I كتاب خطير بتوثيق بدر الحاج وأحمد أصفهاني: مخبر القنصلية من زمان لم نقرأ كتاباً على هذا المستوى من الدقة يوثق ما كنا نستنتجه بالتقدير أو بالقرائن أو بالروايات المتواترة عن مراحل معينة من تاريخنا التي اعتمدت له رسمياً صياغة غير أمينة بحيث اختلط الصح بالغلط فإذا ذاكرتنا مثقوبة، وإذا بعض من نصّبتهم القوى الأجنبية حكاماً هم »أتباع« حتى لا نقول عملاء، وإذا للأحداث سياق آخر غير الذي تعلمناه في كتب المدارس. الكتاب يحمل عنوان »مخبر القنصلية«... وهو عبارة عن عملية توثيق مضنية لحقبة حافلة بالأحداث عاشها لبنان، بوصفه امتداداً لولاية دمشق، قبل أن يشتعل بنار الفتنة المدبرة، بتخطيط دقيق، والتي انتهت بإجبار السلطنة العثمانية على الاعتراف بوضع خاص لجبل لبنان، ومن ثم استيلاد »المتصرفية« التي اتفقت الدول أن يكون »المتصرف« فيها مسيحياً من رعايا السلطنة، يعاونه »مجلس إدارة« مسيحي الطابع وإن ضم إليه بعض وجاهات المسلمين... واضح أن الزميلين بدر الحاج وأحمد أصفهاني قد بذلا جهداً خارقاً، وأمضيا شهوراً طويلة يجمعان ويدققان في مركز الشرق الأوسط التابع لكلية سانت أنطوني، يعاونهما في مهمتهما الصعبة يوجين لوغان، المدير، وديبي اشر، مسؤولة الأرشيف، وكذلك بيتر بلانكيت أحد أحفاد ريتشارد وود (قنصل بريطانيا في دمشق في الحقبة التي يؤرخ لها الكتاب)... و»الوثائق التي يضمها هذا الكتاب تنشر للمرة الأولى، وهي عبارة عن رسائل وتقارير كتبها يوحنا (ويعرف أيضاً باسم حنا) مسك (1808 1888) القواص في القنصلية البريطانية في دمشق إلى السير ريتشارد وود المعتمد البريطاني في دمشق بين 1841 1855«... وهي الفترة التي تمتد بين فتنتين وجدتا من يغذيهما في كل من جبل لبنان وسوريا، الأولى في 1840 والثانية في 1860، وقد أسهمتا معاً في استيلاد »المتصرفية« التي على أساسها ستقوم »دولة لبنان الكبير« بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى (1914 1919)... كمقدمة لتقسيم »سوريا الطبيعية« بل المنطقة عموماً. وقد برز في الفاصل بين الفتنتين بطل »عامية انطلياس«، طانيوس شاهين، في مواجهة الإقطاع الذي كان يمثله المشايخ الذين يحظون بدعم الكهنوت بزعامة البطريرك الماروني. للتعريف بكاتب التقارير التي تكاد تكون »الكتاب« حنا مسك وبمتلقيها ممثل الإمبراطورية البريطانية ريتشارد وود يستشهد معدا الكتاب بما ذكره عيسى اسكندر المعلوف في كتابه »ديوان القطوف« من أن أصل عائلة »مسك« من اللاتين الصليبيين، وكانت تقطن بلدة رياق، في البقاع. والواقع أن يوحنا يشكل نموذجاً فذاً للمخبر بالإيجار استعمله البريطانيون ما يزيد على ثلاثين سنة لتزويدهم بالمعلومات حول ما يجري في لبنان بنواحيه المختلفة كما بمعظم أرجاء سوريا وإن كانت دمشق هي المركز لمزيد من الدقة نقتطع: ÷÷ من حنا مسك إلى ريتشارد وود »كان يوحنا مسك قواصاً في القنصلية البريطانية في دمشق، يلتقي القنصل يومياً ويرافقه في رحلاته داخل سوريا. وعندما تلقى فرنسيس بورتن أمر عزله من منصبه في آب 1871، اثر خلافه مع يهود دمشق، غادر المدينة بسرعة ولحقت به زوجته اليزابيت إلى بيروت لوداعه. وأثناء عودتها إلى دمشق لترتيب أمور عودتها إلى بريطانيا التقت هذا الحنا. تقول: »ناديته، وبالطبع لم تكن لي أية وظيفة رسمية فأدار رأسه ومر متجاهلاً..«. ولقد ساعد حنا في »مهمته« شقيقه فرنسيس الذي كان في خدمة الإنكليز أيضاً ولعب دوراً أهم من خلال دعم دور له في بلاط الأمير بشير القاسم (الثالث) الذي حل محل الأمير بشير الشهابي (الثاني)، إذ عينه الإنكليز سكرتيراً له مع أنه تاجر بيروتي يجهل الجبل وتاريخ الجبل وسياسته وتقاليده«، حسب ما يقول المؤرخ المعروف يوسف إبراهيم يزبك. أما ريتشارد وود فهو من عائلة بريطانية عملت في الشرق منذ العام 1800 في خدمة »شركة المشرق«.. ويحيط الغموض بمكان ولادته وبهوية والدته لوسي هل هي أوروبية أم مشرقية؟ ويذكر أحد أصدقائه في مرحلة تونس 1876 أن ريتشارد نصف أرمني ونصف يهودي وبعد أن أتقن الإيطالية والفرنسية واليونانية والتركية، عمل على خدمة المصالح البريطانية فأوفد إلى سوريا بهدف معلن هو دراسة اللغة العربية لمدة سنة. لكن السبب الحقيقي كان التجسس على نشاطات المصريين الذين احتلوا سوريا (حملة إبراهيم باشا)... وقد تلقى وود دروسه العربية في بلدة غزير كسروان على يد الخوري ارسانيوس الفاخوري اليهودي الأصل والذي اعتنق المسيحية على المذهب الماروني، وكان يتعامل باستمرار ويقدم خدماته للقناصل البريطانيين على رغم توجهات البطريركية المارونية الميالة للسياسة الفرنسية. وكان له دور في إثارة التمرد ضد إبراهيم باشا (ابن محمد علي باشا وقائد حملته على تركيا) وتلقى 15 ألف غرش ثمناً لأتعابه. نكتفي هنا باقتطاف واقعة أوردها المعدان في سياق التعريف بوود هذا وبأصل المهمة: »كانت حركات التمرد ضد الجيش المصري، بقيادة إبراهيم باشا، خلال حملته على السلطنة، موضع مراقبة دقيقة لدى وود الذي كان يتجول في سوريا بصورة سرية أحياناً بحيث زارها ثلاث مرات قبل العام 1840. وقد أشار في تقاريره منذ العام 1838 إلى أن لحظة اتخاذ القرار بإعلان الثورة قد أزفت. وكان من الواضح أن العائلات الإقطاعية التي لها عداوات قديمة مع الأمير بشير الشهابي باتت في مقدم القوى الجاهزة للثورة أمثال عائلات جنبلاط والعماد وأبو نكد. وكتب بونسونبي إلى بالمرستون قائلاً: »سوف أحرك الدروز ضد إبراهيم باشا عندما تختار«. في أواخر حزيران سنة 1840، أصدر بونسونبي أمراً إلى وود بالتوجه سراً إلى سوريا. وفي 3 تموز وصل الى مرفأ بيروت وبرفقته ضابط بحري عثماني هو طاهر بك. كانت الاشتباكات عنيفة فلم يستطع الاتصال بالقنصل الإنكليزي نيفن مور إلا في 22 تموز. وكان وود قد مُنح فرماناً من الباب العالي يعطيه صلاحيات »ترتيب وتسوية الشؤون العملية في سوريا«. وكان يحمل آنذاك لقب نائب القنصل، لكن هذا اللقب تبدل في تشرين الثاني وأصبح وكيلاً للباب العالي ومرجعه الوحيد في اسطنبول بونسونبي والصدر الأعظم فقط. وبعد أيام من وصوله انتقل من بيروت إلى ذوق مكايل وتوجه للقاء البطريرك الماروني يوسف حبيش، فكانت النتيجة »ناجحة جداً«. ومع استمرار الاشتباكات، أقدمت البوارج الحربية البريطانية والنمسوية على قصف بيروت في أيلول، ثم قصفت صيدا وكان أول الفارين الوالي سليمان باشا. أعقبها نزول قوات عسكرية إلى جونية بصحبة وود الذي انتقل إلى غزير بحراسة 200 جندي عثماني و100 جندي من البحرية البريطانية. وفي اليوم التالي هبط آلاف المواطنين إلى جونية فجرى توزيع البنادق على الجميع، وبلغ عددها مع اندلاع الثورة أكثر من 84 ألف قطعة. حمل وود الإنذار الأخير إلى الأمير بشير في 20 أيلول. وعندما رفض هذا التخلي عن تحالفه مع إبراهيم باشا، ملأ وود في 8 تشرين الأول فرماناً سلطانياً كان قد استلمه على بياض وعيّن الأمير بشير القاسم أميراً على الجبل، في حين كان الجيش المصري يكمل انسحابه من سوريا بعد هزيمته في معركة بحرصاف في منتصف آب«. ÷÷÷ داوود باشا وطانيوس شاهين والبطريرك... تحت عنوان »حوادث« يكتب حنا مسك (وسنترك النص بلغته بكل أخطائها): »الذي قدرنا نفهمه أن بواقي الجبل من سنين السابقة بالغة نحو سبعة وعشرون ألف كيس. فهذه الدولة سمحت بهم إلى (المتصرف) داوود باشا لأجل مصاريف فوق العادة... »... الجمعة الماضية شنق داوود باشا 2 واحد نصراني قاتل نصراني والآخر درزي قاتل درزي وصار شنقهم في سبني (سبنيه)... ومن آكم يوم داوود باشا طلب ماية عسكري لعنده وعمال يستخدمهم في بعض المصالح. »فهمنا سراً، قبلاً كان حصل ملاحظة عند داوود باشا من عدم حضور البطريرك الماروني (بولس