بتولى صدام حسين منصب نائب رئيس الجمهورية بدأ العد العكسي نحو الرئاسة. والحقيقة أن كل المعطيات التي تحدثت عن تلك الفترة من تاريخ العراق اتفقت على أن »النائب الشاب« الذي كان يحيط نفسه بهالة تفوق هالة رئيس الجمهورية نفسه، ويلتف حوله العديد من الأتباع والمريدين وحتى الطامعين، كان هو «رجل العراق القوي» الذي لا تحسم القضايا الكبرى ، السياسية الاقتصادية والاجتماعية، إلا على مكتبه وبموافقته . كما اتفقت نفس المعطيات على أن السنوات العشر التي قضاها صدام كنائب للرئيس لم تكن في الواقع سوى «بروفة»، أو إعداد للمرحلة المقبلة ، فعينه كانت منذ البداية كرسي رئاسة الجمهورية. وهذه الحقائق يؤكدها كاتب سيرته، المحامي خليل الدليمي ، بصيغته الخاصة، قائلا: «خلال عشر سنوات قضاها في منصب نائب الرئيس استطاع صدام أن يسهم إسهاما كبيرا في بناء مؤسسات الدولة وهياكلها، ابتداء بالجيش العراقي والأجهزة الأمنية وكافة مؤسسات الحكم والخدمة العامة«. والحقيقة فإن صدام ، حتى قبل انقلاب 1968 ، كان قد استطاع أن يسمك بزمام الجناح العسكري والأمني لحزب البعث ، وأن يصبح قياديا في القيادة القومية والقطرية لحزب البعث، بينما كان أحمد حسن اليكر بصفته قائد الانقلاب وزعيم وطني بارز منذ الأربعينات يملك قوة رمزية داخل الحزب وأجهزة الدولية أكثر منها قوة حقيقية. وحسب الشهادات التي صدرت عمن عايشوا هذه المرحلة من تاريخ العراق، ومنها شهادة جواد هاشم الذي كان وزيرا في عهد أحمد حسن اليكر وصدام حسين، فقد كان صدام خلال هذه الفترة يشتغل 16 ساعة في اليوم، وكان الوزراء وأعضاء قيادة البعث غالبا ما يتركون المشاكل التي تعترضهم ، والملفات التي تتطلب جهدا فائقا على عاتق صدام، وهو ما جعل الرأي السائد لدى قيادة وكوادر الحزب وباقي المسؤولين في أجهزة الدولة يعتبرون أن أية قضية لا يمكن أن تحل دون تدخل صدام، كنتيجة لعجز هؤلاء أو تخاذلهم أو بكل بساطة لكسلهم. ويبدو أن صدام لم يكن يعترض على ذلك، بل إن كسل وتخاذل الآخرين يخدم مصلحته، لأنه أصبح قطب الرحى في الحزب وجهاز الدولة، سواء بسواء. ولفهم كيف تمكن صدام من فرض سيطرته في ظل زعيم له إسهامات كبيرة في العمل الوطني وكان يعتبر »أب البعثيين« لابد من إلقاء نظرة على شخصية أحمد حسن اليكر نفسه، الذي كما سبقت الاشارة إلى ذلك كان من أقرباء صدام. ولد اليكر في 1914، وتخرج من مدرسة المعلمين وعمل في التدريس ثم دخل الكلية العسكرية . وفي 1941 شارك في حركة »رشيد عالي الكيلالي« ضد النفوذ البريطاني في العراق، وبعد فشل الحركة اعتقل وأحيل على التقاعد قبل أن يعاد إلى الوظيفة . وفي 1958 أصبح عقيدا في الجيش، كما ساهم في تأسيس البعث وشارك في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم، وساهم في انقلاب 1963 وأصبح رئيس الوزراء في عهد عبد السلام عارف قبل أن ينقلب هذا الأخير على حزب البعث، وكان منظم انقلاب 1968 الذي سيعيد البعث إلى السلطة ويجعل منه رئيسا للجمهورية. وإذا كان هذا هو تاريخ البكر، إلا أن شخصيته وأسلوب تفكيره لم يكونا ليجعلا منه ذلك الزعيم القادر على الإمساك بدواليب دولة في حجم وأهمية العراق وسط دوامة من الصراعات الداخلية والخارجية. وبالعودة إلى مذكرات جواد هاشم، يتضح أن البكر كان على النقيض من صدام رغم أنهما ظاهريا كانا يبدوان كأنهما يكملان بعضهما البعض. كان البكر ، يقول جواد هاشم ، بسيط ومتواضعا في مسكنه وملبسه وتصرفه مع عائلته وكانت بساطته في شؤون الدولة الاقتصادية والمالية تصل إلى حد السذاجة وكان يتدخل في كل كبيرة وصغيرة إلى الحد الذي يدعو إلى التساؤل... وكان مصابا بمرض السكري ، وهو مرض يحدث اختلال في مزاج المصاب به، فيتحول بين الهدوء والثورة بسرعة، وهكذا فقد كان البكر يثور لأتفه الأسباب ويتخذ قرارا ثم يهدأ ساعة فيلغي القرار«. بالموازاة مع بسط صدام سيطرته على الحزب والدولة، استطاع أيضا أن يسنج علاقات جيدة مع الخارج، حيث كان يتحرك كرجل العراق القوي القادر على اتخاذ ما يراه مناسبا من قرارات تهم السياسة الخارجية للعراق. وفي هذا الإطار يقول خليل الدليمي إن صدام ».. خلال هذه الفترة علاقات جيدة مع العالمين العربي والاسلامي وامتدت .. مع دول العالم المختلفة«ويرصد كاتب سيرة صدام أهم هذه التحركات كالتالي: »وقع صدام في 6 مارس 1975 في الجزائر، وبعد وساطة ناجحة من الرئيس الجزائري هواري بومدين، اتفاقا لترسيم الحدود مع إيران وتم اقتسام شط العرب مع نظام الشاه محمد رضا بهلوي، مقابل أن تكف إيران عن التدخل في الشؤون الداخلية العراقية وزعزته استقراره». وقبل أن نترك الدليمي يواصل رصد أهم تحركات صدام على الجبهة الخارجية لابد من الإشارة إلى أن هذه الاتفاقية لم تصمد طويلا، إذ كانت من أسباب الخلاف الذي سيحتد بين البلدين بعد وصول الخميني إلى السلطة في إيران وصدام في العراق. ويستطرد الدليمي رصد تحركات موكله قائلا: زار (صدام) فرنسا واتفق معها على بناء المشروع التنموي الاستراتيجي العملاق للطاقة النووية السلمية في السبعينات«. هكذا أصبح صدام مهندس سياسة العراق الخارجية، كما كان وراء الاتفاق مع الأكراد في الشمال الذي أسفر عن إبرام اتفاقية الحكم الذاتي للأكراد في 11 مارس 1974، ولن تمضي سوى سنوات قليلة حتى وصل إلى قناعة أنه حان الوقت ليتولى رسميا كافة السلطات التي كانت بيد قريبه أحمد حسن اليكر، وكان ذلك في 16 يوليوز 1979 بعد 11 سنة بالضبط على الانقلاب الذي حمل البكر إلى رئاسة الجمهورية.