائفية، طبقية، انشقاقية وتعددية، واعتبار الإسلام إلى حد ما متعصب فكذلك هو الدين في أماكن عديدة، لأن في عصرنا العلماني أصبح الدين محاصرا والتعصب هو في المقام الأول رد فعل على الدين المحاصر. هناك خطاب قوي خلال هذه الأيام يدعي أن الإسلام، ليس فقط الإسلام المتعصب أو الوهابي أو السلفي، لكن الإسلام في حد ذاته، يعتبر ديانة معادية ليس للديمقراطية فقط بل حتى للحرية والتعددية والمجتمع المتفتح، بل للحداثة بعينها كما عرفت من طرف القيم الليبرالية. هذا الموقف واضح في فكرة صامويل هانتغتون الشنيعة حول «صدام الحضارات» والتي مفادها أن الغرب والبقية (بقية العالم) محاصران في الصراع من أجل البقاء، وكم يبدو هذا غريبا في مناقشات كمناقشاتنا هذه هنا في إسطنبول, لكنها في واقع الأمر تبقى هذه الفكرة جد حاضرة في السياسات ووسائل الإعلام الغربية. هذا الخطاب لا يوجد فقط في سلوك بوش المتحمس لحرب كارثية على «محور الشر» أو في زعم دونالد رمسفيلد بأن التعصب الإسلامي يعتبر نوعا جديدا من الفاشية، أو يظهر كذلك في الأحداث المهووسة في الجناح اليميني مثل «أسبوع التوعية بالإسلامية الفاشية»، لديفيد هويرتز، لكنه ينعكس كذلك في كتابات الليبراليين أمثال بول بيرمان الذي يتحدث عن كيف أن الغرب أصبح «محفوفا بالإرهابيين من الحركات الإسلامية المستبدة التي سبق لها أن قتلت عددا مذهل من الناس»، أو من العلماء أمثال برنارد لويس الذي أعلن بنبرات خافتة من التعاطف «أن العالم الإسلامي أصبح فقيرا، ضعيفا وجاهلا»، أو من المسلمين المرتدين أمثال علي هيرسي الذي يجمع بين المناشدة الليبرالية المزعومة للقيم النسوية مع الرفض التام ليس فقط للتشدد ولكن للإسلام برمته. يمكن لهذه النقاشات في حماستها الجدلية المفرطة أن تكون وراء الرد العقلاني, لكن أعتقد أن البروفسير هابرماس يفضلها أن تواجه وتدحض عقلانيا، وهذه هي حقا وجهة نظري إذا كنا نرغب في التقدم في العمل الصعب لصياغة ديمقراطية في مجتمعات - تقريبا جميع المجتمعات- تأخذ الدين على محمل الجد وإني أرغب في تقديم ستة براهين واضحة, بعضها تاريخي وبعضها اجتماعي وبعضها فلسفي- كلها معقولة ورشيدة بالمعنى الواسع للمنطق- التي توحي لماذا من العيب أن نعتقد أن الإسلام لا يمكنه أن يتكيف مع الديمقراطية أو أن الديمقراطية لا يمكنها أن تتكيف مع الإسلام. أولا: ليس الإسلام في حد ذاته الذي يبدي بعض التوتر تجاه العلمانية والديمقراطية ولكن الدين بكل اختصار هو توتر يكون نافعا على أن يكون ضارا في مجتمع حر. فمدينتا أوغوستين وسيفا البابا جلاسون يتحدثون إلى عالم الجسد وعالم الروح, إلى الزمني والأبدي, إلى الدنيوي والديني. هذه الازدواجيات لا تنشأ من اللاهوت بل تبعث في اللاهوت المنطق العميق للازدواجية التي تحدد وجودنا. إن التعارض بين الأخلاق والسياسة وبين القانون السماوي أو الطبيعي والقانون الوضعي تتحول إلى تعارض بين الكنسية والدولة التي تسفر عن توترات مزعجة لكنها تبقى نافعة بالنسبة للمجتمعات في كل مكان. ثانيا: إن علماء الاجتماع من توكفيل ودوركيم إلى عالم الاجتماع الأمريكي في الديمقراطية روبرت بليه يلحون على أن المجتمعات الحرة أنشأت على أسس دينية أضفت عليها الاستقرار ووفرت لها نعمة الخلاف السياسي.إنه بالضبط الدين الذي أسس الأمم الديمقراطية وألف بين الشعوب التي لو كانت خلاف ذلك لتقسمت تقسيما هالكا باختلافاتها الاقتصادية والاجتماعية وكذا خلافاتها السياسية. كما كتب توكفيل في كتابه «النظام العتيق» «الاستبداد قد يحكم بدون إيمان لكن الحرية لا يمكنها ذلك ... الدين جد ضروري في الجمهوريات الديمقراطية أكثر من الجمهوريات الأخرى. كيف يمكن لشعب أن ينجو من الهلاك إذا لم تكن الروابط الأخلاقية تتعزز بقدر ما الروابط السياسية تضعف». المجتمع المدني أمر حيوي للديمقراطية التعددية لكن روابطها غالبا ما تبقى ضعيفة. الدين يمكن أن يكون مصدرا قويا لرأس المال الاجتماعي, ربما لهذا السبب أدرك روسو أنه في غياب الدين يمكن للمجتمع أن ينتهي إلى الدين المدني أو ما يسميه هيبرماس ب ( الإيمان المدني الأمريكي )- ليبقى حرا. ثالثا: إن الإسلام، مثله مثل المسيحية والديانات الأخرى، دين يمارس في العديد من الثقافات والمجتمعات: طائفية، طبقية، انشقاقية، وتعددية. نحن المسيحيين نتكلم بسهولة عن المعمدين، واللوثريين، والكاثوليكيين، والميثوديين، والمارونيين، والبانتا كوستا لييين، والأساقفة، والبروتستانتيين، والأبرشانيين، وأعضاء الكنسية المعارضين للعنف، وشهود يهوه، والبرستانتية الهولندية، والأرثودوكسية اليونانية، والموحدين، والعلماء المسيحيين، والخلاصيين، والتبشيريين- 200 طائفة أو أكثر- في حين قال توماس جيفرسون «أنا في حد ذاتي طائفة !» لكن نجد من الصعب فهم أن المسلمين هم كذلك طوائف وانشقاقيات تبدو مختلفة من ثقافة إلى ثقافة ومن مجتمع إلى مجتمع. فقط حوالي 15% من مسلمي العالم ال 1,3 بليون هم عرب، لكن من الصعب القول كم عدد الغربيين الذين يعرفون أن اكبر نسبة من المسلمين يقيمون في الهند واندونيسيا حتى أن برنارد لويس كتب كتابه تاريخ «انحطاط الإسلام› عبر عدسة الشرق الأوسط وفي مقدمتهم العثمانيون. رابعا: بينما نحبذ أن ندعي أن الدين في العصر الحديث يكون وينبغي أن يكون خاصا و ضيقا وتقليديا فهو يبقى عاما وشاملا وأخلاقيا. فهو ينشأ من النواميس (القانون العالمي) وليس من الأعراف فهو يرغب في احتلال الساحات العامة (لكن ليس بالضرورة مدينة هول City Hall)، ومزاعمه بالضرورة منافسة لمزاعم القانون الوضعي، حتى المجتمعات القديمة وضعت قوانينها التقليدية المتفق عليها والتي تنظم السلوك العام ضد القوانين الوضعية للدولة، وليس هناك دين لا يسفر عن نسخة من الشريعة. هل الوصايا العشر التي تشكل القانون الفسيفسائي يقصد بها أن تكون خاصة أو اقل شمولية؟ كتب واعظ بروتستانتي من القرن 17م يسمى برين كراسة يعلم فيها الأبرشيين أنه من بين الطرق المحرمة كان «الرقص المختلط التكعيب (قمار)، الألعاب المسرحية، الصور الفاسقة، الموضات الخليعة، صباغة الوجه، المشروب المقوي، الشعر الطويل، خصلات الحب، الشعر المستعار، تجعيد أو تسحين أو تقطيب الشعر لدى النساء، المشعلة، هدايا رأس السنة، ألعاب مايو، قصائد الحب الرعوية، الموسيقى الفاسقة المخنثة، الضحك المفرط، والحرص على الفوضى العارمة لعيد الميلاد» كلها تعتبر «تسليات آثمة ومناقضة لروح المسيحية» فهي تعتبر من النوع الذي يجعل الرجال «زناة داعرين، قوادين، سماسرة الفاحشة، متوحشين، صاخبين، مدمني خمر، مبذرين ومخادعين... (يعني) أشخاصا تافهين، سيئي السمعة، منحطين، مدنيين، وملحدين، يكرهون كل نعمة وخير ويستهزؤون من التقوى». هكذا كانت سنوات الطالبان البروتستانت المبكرة عندما استوطنوا أنكلترا الجديدة وقادوا أمريكا نحو الكومونولث البروتستانتية ثم إلى جمهورية ديمقراطية- التي في كثير من الولايات مازال الواحد فيها اليوم لا يمكنه شراء الكحول يوم الأحد. خامسا: اعتبار الإسلام إلى حد ما متعصب فكذلك هو الدين في أماكن عديدة، لأن الدين في عصرنا العلماني أصبح محاصرا والتعصب هو في المقام الأول رد فعل على الدين المحاصر، كما كان الدين في الماضي الهواء الذي تنفسناه والأثير الذي تحركنا فيه، فاليوم أصبحت التجارة والعلمانية والمادية هي الهواء الذي نتنفسه والأثير الذي نتحرك فيه، في الواقع هناك العديد من الذين يصرون على أن الديمقراطية أكثر بقليل من نجاح التجارة وانتصار المادية العلمية- التي ربما تفسر لماذا عندما يسعى المتشددون نحو تأمين دياناتهم يستهدفون ليس فقط الحداثة بل كذلك الديمقراطية. المتشددون البروتستانت الأمريكيون الذين درسوا أطفالهم في البيوت مختلفون قليلا عن المتشددين المسلمين الذين يعارضون خنق الأسواق الرأسمالية. كلهم يرون في هوليود، شارع مادي سون والامتيازات الاستهلاكية، التي تطوق العالم الآن وتتحكم في وسائل الإعلام والانترنت، بالوعة ذات مخرجين- هذه البالوعة تحمل قيمهم بعيدا في نفس الوقت الذي تقذف في بيوتهم الصور العنيفة والخليعة «للرأسمالية الجامحة» التي تجبر المستهلكين على الشرب من بالوعاتها لكي تزدهر أسواقها.