احتدم النقاش مؤخرا حول مشكلة ارتفاع أثمان الأدوية بالمغرب، مما جعل الأصوات ترتفع من داخل قبة البرلمان والمنظمات الاجتماعية من أجل وضع حد لجشع أرباب صناعة الأدوية بالمغرب حتى يكون الدواء متاحا للجميع.وما بين هذا الواقع الصعب الذي تترجمه التكلفة المرتفعة للتداوي بالمغرب، والإحصائيات الصادمة حول الرقم السنوي للإنفاق الفردي في مجال التطبيب بالمغرب. يتبين أن الأمر لا يتعلق فقط بمشكل ثمن الأدوية وجشع مصنعيها، بل بثقافة التداوي والتطبيب بالمغرب التي تبقى في حاجة إلى وقفة تأمل عميقة للوقوف على التمفصلات الدقيقة لهذا الخلل البنيوي. في خضم هذا النقاش، يطل من زاوية المخيال الشعبي المشترك موروثنا العلاجي الطبيعي الذي التهمه غول الطب الحديث والصناعة الكيميائية لفترة طويلة، لكن، ومع تصاعد النقاش حول الآثار الجانبية للأدوية ذات التركيبة الكيميائية مرفوقا بالتعبئة العالمية التي تلتف حول المكون البيئي لحماية ما تبقى منه تأمينا لحظوظ الأجيال القادمة في الكينونة والبقاء، بالتوازي مع العجر الذي يجتره المغرب على مستوى البنيات التحتية والخدمات المرتبطة بقطاع الصحة العمومية التي تبقى عاجزة عن الوفاء بحاجيات فئات عريضة من الشعب تعيش عزلة حقيقية بفعل بعدها عن مراكز التطبيب وتكالب الفقر والأمية عليها. في خضم هذه التفاعلات، تبرز عدة أصوات منادية بتبني سياسية علاجية شمولية تتأسس على مبدأ الجهوية، وتعيد الاعتبار للذاكرة العلاجية المحلية الطبيعية. ومن بينها الدكتور مصطفى بلعسري، صيدلي بمدينة الصويرة، حائز على دبلوم الدراسات الجامعية في الطب التماثلي،التداوي بعسل النحل،التداوي بالوخز بالإبر، التداوي بالأعشاب الطبية، كما حصل مؤخرا على دبلوم في العلاج بالألوان. من داخل صيدليته بحي الملاح القديم بالمدينة العتيقة للصويرة، يعمل على تحقيق إشعاع محلي للطب الطبيعي الذي يمتح من المحيط المحلي عناصره الأساسية. ولقد التقيناه ، تقاسمنا معه جوانب من النقاش المفتوح وطنيا حول إشكالية التداوي والتطبيب،وآفاق الطب الأخضر بالمغرب. فكان لنا معه الحوار التالي: خلص تقرير منبثق عن لجنة المالية بالبرلمان إلى كون الأدوية بالمغرب تكلف غاليا بشكل لا يتناسب مع تكلفتها الحقيقية ولا مع القدرة الشرائية للمواطنين، مما يجعل المرضى تحت رحمة جشع حفنة من أرباب صناعة الأدوية بالمغرب، فما موقفكم ، من موقعكم كصيدلي،من التشخيص الذي خلصت إليه اللجنة؟ أنا أتفق تماما مع الخلاصة النهائية لهذا التقرير الذي يفيد بغلاء الأدوية بالمغرب في ظل التهاوي المستمر للقدرة الشرائية للمواطنين مما يجعل التطبيب والتداوي يتراجع باستمرار على مستوى سلم أولوياتهم.لكنني أريد أن أسائل هذا الوضع من عدة زوايا، بداية بفعالية الدواء وتركيبته، فهل أثمان الأدوية بالمغرب تتلاءم مع مستوى فعاليتها ومصادر مكوناتها؟ أما المسألة الثانية فتتعلق بالدواء كمنتوج في علاقة بالفئة المستهلكة أو المستهدفة، فهل يستحضر أرباب صناعة الأدوية بالمغرب مبدأ الفارقية بين المرضى؟ بمعنى أي دواء لأي مرضى؟ وهذا يسوقنا مباشرة إلى الحديث عن مسألة دمقرطة العلاج حتى يكون للمريض الحق في اختيار الدواء الذي يتناسب مع خصوصياته التي لم تنشأ من فراغ، بل من تظافر عدة عوامل فيزيولوجية،نفسية، اجتماعية بيئية، ومناخية. تقرير اللجنة يؤكد من جهة أخرى الانتعاش الكبير الذي تعرفه صناعة الأدوية على المستوى المحلي،فهل يعني هذا أن المغرب قادر على تحقيق الاكتفاء الذاتي على هذا المستوى؟ يجب التأكيد أولا أن الدول الإفريقية لاتزال بعيدة عن تحقيق الاستقلال الذاتي على مستوى صناعة الأدوية ، فرغم الطفرة التي عرفتها هذه الصناعة بالمغرب مقارنة مع أغلب الدول الإفريقية، إلا أن الأرقام والإحصائيات تدل بالملموس على استمرار امتلاك أمريكا وأوربا لأغلبية القدرة الإنتاجية للأدوية ، فأمريكا تنتج 50 في المائة من الاحتياجات العالمية، أوربا 23 في المائة ، فيما لا تنتج الدول الإفريقية مجتمعة سوى 1 في المائة، وهو رقم جد ضعيف يترجم التخلف الذي تجتره دول الجنوب على هذا المستوى مما يجعلها بعيدة تماما عن مرحلة الاستقلال بالقرار في مجال التطبيب وصناعة الأدوية. وتبقى صناعة الأدوية من بين الصناعات المربحة على المستوى العالمي، حيث حققت شركات الأدوية سنة 2002 ،على سبيل المثال لا الحصر، رقم معاملات وصل إلى 400 مليار دولار. وبقدر ما يبين هذا الرقم حجم صناعة الأدوية وثقلها، إلا أن توزيعه يؤكد التبعية التي لا زالت دول إفريقيا ترزح تحت أغلالها، لذا فالمطلوب منا هو التفكير في سياسة علاجية جهوية تمكن المغرب من الاستقلال بالقرار على المستوى العلاجي، وذلك من خلال رسملة واستثمار الموروث الطبي المترسخ في الذاكرة الجماعية للمغاربة، وتوظيف الثروة الطبيعية التي يتميز بها ، والمتجسدة بالأساس في الغطاء النباتي المتنوع الذي ينتشر في جميع جهاته شمالا وجنوبا ودائما في إطار علمي ينضبط للأسس المعرفية ويحتضن الطب التقليدي ويؤطره، كما هو الحال بمجموعة الدول التي قطعت أشواطا كبيرة إلى درجة إحداث مستشفيات خضراء، كوبا مثلا،. رغم النقاش المفتوح حول غلاء الأدوية بالمغرب، إلا أن الأرقام تبرز بوضوح ضعف استهلاك المغاربة للدواء، فكيف تفسرون هذا المعطى؟ بالفعل، فمع الإقرار بغلاء الأدوية بالمغرب، يجب الإشارة كذلك إلى ضعف معدل استهلاك الفرد للدواء بالمغرب والذي لا يتجاوز 300 درهم سنويا. وهذا الرقم يترجم إشكالية حقيقية لا يمكن اختزال تفسيرها في جانب واحد، فللأمر ارتباط بالمعطى التربوي، الثقافي ، الاجتماعي والاقتصادي. لذا فالمطلوب وضع استراتيجية مندمجة تلامس الجوانب السالفة الذكر بشكل متناغم ومتكامل. فعلى المستوى التربوي يجب العمل على ترسيخ ثقافة التطبيب والتداوي لدى المواطن المغربي وان ترتبط الممارسات العلاجية بضرورة الحفاظ على الهوية الثقافية المحلية من خلال إعادة الاعتبار للذاكرة العلاجية التي يتداخل فيها الاجتماعي بالثقافي بالبيئي كذلك.بالموازاة مع ذلك، يجب التفكير في سياسة علاجية ذات طابع جهوي تتأسس على الخصوصيات والموارد والإمكانيات الطبيعية المحلية، فإقليمالصويرة على سبيل المثال يتوفر على غطاء نباتي غني يتكون من الأركان، الزعتر، اللوز، الزيتون،العرعار وهو معطى طبيعي ايجابي يمكن استثماره وتوظيفه في مجموعة من مجالات التطبيب. كما تتميز مدينة الصويرة بواجهتها البحرية، ودرجة رطوبتها العالية بالإضافة إلى هبوب الرياح في اغلب فترات السنة،وهذا المعطى المناخي يساهم في تشكيل بنية جسدية ونفسية تتفرد عن مثيلتها بورزازات مثلا، وبالتالي فلا يمكن أن نعالج مريضا من مدينة الصويرة بنفس الدواء والمكونات التي يعالج بها مريض من ورزازات. ومن هنا تأتي قوة وتفرد الطب الطبيعي لأنه يستند في علاجه للمرض على مكونات المحيط الطبيعي للمريض والتي تكون بالضرورة حاضرة في تركيبته، كما هو الحال بالنسبة لزيت الزيتون وزيت أركان أو العرعار بالنسبة لسكان إقليمالصويرة. أنتم من أشد المدافعين عن ضرورة إعادة الاعتبار إلى الطب التقليدي، فما هي في نظركم عوامل قوته؟ تكمن قوة الطب التقليدي أساسا في مبادئه الأولية، فهو يتعامل مع المريض في شموليته، في علاقة بمحيطه من خلال استحضار الجوانب النفسية والاجتماعية، والعضوية والطبيعية. فالمريض هنا ليس مجرد أعراض فقط . والموروث العلاجي المغربي غني بالمؤشرات التي تترجم الحاجة الحقيقية إلى إنعاشه اعتبارا بالدرجة الأولى للارتباط الانفعالي والعاطفي القوي بين المغاربة وبين ذاكرتهم العلاجية، مما سيساهم إلى حد كبير في الرفع من فعالية الدواء الذي يتجاوب معه المريض بشكل قوي وتلقائي لأن علاقته به تكون مبنية على الاختيار. والى جانب الطب التقليدي المغربي تبرز مجموعة من الطرق التقليدية في العلاج بمجموعة من الدول من بينها الطب الصيني الذي يعالج من خلال إيجاد توازن طاقي في مراكز الطاقة بالجسم، ثم هناك التداوي بالعسل الذي يعتبر صيدلية متكاملة، والطب التماثلي الذي يتأسس على معالجة المريض بمواد سامة بجرعات مخففة انطلاقا من الحالة النفسية للمريض، فالعرعار مثلا يحدث مشاكل جلدية والتداوي من آثاره يقتضي إعطاء المريض جرعات مخففة من مكوناته. كما أن هناك المدرسة الحديثة للتداوي بالألوان التي تستعمل الضوء واللون انطلاقا من حالة المريض النفسية والعاطفية والعضوية. ويجب التوضيح بأن الحديث عن الطب الأخضر ليس محاولة لإلغاء الطب الحديث الذي يعد استمرارا للطب الطبيعي،لأن كلاهما يحققان بشكل متكامل الأمن الصحي المنشود. لهذا فالمسألة العلاجية ليست اقتصادية بحتة، بل تتفرع العوامل المؤثرة فيها وتتشعب. وتشجيع الطب الطبيعي يجب أن يترافق مع مجموعة من الإجراءات من بينها إنتاج إصدارات علمية حول مجالاته وخصوصياته،تكوين العشابين والعطارين والصيادلة،تنظيم ملتقيات وطنية وجهوية حول الطب الأخضر، وتبادل التجارب مع دول متقدمة على هذا المستوى مثل كوبا. أنتم الآن في طور إحداث مشروع لإنتاج خلية النحل ، له اهداف تستحضر الجانب الطبي وكذلك البحث العلمي، فما هي الملامح الكبرى لهذه المشروع؟ المشروع مبادرة تروم تشجيع الفاعلين في قطاع الصحة بالمغرب باختلاف مستوياتهم على اتخاذ قرارات ملموسة في اتجاه دمقرطة العلاج وسن سياسة صحية تحترم الخصوصيات والمعطيات الاقتصادية، الثقافية، الاجتماعية والبيئية للمواطنين. ففي غياب مبادرات الدولة يتضخم دور القطاع الخاص ويهيمن بالضرورة على المجال وهو ما يفضي بالضرورة إلى الوضعية التي خلصت إليها نتائج التقرير. فالمشروع الذي اعمل على تنفيذه بمنطقة ايت داوود بإقليمالصويرة يستهدف خلق مركز لإنتاج خلية النحل انسجاما مع المؤهلات الطبيعية والفلاحية للمنطقة المشهورة بإنتاج عسل النحل بجودة عالية. فمن ناحية سيحقق المشروع حركية اقتصادية محلية ترسمل المنتوج المحلي وترفع من جودته ومردوديته، كما سيعمل بالأساس على تكوين السكان المحليين وتحسيسهم بالأهمية الكبيرة لمنتوجات الخلية وتوظيفاتها الطبية التي سيكون بإمكانهم استثمارها لتغطية النقص الذي تعانيه منطقتهم على مستوى الخدمات الصحية، كما سيتيح المشروع إمكانية تطوير البحث العلمي وهو ما يمكن أن يفتح أمامي ومعي مختلف الباحثين والمهتمين بالطب الأخضر إمكانية استكشاف الغنى العلاجي الذي تختزنه الطبيعة.