مسعد) لعنده لأجل السلام عليه وبوقته لم حصل ذلك سيما أن البطريرك كان متكدر من داوود بعمله ضد يوسف بك كرم وإرساله للأستانة، كما أن داوود كان عنده البطريرك من أكبر الأحباب... »ثم داوود باشا بأواخر جمعة الماضية حضر لجهة كسروان أولاً لابس طاقم عربي مصري. ثم بوصوله إلى نهر الكلب طلب طانيوس شاهين هذا الرجل الذي كان ريس الجمهورية ضد المشايخ، ثم نزلوا أهالي الذوق وجونية لاقوا سعادته لحد نهر الكلب جمهوراً بقواص البارود، فحضر إلى جونية وبات تلك الليلة وطلب طانيوس شاهين للعشي معه ولاطفه جداً، وكانوا حضروا البطريرك الماروني وبطريرك الأرمن لجونية لملاقاته وقد أخذ كل منهم نيشان رتبة أولى. »... المسموع أن طانيوس شاهين يستخدم بجهة الذوق مع خلانه لأن هذا الرجل لم يزل عنده سطوة قوية عند العامة، كما فهمنا أن الأمير سليم (؟) الحاكم في غزير عندما أمر الأهالي يتوجهوا إلى الملاقاة فلم أخذ مفعوله هذا الأمر بل عندما طانيوس أرخص جميعهم أطاعوه.. أما المرة الرابعة فيأتي اسم »بطل عامية انطلياس« مشفوعاً بلقب »بك«: »داوود باشا من ثلاثة أيام رجع لبيروت وكل إقامته كانت في غزير ودير بيت خشبو الارمن وقد وعد الأهالي بالطرقات، وعمل طريق كاروساً من غزير إلى جونية وعمل مينت (ميناء) جونية وتلكراف من بيروت إلى غزير.. وأنه كان أرسل طلب أعضا مجلسه الموجود في بعبدا ليحضروا إلى جونية وهو ينزل لهناك، ثم بغضون ذلك الباين النية كانت على مسك جملة انفار ومن جملتهم طانيوس بك شاهين الذي أعرضنا أنه حصل على التفاتة كلية من سعادته، فالباين أن نيته فهموها وجميع من كانت عليهم النية انهزموا وأخفوا ذواتهم..«. ÷÷÷ الغامات السلطان وحماية من النمسا! هذه لمحات بسيطة من كتاب غني بالوقائع، خصوصاً أن مسرح نشاط كاتبه كان يمتد من بيروت إلى الجبل فإلى بلاد بعلبك (حيث كان وود قد تملك مزارع في أرض جنتا ومعربون إضافة إلى الزبداني)، ثم إلى دمشق، في فترة حفلت بالفتن المنظمة التي شارك فيها أطراف غربيون كثيرون، أبرزهم البريطانيون، والفرنسيون، ... ووصل الصوت إلى النمسا التي راسل البطريرك الماروني يوسف حبيش سفيرها في اسطنبول: »قد انسنا بحضور جناب ولدنا العزيز السنيور أنطونيوس ستانيدل المتعلق بالجية دولتكم المعظمة وقرر لنا أنه مرسل إلينا على وجه الخصوص من طرفكم ليوضح لنا عن نفس دولتكم المعظمة ما تحركت به غيرة سلطان الأوستريا، سلطان الكنيسة المظفر لنمو صوالح طايفتنا هذه المارونية، وإنما اكليروسنا وشعبنا الماروني بوجه العموم، بمقتضى عوايدنا القديمة، حتى تستمدوها لنا من الباب العالي وتتخذونا نحن وطايفتنا هذه جميعها تحت حماية دولتكم المظفرة..«. في الوقت ذاته تقريباً يوجه »رعايا جبل لبنان عرضحال لعتاب دستورانية سعادة صدر أعظم الدولة العلية أيد الله تعالى سمو عظمته« وقد جاء فيه: »أنه لا يمكننا أن نصف ما قد شملنا من السرور، نحن عبيد دولتكم رعايا جبل لبنان، وذلك عندما بسطوتكم المقتدرة وبأسكم الشديد وباهر حكمتكم السمية قد ظفرنا بعساكر الدولة المصرية وهزمناها من أرضنا وتخلصنا من استرقاق والي مصر ومن جوره الغير محتملين وفزنا بالدخول تحت لواء حضرة الدولة العلية صانها ونصرها باري البرية وما برحنا من المواظبة على الدعا لحضرة مولانا السلطان ظل الله الظليل الممدود على العالمين عبد المجيد خان نصره العزيز الرحمن وأبد سرير سلطنة دولته الزاهرة إلى انقضاء الدوران..