- تبلور المفاهيم المرتبطة بالتنظيم العقلاني للمجتمع "Organisation Rationnelle"، وذلك على اعتبار أن هذا التنظيم كمفهوم جديد، يقوم على إستراتيجية بناء وتنظيم المؤسسات والمجالات الاجتماعية على أساس عقلاني رشيد، يرتكز، في سياسة المهام والوظائف والمسؤوليات- سواء بالنسبة للإفراد أو المؤسسات أو الجهات- على الكفاءات والخبرات الفنية والاجتماعية لا على الهوايات أو العلافات القرابية والزبونية أو غيرها من الإعتبارات اللاعقلانية، التي ما تزال مهيمنة بشكل كبير في مجتمعاتنا الثالثية. لقد كانت هذه "الفلسفة التنظيمية" نقلة نوعية في المجتمع الحديث، ليس فقط على مستوى الفكر، بل على مستوى الممارسة الاجتماعية كذلك. وفي إطار هذه التحولات الآنفة أيضا، برز مفهوم أساسي، ألا وهو مفهوم التخطيط للتنمية في مختلف المجالات والمستويات، وطنية كانت أو جهوية. وذلك على إعتبار أن هذا التخطيط رصد للحاجيات والامكانات... وبلورة للاستراتيجيات التدبيرية الكفيلة بتفعيل هذه الامكانات وتلبية هذه الحاجات. إن هذا الشروط كلها سوف تدعم السيرورة الديمقراطية لصنع القرار، الذي سوف لن يصبح - في إطار التخطيط العقلاني المتكامل - خاضعا لرغبات أوأهواء أو مصالح محدودة ولاعقلانية، بل سوف يتم في إطار عقلاني منظم، تشارك فيه كل الأطراف والفعاليات والمكونات المعنية بالمجتمع. في ظل هذا الفكر التخطيطي يظهر أن مفهوم "الجهوية" بكل عوامله ومستتبعاته، كمحاولة لإيجاد صيغة توافقية رشيدة بين المجتمع المدني Civil Social من جهة - بكل فعالياته ومؤسساته وجهاته- وبين الدولة كإطار إجتماعي للمجتمع العام لمشروعه الشمولي، الذي تكاملت، فيه السيرورة الحضارية لتشييده، هذه المكونات الهامة التالية : - الدولة: كإطار وفاقي وعقلاني وشرعي لتنظيم وهيكلة العلاقات والتفاعلات الاجتماعية لكافة عناصر ومكونات المجتمع. - المجتمع: في مفهومه النظري العام، أي المجال الشمولي، المادي والرمزي، الذي ينظم العلاقات والتفاعلات الأنفة. - الأمة : كتعبير عن توجهات فكرية وثقافية وعقائدية وحضارية معنية، والتي ترتبط بالانتماء إلى هوية محددة قد تتجاوز أحيانا حدود الإنتماء الجغرافي أو الأثني لترتبط بخصوصيات أعم وأشمل. هكذا إذن، وفي إطار هذا السياق الغربي المرسوم بالعديد من سمات التكامل والتوافق - ولكن ضمن حدود نسبية ومعروفة- تبلورت مفاهيم " الجهة والجهوية واللامركزية ...." كآليات تدبيريه تهدف إلى إقامة قطيعة مع الاليات التقليدية كالعلاقات العشائرية، والقبلية، والقرابية، والزبونية... المتسمة بالعديد من مظاهر اللاعقلانية . والجهوية بهذا المعنى هي آلية تدبيرية للترشيد، وأداة من أدوات التسريع بالعمل التنموي المعاصر بمبدأ الإعتماد على الذات، فإن ذلك يصدق على الجهة نفسها، أي أن تنميتها يجب أن تستند ضرورة، على مقوماتها وشروطها الخاصة. من خلال ما تقدم يتضح أن مفهوم الجهوية في الأنظمة المقارنة متغير يأخذ عدة نماذج حسب التجارب والأشكال، جهة دستورية في إيطاليا، جهة إقتصادية، إدارية، قانونية وترابية في فرنسا، كل هذه الأشكال والنماذج متداخلة وتصب في رافد واحد هو تقليص الفوارق الجهوية وتنمية مجموع جهات البلاد تنمية منسجمة ومتوازنة.ذلك أن مشكل الجهوية يبدو أكثر أهمية في الدول النامية ، لارتباطه مباشرة بمشكل التنمية والتحديث، غير أن النزعة المركزية كانت هي العنصر الغالب. إن أزمة الجهوية في المغرب تعكسها هيمنة المقاربة الأمنية -السياسية المركزية على حساب البعد التنموي الجهوي، والتي تعطي لسطات الوصايا المعينة (العامل-الوالي ..) حاكما حقيقيا على المستوى الجهوي، ومن تم تبقى المجالس المحلية المنتخبة دورا صوريا وإستشاريا في تحقيق التنمية المحلية. ولا شك أن ورش الجهوية استراتيجي يتجاوز مجرد إصلاح إداري أو إجراءات تقنية أو تعديلات ترقيعية لقانون الجهة الحالي، ولكنه تغيير هيكلي يتطلب إعادة النظر في طريقة توزيع السلطة والثروة، وفي آليات إنتاج النخب، وفي نظام العلاقة بين المركز والجهات، وفي طريقة اشتغال النظام السياسي.. وبهذا المعنى، سيمهد هذا الورش لمحطة سياسية وتاريخية قد تشكل مدخلا لدمقرطة عميقة وواسعة تشمل السلطة والأحزاب والمجتمع لأنها ستفكك البنية المركزية الطاغية التي كرست ممارسة أنست الإدارة المغربية وظيفتها الأساسية، وهي أنها أداة خدمة وليست وسيلة تسلط.. (*) طالب باحث جامعة القاضي عياض - كلية الحقوق - مراكش