وفي نفس الوقت، أعتقد أن التجربة المغربية، التي سيطر عليها منطق الصراع السياسي الذي شكل مناسبة وسياقا ملائما لتطور التقليد من منظور مخزني، بدأت اليوم تشق طريقها نحو بناء حداثة خاصة بنا كمجتمع مغربي وعربي ومسلم وديمقراطي. فتأصيل الحداثة، كنموذج خاص بالمغرب، يحتاج إلى مزيد من الجهود من أجل تحقيق إعادة تأسيس فكري للأصالة من خلال إعادة دراسة التراث المغربي الحضاري بدون افتراض أو اعتبار أن كل الظواهر المرتبطة به ظواهر متعالية عن التجربة البشرية، أي متعالية عن أطر الزمان والمكان. ونعني بإعادة دراسة التراب المغربي انتشال الإسلام من حيز الوجدان والرباط العاطفي وإخضاعه للتجربة المعرفية العقلانية بدون أن يثير ذلك حساسية تجاه العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة. وما يجعلنا متفائلين أكثر بتطوير نموذجنا الخاص هو التطور الذي عرفته نقاشاتنا السياسية، وإيمان الفاعلين بالحوار والحرية بدون أن يتحول اصطدام الحداثة والتقليد إلى تصادم انقلابي أو ثوري. لقد تأكد في المغرب أن الفوز الانتخابي للإسلاميين، في بعض اللحظات، ليس مؤشرا على التغير الديني، أي ما يسمى بالصحوة الإسلامية أو بعودة الإسلام، بقدر ما يؤشر على تغير الوضع الاجتماعي والسياسي ظرفيا. كما أبانت التجربة كذلك أن الثقافة المغربية قابلة للتغير والتطور السريع، والدليل على ذلك كون التطور الفكري والسياسي بالمغرب جعل الكثير من أنماط الاعتقاد، التي سادت خلال فترات كلاسيكية، متجاوزة أو لم تعد هي نفسها اليوم. إنها متغيرات واضحة لا يمكن أن تعبر إلا على نزوع مغاربة القرن الواحد والعشرين إلى عقلنة نمط حياتهم، معتبرين نفسهم مواطنين بدرجة أولى ثم مؤمنين في درجة ثانية. إن المجهودات التي يقوم بها المغرب لبناء حداثة منبثقة عن أصالة مؤسسة جعلته اليوم في منأى عن الصعوبات التي تعيشها دول العالم العربي. لقد أصبحت هذه الأخيرة تعاني من ضعف أو انهيار مؤسسة الدولة باعتبارها إنتاجا للحداثة عبر انقلابات أطاحت بأنظمة الحكم التقليدية. كلنا يتذكر حالة الجارة الجزائر خلال بداية التسعينات والسودان وما يعيشانه اليوم من اضطرابات، كلنا نتتبع استعادة أنماط الهوية التقليدية كالدين، والعرق، والعشيرة جراء انهيار الدولة في كل من الصومال والعراق. وبكل موضوعية، لقد مكن الانفتاح السياسي منذ مطلع التسعينات والذي تلاه تعيين حكومة عبد الرحمان اليوسفي، من إعطاء الانطلاقة لمسلسل انخراط المغرب في المنظومة الدولية بشكل معقلن، أولا بمراجعة أغلب القوانين المتعلقة بالمجالات الاقتصادية، والسياسية، والحقوقية وجعلها تتماشى مع القيم الكونية، وثانيا بفتح ورش الإصلاح الديني والتعليمي. لكن هذه البداية المحفزة والمشجعة والتي كانت ترمي إلى إعطاء الانطلاقة لتراكم المكتسبات التحديثية لم يكتب لها أن تستمر بنفس المنظور ونفس الفلسفة والنفس، بل خضعت في بعض اللحظات لحسابات سياسية ضيقة خلقت ديناميكية اقتصادية واجتماعية لكنها أضعفت المنظور السياسي وجعلته يتطور بخطوات جد متأنية نحو الديمقراطية والحداثة. وبالرغم من ذلك، وكما سبق أن قلت، فتجربتنا كمغاربة جد متقدمة إقليميا وعربيا، وما علينا إلا الاستمرار في تفكيك التراث وإعادة تركيبه عبر آلية العقل والتربية. إضافة إلى فتح نقاشات وحوارات وأبحاث بشأن التراث والاجتهاد في الدين، نحتاج إلى تحويل المجال التربوي والتعليمي إلى فضاء تندمج من خلاله الأسرة في المدرسة وفي المجتمع. فالمدخل الأول لهذا المشروع هو الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بماهية السياسة، وعلاقتها بالدين، ومفهوم الدولة ذاتها ومعناها، ومعنى الدين ومفهومه في مجتمعنا، والحركة الإسلامية وأسباب نشوئها وتطورها، ولماذا كان هناك نزاع بين الدين والدولة وبين الاشتراكيين والإسلاميين؟، وهل لا زالت الدولة تراهن على الولاء الروحي الأخلاقي على حساب رهان المواطنة الحرة؟. وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة المحورية، يجب تأسيس أرضية نظرية يطرح من خلالها اليوم موضوع الإسلام بنظرة جديدة توقف عملية الاستمرار في تجاهل واقع الإسلام في سبيل تجييره لصالح المعركة السياسية.