«. بالمقابل كان »البطريرك الأنطاكي الماروني ومطارنته وأساقفته واكليروسه وشعبه الماروني ولخلفايهم من بعدهم يتوجهون إلى حضرة مولانا السلطان عبد المجيد بطلب انعامات تضمن نوعاً من الامتيازات وقدراً من الاستقلالية في التعامل مع رعايا ابرشياتهم، مع التنويه بأن الحاكم دايما على جبل لبنان وانطيلبنان (أي الداخل اللبناني حسب المعتاد القديم) لا يكون إلا مارونياً من العائلة الشريفة الشهابية«. يصعب تلخيص هذا الكتاب الخطير في عجالة، بل لا بد من قراءته بتمهل وبمحاولة للربط بين الوقائع الواردة فيه وبين النتائج كما نقرأها في الفورات والانتفاضات ومشاريع الحرب الأهلية التي تجد من يفجرها ويفجر بها لبنان، بين الحين والآخر. إن هذا المخبر حنا مسك لخطير حقاً... فهو كان يتابع كل شيء عن كل الأطراف، بدقة ملحوظة، ويكتب التفاصيل جميعاً تاركاً »لسيده« أن يستنتج ولقيادة »سيده« أن تقرر... أما اللبنانيون فهم »أدوات« أو »حجارة شطرنج« في لعبة تتخطاهم إلى المنطقة جميعاً. وإلى مصير السلطنة العثمانية تحديداً، ومعها بل قبلها طموحات محمد علي في مصر الذي وجد من يحرضه ويشجعه على السلطان حتى إذا توغل في مغامرته ضرب فهزم، وأبقيت السلطنة في وضع الرجل المريض حتى جاء أوان إسقاطها وتقسيم ممتلكاتها ونحن ضمنها بين الحلفاء مع حصة مميزة للبريطانيين. ويبقى أن ننوه، مرة أخرى، بالزميلين بدر الحاج وأحمد أصفهاني، وما بذلاه من الجهد والدأب والدقة والرجوع إلى ما يثبت الوقائع أو يفسرها، لإنتاج هذا الكتاب الخطير الذي يفسر الكثير من غوامض تاريخنا الذي يتبدى وكأنه مسلسل من الحروب الأهلية، طالما أبقينا مصيرنا في أيدي القناصل استعان بهم بعضنا ضد البعض الآخر ولا انتصار... وليت هذا الكتاب يلحظ في كتابة تاريخنا الرسمي الذي نختلف عليه إلى حد أن كل فئة من اللبنانيين تقرأ في كتاب ما يسفه المثبت في كتاب آخر. II كلمات على دروب حنا يوسف الحلو لكأن أمير الشعراء أحمد شوقي كان يقصد حنا يوسف الحلو وأمثاله ممن اعتبروا التعليم رسالة حين قال قصيدته المعروفة التي حفظناها صغاراً ورددناها كتميمة مع أولئك الذين منحوا أجيالاً نور عيونهم لكي يدخلوا إلى جنة المعرفة بالعلم: »كاد المعلم أن يكون رسولا..«. .. ومع أن حنا يوسف الحلو قد بلغ سن التقاعد وانطوى على قلمه يستكتبه تجربة عمره، فإن منهجه التعليمي يطبع كلماته بالحكمة، وربما لهذا يخصه »تلاميذه« الذين غدوا الآن كباراً بمواقعهم العملية بتقدير عال يتبدى في المخاطبة كما في الحديث عنه. »كلمات على الدروب« عنوان الكتاب الرابع لحنا يوسف الحلو، وقد كتب مقدمته جان سالمه.. وقد ولد الكتاب عبر »صراع الجسم والعقل والوقت«.. وقد ضمنه الرجل الذي أدار الثانوية الإنجيلية لسنوات عديدة، 61 فصلاً، هي أقرب إلى الوصايا أو الاستنتاجات التي تلخص تجربته، وبين عناوينها: دعاء، الله والإنسان، الله والوقت، الإنسان والله، المنطق والقوة والعقل، حوار مع الموت... ثم المحبة، والحب، فالحب والحرب، فالحب والموت، والأدب والصحافة... بغير أن يتجاوز »المرأة« أو ينساها، الصداقة والتاريخ وصولاً إلى تقاعد من يرفض أن يتقاعد. من الحِكَم التي صاغ منها حنا يوسف الحلو كتابه: »لا حراس في معارض الكتب لأن الكتاب غدا أرخص من السرقة عندما تصير الأنا أنت تفتح أمامها قلوب الناس. »أطلق العصفور السجين صرخة يأس: متى تنهار جدران قفصي... »أروع الرجال من حمل الحياة على منكبه مبدعاً كل يوم لونها جديداً. أما عن الصحافة والصحافيين فكتب يقول: »الصحافي الحر لا يستظل حالماً منتفعاً بل يمتشق الكلمة سيفاً في وجه مستبد فاجر جائر«. ثم: دم الصحافيين بذار يشق الأرض غرسات تتعملق حقاً ووعي شعوب... ولو خلا العالم من الصحافة والصحافيين لبكت الأقلام دماً وتفجعت الحرية في أقبية السجون ولتجسد العدل دمية يتقاذفها الظالمون«. لتكن لك الصحة يا من تستحق التبجيل. من أقوال نسمة قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب: لا تطارد حبيبك بالعتاب. أحبه أكثر. وانتظر عودته متلهفاً ليعطيك ما يعوّض الغياب. لا تخف على الحب أن ينقص. متى وُلد الحب عاش فيك وعاش معك وعشت به. بالرغم من ذلك، اذكر بوضوح انطباعين. الاول، هو مبلغ دهشتي، أنا القادم من مدينة مانشستر الصناعية العمالية التي لا تزال عابقة بدخان المصانع، ان اكتشف ان القائدين الرئيسين لليسار في الحزب هما من اصول بدوية: عبد الرحمن القادم من الجزيرة العربية وفيصل حبيب خيزران، ابن شيخ قبيلة في البادية العراقية. أما الأمر الثاني فهو التعرّف الى ثقافة المقاهي في العاصمة السورية. واذكر مقهى أكثر تواضعاً وانزواء تؤمه جماعة تسمي نفسها «المصطفلين» يحيونك وتحييهم بتحية «اصطفل» قبل ان تستجلس الى طاولتك وتشرع في تصفح جريدتك. هم قوم لا يكتمون شيئاً من السخرية تجاه الذي يؤمون المقهى من قبيل الفضول لا «الاصطفال». مضى نحو ربع قرن قبل ان أعود فألتقي عبد الرحمن في منفانا الباريسي المشترك في النصف الثاني من الثمانينيات. يعود الفضل في وصل ما انقطع الى الصديقين الباهي محمد وطلال شرارة. سرعان ما انتظمت جلساتنا الأسبوعية نمارس خلالها ألواناً مختلفة من أدب الصداقة الذي يعلمنا اياه عبد الرحمن بذلك المزيج من النخوة والدماثة والعبوس والوفاء والخيبة والأمل في آن معاً. عبد الرحمن الخارج للمرة الثانية من تجربته العراقية محتجاً على اضطهاد الشيوعيين وصعود صدام حسين الى قمة السلطة والحرب العراقية الإيرانية. الباهي محمد البدوي المغربي المرتحل الى عاصمة الحضارة الغربية مصمماً على ان لا يترك زاوية منها لا يستكشفها ويفض أسرارها ويكتب عنها وعن أحوال ناسها. والمتحدث إليكم، المغادر الحروب اللبنانية، الأهلية منها والأقل اهلية، لاستئناف دراسة جامعية تساعده على ان يقيم بالأود، وقد قطع دراسته لخمس عشرة سنة خلت وتفرّغ للنشاط الحزبي. في مقهى «البيريغوردين» المطل على ضفة نهر السين، يحثنا عبد الرحمن على «الإدلاء بالشهادات وتدوين التجارب». يتابع بإلحاح لجوج ومقادير من الاستفزاز مصير الرواية التي يكتبها الباهي التي لم نعرف منها إلا العنوان «ذاكرة الرمال». يناقشني في كتاب أعدّه بعنوان «غيرنيكا بيروت، جدارية لبيكاسو/ مدينة عربية في الحرب» يروي للبنانيي الحروب الأهلية، والأقل أهلية، تجربة الحرب الأهلية الاسبانية من خلال النتاج الفني لعبقري التصوير في كل زمان. وكلانا، أنا والباهي، نحرّض عبد الرحمن على كتابة مذكراته عن فترة نشاطه الحزبي. وهو يتمنع. ببطء ادركت الحكمة العميقة لمتنع عبد الرحمن منيف. فمشروعه الكتابي يقوم على قناعته العميقة بأن الأدب والفن أوفر حيلة واكثر ثراء واوسع حرية من الخطاب السياسي والفكر السياسي في التعبير عن التجربة الإنسانية، والتجربة السياسية خصوصاً. في هذا الجهد، الذي يسمّيه جون برجر «تصنيع التجربة»، لم يكن هاجس عبد الرحمن جمالياً وحسب. كان أيضاً خصوصاً هاجس القبض الأعمق والأقوى على العناصر التي يجري بواسطتها تشغيل واقع متحرك ومتحوّل هو في المقام الأول واقع بشر حقيقيين. كثيراً ما كان عبد الرحمن يصف الأديب والفنان الناجح بأنه ذاك الذي عرف كيف يلقي القبض على موضوعه من خصيتيه! في منزل عبد الرحمن بالضاحية الباريسية شاهدت لوحات مروان لأول مرة قبل أن أقرأ الدراسة الملهمة التي كان أعدها عبد الرحمن عن صديقه الفنان العربي الكبير. لن اكف عن التعبير عن اعجابي غير المحدود بالأدباء والفنانين الذين يستطيعون استيلاد المشاعر والصور اللامتناهية من موضوع واحد، على مدى سنوات، ان لم اقل على مدى عمر بأكمله. في الأدب، استحضر فوران المفردات والصور والمشاعر والمشاهد والحكايات والأساطير والأحداث واسماء النبات والزهور والأمكنة عن فلسطين في شعر محمود درويش الرائع. وفي التصوير، مفردات وتحولات الوجه في فن مروان قصاب باشي. خلال زيارتي الأخيرة لمرسمه في برلين اقترحت على مروان وها أنا أكرر اقتراحي: ان يصوّر عملية ولادة لوحته بالفيديو، لأنه اذ يقدّم لنا الحصيلة النهائية للوجه الذي يصوّر، يحرمنا مما قد استمتع