والمعروف أن الكثيرين في تايوان يعتبرون أنفسهم منتمين إلى الديانة البوذية على الرغم من أن الأخيرة تشترط في المنتسبين إليها إجتياز دراسات وطقوس معينة طبقا لما ذكره البروفسور جوني تشانغ- من كلية إدارة المنظمات والتثقيف الديني بجامعة -أليتيا. تاريخيا يعود دخول البوذية إلى تايوان إلى القرن السابع عشر، حينما وصل إليها المهاجرون الأوائل من إثنية الهان البوذية ومعهم مجاميع أخرى تدين بالديانة التويستية من جنوب شرق البر الصيني. وفي تاريخ مقارب دخلت المسيحية إلى البلاد أيضا على أيدي المبشرين الهولنديين والإسبان. غير أن النقلة الكبرى في تشكيل الخارطة الدينية للجزيرة جاءت مع تدافع اكثر من مليون نسمة من العسكريين والمدنيين نحوها في عام 1949 هربا من جحافل القوات الشيوعية بقيادة ماو تسي تونغ. فكان لهذا التطور تداعيات إيجابية تجسدت في إثراء المجتمع التايواني ثقافيا، خصوصا مع وجود شخص مثل مؤسس البلاد الماريشال -تشيانغ كاي شيك- الذي تم تعميده كمسيحي قبل عشرين عاما من وصوله إلى سدة الحكم في تايبيه أي في عام 1929. ومن بين التداعيات الإيجابية الأخرى لذلك التطور والتي لا تزال ملموسة، ظهور جمعيات بوذية إلى جانب الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية، وقيام كل هذه الكيانات الدينية بلعب دور مساند لجهود الحكومة في توفير وتحسين الرعاية الإجتماعية. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى تقرير حديث صادر عن وزارة الداخلية، ورد فيه أنه مع نهاية العام 2008 كانت تلك الكيانات الدينية تدير 24 مستشفى، و11 عيادة طبية، و26 بيتا للمتقاعدين، و27 معهدا للمعاقين في مختلف أرجاء تايوان، إضافة إلى مساهماتها الكبيرة في دعم بعض الكليات المختصة بتدريس الأديان، مثل مساهمة الكنيسة الكاثوليكية في دعم كلية الدراسات الدينية بجامعة ?فو جين الكاثوليكية والتي من أهم أهدافها تعزيز الحوار ما بين الكاثوليكية والديانات الأخرى. ومن ضمن من وصل في هذه الحقبة الحديثة نسبيا (1949) إلى تايوان هربا من الشيوعيين نحو عشرين ألف مسلم شكلوا نواة الجالية المسلمة التي تقدر اليوم بخمسين ألف نسمة وتتألف من الهوي والأتراك والأويغور والقازاق، ويتواجد هؤلاء تحديدا في العاصمة تايبيه وفي ?كاوشيونغ بجنوب البلاد، وفي ?تشونغ لي? و?تايشونغ بوسطها حيث توجد في كل هذه البقاع مساجد وجوامع كبيرة تم بناؤها بتبرعات سعودية. وهؤلاء، كغيرهم من أصحاب العقائد الدينية الأخرى، يتمتعون بأوضاع إجتماعية وإقتصادية جيدة، بل يمثلهم اليوم 27 عضوا في المجالس التشريعية. هذا ناهيك عن وجود جمعية معترف بها رسميا لهم تقوم بأنشطة متنوعة مثل إقامة الدروس الدينية في المساجد وتوفير دراسات صيفية لأبناء المسلمين، وادارة مكتبة إسلامية تحمل إسم العاهل السعودي الراحل الملك فيصل بن عبدالعزيز، وإصدار مجلة موسمية تدعى لسان الحق، وترجمة القرآن والكتب الإسلامية إلى اللغة الماندرينية. علاوة على الجمعية المشار إليها والتي أطلق عليها إسم الجمعية الإسلامية الصينية، هناك مؤسسات وتنظيمات إسلامية أخرى تتبعها أو متفرعة عنها مثل جمعية الشباب المسلم الصيني، و?جمعية الثقافة الإسلامية الصينية، ورابطة المسلمين الصينيين?. ولم تسمح السلطات التايوانية لهذه الجمعيات بالعمل الحر فقط وإنما سمحت لها أيضا بدعوة وإستقبال وفود من العالم الإسلامي، وإرسال طلبة وطالبات إلى الدول العربية و الإسلامية لتعلم أصول عقيدتهم، أو توفير منح دراسية لهم للإلتحاق بمركز دراسات الحضارة الإسلامية التابع لجامعة ?تشينغتشي? الوطنية التي تحتوي مكتبتها على مراجع غنية ونادرة في الدراسات الإسلامية، والتي تعتبر أيضا الجامعة الوحيدة في تايوان التي تمنح شهادات الماجستير في الدراسات الإسلامية. مما سبق نرى أن العلمانية لم تقض على الأديان، ولم تخربها أو تشوهها، ولم تؤلب الناس ضد معتقداتها الدينية، ولم تنشر الفسق والفجور والإنحلال، مثلما يزعم معظم رجال الدين في العالمين العربي والإسلامي ومعظم أشياعهم من الملتزمين، وإنما حمت الأديان وآخت بينها، ووفرت لإتباعها حرية العمل والتحرك دون تمييز، بل منحت الجميع فرصا متساوية للوصول إلى مختلف الوظائف الرسمية كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، فمنعت بذلك طغيان دين على آخر، أو إزدراء معتنقي هذا الدين لأتباع ذاك الدين. على أن أغرب ما يلاحظه المتابع لجهة مواقف رجال الدين المسلمين من العلمانية هو أنهم يتحمسون لتطبيقها في البلاد ذات الأقليات المسلمة، ويقاومونها في البلاد ذات الأغلبية المسلمة. وبعبارة أخرى فإنهم يكيلون بمكيالين بمعنى أنهم يؤيدونها عندما تكون في صالح المسلمين، و يزدرونها حينما تكون في صالح الآخر غير المسلم.