تميزت سهرة قصر الكروان بالفرقة الفلكلورية التركية، وهي فرقة لم يكن أفرادها يتجاوز العشرين سنة، كما خمنا، وعلى كل كانوا يفيضون حيوية وهم يقفزون أو يتراقصون في رقصات إبداعية رهيبة. أحدنا علق من أقصى القاعة «لو كانوا في المغرب، لكانوا في الباب ينتظرون خروج السياح»، أما أن يتمرسوا على الثرات الوطني واحتفاليته ويشتغلون كأرجل عاملة - بسبب الرقصات التركمانية والأناضولية المتميزة - فتلك مهمة مستحلية. تذكرنا بتجربة لحسن زينون ومآلها غير الفني، وكيف يمكن أن توظف العلم والمعرفة والجسد المتراقص لفائدة الحاضر. لكن أهم شيء، هو تلك المفاجأة التي انتظرتنا في الأخير، والتي نبهتنا إلى ما لا يمكن أن نقارنه عند الحديث عن سياحتنا وعن سياحتهم. فقد اختتمت السهرة بصعود رجل خمسيني، حليق وطليق، بدأ الأغنية بفرانك سيناطرا، ثم الأغاني التركية، التي أشرك فيها كل الحاضرين، بمن فيهم شبان من سنغافورة. بعدها بدأ يطلب من كل الحاضرين الكشف عن جنسياتهم. للسنغافوريين غنى الأغنية الشعبية في سنغافورة، وقد اهتز الوفد السنغافوري مهللا عندما سمع الجملة الأولى، ثم بدأ يرددها معه، واهتز الوفد الهندي عندما غني أغنية مشهورة لم يجد أعضاؤه أدنى صعوبة في ترديدها معه، كما لو كانوا مجرد عناصر في جوقه الخاص، وكذلك فعل الوفد الإيطالي والوفد الصيني والوفد الإسباني. وغنى لنا نحن «أرابي» أغنية ليلا ليلة أمنيتي أسهر معاكم ليلا. طبعا كلنا عرب خرجنا من عود محمد عبده. وعلى كل، لم تكن تلك حالة «سيناطرا» التركي حالة استثناء، فهي تكاد تكون لازمة في كل الأماكن السياحية التي يسهر فيها السياح، من كل الجنسيات ومن كل الطبقات الاجتماعية ومن كل الأصناف التي تأتي إلى تركيا. سيناطرا التركي وحده كفيل بأن يأتيهم بكل السياح لأنهم، ولا شك، يبذلون في التنشيط السياحي مجهودات ذكية، بالرغم من كل العمائم التي عبرت إسطنبول، وبالرغم من كل الصوامع، وبالرغم من البلديات القائمة والقادمة. عند باب المطعم، وصل علينا مانويل بيتشيرا، من المعهد البرتغالي العربي للتعاون، وهو في نفس الوقت الوجه الأول لجمعية الصداقة البرتغالية المغربية. بدا كمن يعرف المغرب جيدا. حدثني عن اليوسفي وعن آخرين.. عندما غادرنا المطعم، كان علينا أن نقطع طريق الإياب تحت المطر من جديد. كنت رفقة عبد المقصود الراشدي، وكنا نتأمل مطرا خفيفا يسمح لنا بالتسكع في ليل إسطنبول الجميل. ما إن خطونا بضعة خطوات حتى بدأ المطر غزيرا، كان يحدثني، ونحن نروي عن زيارة فدوى البرغوثي، زوجة مروان البرغوثي إلى المغرب، وعن الوفود الرسمية التي جاءت، وعن الوفد الذي غاب.. وبعدها بدأنا نركض بفعل...الثلج الذي نزل مثل لص لم يتعود على المدن الكبيرة هامسا، ولولا ملابسنا لما انتبهنا إليه. لم يكن الوفد قد وصل كله إلى الفندق، ونحن الذين جئنا إلى العاصمة العثمانية بقليل الملابس، وجدنا الفرصة مواتية لكي نختبئ في غرفنا. تلك الغرف التي تشتغل بالأوتوماتيكي، على حد قول عادل إمام. نهار إسطنبول يبدأ من الساعة الرابعة صباحا بتوقيت الرباط وسلا وما جاورهما. واليوم يوم السبت، ستكون فيه الندوة الثالثة عن الحرية. أصدقاؤنا الأوروبيون بدوا منشغلين بالحرية، وبدوا منشغلين بدولنا التي تربص بنا في النصوص وفي الوقائع. وبعد الزوال، وصل وفد روسي جديد احتل «الرووم» الثاني، حيث البيزنس أقام مملكته بعيدا عن الحرية التي ألهمت ذات يوم روسي من حديد في حرب الأنصار. ومازال أصدقاؤنا ينتظرون غودو الذي يأتيهم بالحقائب، التي ضاعت في ثلوج باريس. ياليتهم ضاعوا فيها قبل ملابسهم. زوال السبت مفتوح على الأسواق، وعلى الأتراك. بدأت الطريق نظيفة للغاية. وبعد مسيرة طويلة إلى جانب أحمد أوباري في شارع الاستقلال الطويل، انتبهنا إلى الرؤوس السوداء، أو كحل الراس كما نقول.ولعل ذلك التدافع، الكتف على الكتف يذكرنا بالحشر أو يذكرنا بأيام التظاهرات المجيدة. ما أثارنا هو عدد المحلات التي تبيع الأدوات الموسيقية. محلات بلا عدد، وبآلات لا تحصى، وهي بدورها تتلقى زوارا لا يقلون عن زوار الملابس والساندويتشات. مكاتب الصرف مفتوحة طول الشارع، يبدو أن الترخيص لمن أراد ذلك ...اقتربنا من منتصف الشارع وشعرنا أن ما لا يقل عن ثلاث ساعات قد انقضى، مع العلم أننا لم نطل المقام في أي محل من محلات البيع والشراء. كم سيستغرق أن تزور كل ما في الشارع، نهارا وما يزداد عن ذلك ليلا؟ كان علينا أن نعود، لأن الليل كان مفتوحا على عشاء أخير.. في الفندق تحدث إلي الإيطالي أندريا أماطو، صديقنا رئيس المعهد المتوسطي، وأحد النواب المعمرين في البرلمان الإيطالي. انتبه إلى نبرة من «الخيبة» في الحديث طبعت جزءا من مداخلتي، وانتبه بأنها لم تكن يأسا ولا هجوما ، ولكن كما سماها «قلق الانتظار». أندريا عربيته سليمة واكتشفت من بعد أنه من مواليد ليبيا ويتحدث لهجات عربية مشرقية.