هو به بمفرده، وما يشكل أثمن واجمل ما في لوحته: تحولات الوجه قبل ان يستقر على حال، بل قل الوجوه المختلفة التي تناسلت من خيال مروان الخصيب بأشكالها وقسماتها وألوانها وظلالها وبالفراغات التي تشكل قسماتها وتعابيرها بقدر ما تتشكل منها. يريد البعض أن يرى في مدن الملح، خصوصاً في جزئها الاول «التيه» وفي شخصية متعب الهذال تحديداً، حنيناً للعودة الى بداوة ما قبل النفط. رأيت في الرواية المحاولة الوحيدة في الأدب، وفي العلوم الاجتماعية والسياسية، لسرد التحولات التي ادخلها النفط على المجتمع وقد اخذ يسلبه استقلاله والحرية ويخضعه بوحشية للاستبداد السلطوي ولمنطق السوق والربح والريوع والاستهلاك الباذخ البذيء وقطع الرؤوس وقهر المرأة. اعترف بأن متعب الهذال لازمني بما هو شبح هائم منذ قراءتي الرواية. أتخيله محلقاً فوق «وادي العيون» وحقول النفط كلما ذكرت كلمة «نفط» او خطرت في البال او وردت في نص او حديث. فيما أنا اكتب هذه المداخلة، اردت التأكد من اسم الرجل خشية ان اكون قد اخترعت الاسم اختراعاً. لسبب ما، كانت الخماسية تفتقد الى الجزء الاول على رف مكتبتي. استقربت فلجأت الى «غوغل»: عثرت في «غوغل» على متعبين الهذال، الاول هو بطل «التيه» الشبحي. أما المتعب الهذال الثاني، فاسم لشيخ مشايخ قبيلة عنزة، العابرة للصحراء العربية. والخبر ان كثرة من النبذات عن متعب الهذال الحقيقي على «غوغل» تدور مدار حادثة واحدة: اعتقال الجيش الأميركي لشيخ مشايخ عنزة في العراق العام 2003! لست ادري ما اذا كان عبد الرحمن، خلال كتابة الرواية، يعلم بوجود آل الهذال وباسم متعبها. مهما يكن من امر، أرى في وجود هذا القرين لبطل «التيه» ما يدل على الكيفية التي تبتكر بها الحياة سردها الروائي الخاص وتكمل الحكاية. فهل من مسار روائي أكثر توفقاً وانسجاماً مع شخصية متعب الهذال من ان يشد رحال ناقته الى العراق المحتل يقاوم فيه جنود الغزو الأميركي بعدما قاوم اقرانهم واسيادهم ناهبي النفط العربي؟ والأمر نفسه يقال عن عمارة عبد الرحمن الأكثر نضجاً في أرض السواد. لقد كان عبد الرحمن مهجوساً بالحداثة والنهضة. ولكن ليس بأي حداثة. يتنامى في أوساط متوسعة من الانتلجنسيا العربية تيار ينبذ الحداثة ويعلن سقوط التقدم، فكرة ومساراً، ويسخر من كل ما يتعلق بالتنمية وبسيطرة العرب على مواردهم وفي المقدمة منها النفط، وصولاً الى تبرير الاحتلال والاستعمار بحجة أنهما حاملان للحداثة والديموقراطية والحضارة. في وجه هذا، قرأت في أرض السواد مشروع حداثة بديلة، حداثة وطنية، يرمز إليها داوود باشا، تقطع الطريق على الاستعمار وتحقق الوحدة وتسعى للتنمية في وجه الحداثة الكولونيالية القائمة على تحويل العراق الى سوق للسلع البريطانية وانتزاع امتيازات النفط وإعادة إنتاج البنى التقليدية ورسملتها لتلعب أدوارها المتجددة بما هي أدوات سلطوية وقمعية تأسر الفرد. هذه هي الحداثة الممكنة المعادية للكولونيالية التي لا نحتاج للدفاع عنها، وبلورة أوجهها المختلفة وقواها ومساراتها، الآن أكثر من أي وقت مضى. في الختام أودّ أن استعيد معكم رؤيا من سفر عبد الرحمن «عروة الزمان الباهي» يستشهد فيها بنص من نصوص الراحل الباهي محمد. «يأتي الطوفان فيصبح كل شيء ممكناً وتحذف كلمة مستحيل من القاموس. نوح جديد يطيح الاتكالية البليدة السائدة. رجل وامرأة تحدوهما الرغبة بالحب والإنجاب والعمل. يعمران الدنيا الجديدة حسب ذوقهما، ويملآن الأرض عدلاً بعد ان ملأها الناس جوراً». اتخيلني برفقة عبد الرحمن والباهي ومعنا رجب اسماعيل، وقد خرج من السجن بعد 27 سنة، ومتعب الهذال وصبحي ومنصور وعساف وآخرين ممن «يمارسون فضيحة الحياة» والأمل، نسأل صارخين: أين أنت ايها الطوفان العظيم؟ * ألقيت في ندوة بغاليري «تجليات» بدمشق بمناسبة الذكرى التكريمية الخامسة لغياب الروائي عبد الرحمن منيف الخطر الداخلي بعد كّم الأفلام المفعمة بدعائيتها المتهافتة حول أفغانستان، وبعدها العراق وحربيهما، التفتت الشركات الكبرى إلى وجوب مقاربة الخطر المحدق بالجبهة الداخلية، المتمثل بالانكسارات النفسية والشخصية للجنود العائدين، وخيباتهم وعنفهم وتجاوزاتهم الأعراف والقوانين. إنهم ليسوا ضحايا حرب، بل امتداداتها المخفية التي تسري في عروق التجمّعات المختلفة في ذلك البلد القارة، الذي يهدّد سلامتها وتطامناتها المحروسة بالدستور الخالد. إن السرجنت براندون كينغ، بطل فيلم «ستوب لوس» للمخرجة كمبيرلي بيرسي، ومواطنه العسكري المتقاعد هانك ديرفيلد (تومي لي جونز) في «في وادي إيلاه» (2008) لبول هيغس، ورفيقيهما المجنّد أنتوني سوفورد (جاك غيلّينهال) بطل «جارهيد» (2005) للبريطاني سام منديس، والسرجنت ويل مونتغمري بطل «الرسول» (2009) للإسرائيلي الأميركي أورين موفيرمان، والموظّف الأب ستانلي فيليبس (جون كوزاك) في «غريس رحلت» (2007) لجيمس سي. شتراوس، والبحّار ألفيس فالدريز (الممثل المكسيكي غايل غارسيا بيرنال) بطل جريمة «الملك» (2005) لجيمس مارش، ومعطوب حرب العراق وبطل المارينز ويليام مكفيرسون (فال كيلمر) في «مؤامرة» (2008) لآدم ماركوس. هؤلاء جميعهم وجوه متعددة لصيرورة حروب الجبهة الداخلية، التي يفترض فيها سيادة الأمان قبل أن يجد أولياء أمورها أن حروب تنقية العالم من الفظّ الملتحي، لم تحقّق سوى نقل ويلاتها إلى بيوت الأميركيين أنفسهم. هنا، نقابل جنوداً في ريعان شبابهم يغالون بعنفيتهم، وآباء مكلومين بفقدان فلذاتهم، وأزواجاً قضت أمهات أطفالهم في الأراضي الغريبة، ومجندين مهووسين بملء فراغ أيام الحروب الطويلة، بمزيد من الجلافة والدموية والتآمر، في مقابل محن ضباط يكلّفون بنقل أخبار مقتل الأبناء إلى أهاليهم، ما يشكّل «نعوة» جماعية لعائلات ارتهنت وطنيتها بتقديم قرابين للحروب الاستباقية، التي تحوّلت الى استنزافات مستدامة. بيد أن فيلمي بيّر (الأوروبي) وشيريدان (المتأمرك) يأتيان بقول جديد، عماده أن ساحة وغى أخرى فُتحت بين جدران تلك البيوت، وهي أخطر بكثير من باحات المقاصف وخمرها، التي يجد العائدون من جحيم الحروب فيها تفريغاً معنوياً للبؤس النفسي الذي حملوه بعد سلسلة الدم التي مرّت أمام ضمائرهم. في تلك الغرف العائلية، يكون الزنى المفترض بين زوجة منتظرة وصديق زوج يستغل الفراغ العاطفي وتابعه الجنسي كي ينال حصته من الجسد الأنثوي المعذّب بالوحدة، أو ذلك الذكر الذي تخلّف عن ركب القتال، فيجد ضالته في مفاتن الخطيبة الملتهبة بفاجعتها الجنسية والناقصة الاكتفاء، بطلاً في تأجيج العداوات والضغائن والغيرة بين أطراف العلاقات الآثمة التي يكرّسها انفتاح أخلاقي يقترب من العهر الاجتماعي. الخطيئة يذهب نص المخرجة الدانماركية بيّر (مواليد العام 1960) إلى الألعن والأصدم: إلى الشقيق الأكبر وشقيقه الشاب الأرعن وزوجة الأول المحصّنة بابنتيها، لتصوغ حكاية عار عائلي لا يتحمّل الثلاثة مغباته وتبعاته. فهذه مركونة بفسادها إلى الملتحي الآسيوي، الذي أجبر البكر ميكيل على السفر إلى أرض أفغانستان لمحاربة ظلاميي «طالبان» وأحفاد أسامة بن لادن، وترك المساحة العائلية التي فَضَّت بإعلان اختفاء الزوج (وربما موته) إلى اعجاب متبادل تولّد من كره مبطّن بين سارة (كوني نيلسن، التي اشتهرت في «مصارع» البريطاني ريدلي سكوت) ويانيك (نيكولاي لي كاس). ان القبلة التي يسرقانها غفلة عن العَيْب، هي الشرخ الذي يتعمّق لاحقاً مع شكوك الجدّ الواعي إلى حقيقة أن نجله الذي أُطلق سراحه من السجن بعد سرقة مسلّحة، ليس بالمؤتمن على شرف عائلة شقيقه. عليه، تُجاور المخرجة بيّر بين الزلّة غير الكاملة بعد أن يتبرّأ الاثنان من الذهاب إلى المواقعة الجنسية الآثمة، والإرغام القهري الذي يمارسه مقاتلو «طالبان» على ميكيل، لتصفية رفيقه المجنّد الدانماركي لان، «لاعتبار له لدينا» و»هو ثقل على أكتافنا» و»مضيعة للمؤنة والماء». بعد تخييره إن كان يرغب في العيش أم لا، ينتصر البطل إلى الاشتراك بجريمة الحرب الجماعية، فيهشّم رأس ابن جلدته على وقع صراخ احتجاجه في وجه القائد المعمّم، أن القتيل «لديه وليد جديد». هل ميكيل جبان، أم إنسان عملي وواقعي؟ هل معرفته أن لا خلاص من القتلة سوى الإذعان إلى قرار موت يمارسه بيده ضد رجل أستأمنه، هي حكمة متأخّرة ولّدتها حالة رعب لا مناص منها؟ يذهب ميكيل إلى ذنبه الأكثر غوراً في ضميره، بعد أن يفلح رجال المارينز الأميركي في فكّ أسره ونقله إلى بلده. يعجّل توجّهه إلى شكوكه بسريرتي الزوجة والشقيق. وعلى الرغم من أن صاحبة «الأشياء التي فقدناها في النيران» (2007) و»بعد الزيجة» (2006)، ورائعتها «قلوب متفتحة» (2002)، ترمينا فجأة في السؤال العصي على القبول، والذي يوجّهه ميكيل إلى شقيقه يانيك: «هل ضاجعتها؟»؛ فإن مشكلة نصّها من بعده ينقلب إلى البحث عن التبرير لكل الإثم الذي لم يكتمل بين الكنَّة والشقيق، والجريمة الكبيرة التي ارتكبها ميكيل وأخفاها عن الجميع، بما فيها قيادته العسكرية التي اعتبرته بطلاً. بدا أن المخرجة بيّر تَخلْص في خطابها إلى أنه لولا المتوحش الملتحي، لما آلت أمور هذه العائلة المتطامنة إلى انحطاطها، الذي يُكلَّل لاحقاً باعتقال ميكيل إثر تهديده الشرطة بمسدس مسروق، وحجره في مشفى نفسي، حيث نراه في النهاية يعترف لسارة بحقيقة الدم المسفوك على كرامته كعسكري وأب. تسييس لا ريب في أن أميركية نسخة المخرج الإيرلندي شيريدان، على خلاف الأصل، فرضت على مجنّد المارينز سام (أداء محكم لتوبي ماغواير) تقديم خسارات أقل لملتحي «طالبان»، في مقابل مجانية المعلومات التي تبرّع بها صنوه الدانماركي، حين يُعلّم «الإرهابيين» أصول استخدام القاذف المضاد للطائرات (يتحدّث هؤلاء هنا بالفارسية، بينما يرطن مقابلوهم في النص الدانماركي بلغة عربية ركيكة، ملئية بشتائم من نوع «يا حقير» و»جبان» و»ابن العاهرة»، كتورية عن سوقيتهم وجلافتهم). الجليّ هنا أن البطولة العسكرية لسام غير مسموح لها بالانتقاص في ساحة المعركة، وإن سَفَك عليها بيديه دم مواطنه. نرى تعبيراً مكانياً لها في المشهد الختامي، حيث صوّر شيريدان بطله وزوجته غريس (ناتالي بورتمان) وسط منفسح قريب الشبه بمشاهد أفغانستان، حيث دفن ذنبه الدموي وهو يعترف بالجريمة المخفية. لئن حاولت المخرجة بيّر أن توزّع بعدالة خيوط المحنة الأخلاقية على أفراد العائلة جميعهم، فإن اقتباس صاحب «قدمي اليسرى» («أوسكار» أفضل ممثل في العام 1989) و»باسم الأب» (1993) خضع لاعتبارات النجومية المعهودة، فبَان ميله إلى تضخيم مساحة الشقيق تومي (جاك غيلّينهال)، الذي قُدم ككيان مهزوز وصدامي ومقصي، قبل أن يتحوّل إلى طهراني يسعى إلى غفران داخلي من خطيئة ضعف أكثر منها تعمّد في ارتكاب فاحشة. ويأتي هذا التضخيم على حساب الزوجة غريس، التي بقيت كما في الفيلم الأصلي كيان حُسن يدور في فلكه، ظن الشقيق الأكبر الذي يكبر مع كذبة ابنته البكر حول مواقعات أمها مع عمها، في مقابل حاجة الشاب إلى ملء فراغ عائلته المُغيّبة بشخص الأم غريس. يبقى أن شيريدان، المعروف بتسيس أفلامه، وقع في المغالاة الواضحة بشأن دور «الإرهابي الآسيوي»، الذي مدّ فساد نياته كي تضرب في قلب العائلة المتوارثة للعسكراتية، وتسعى إلى قتلها، من دون الإشارة إلى المجتاح ودمويته، التي تناسى أنها كثيرة الشبه بنظيرتها الإنكليزية التي غلّت سابقاً بأهله في إيرلندا. يقول سام بلوعة، وهو يذرف دموع اعترافه بجريمته: «لا أعرف من الذي قال إن الأموات وحدهم يعرفون نهاية الحرب. أنا رأيت نهاية الحرب، والسؤال: هل أحيا ثانية؟».