تكشف قاعات المحاكم ومحاضر الجلسات القضائية ومنطوق الأحكام الصادرة موخرا سواء كانت تقضي بالسجن أو بالغرامة، أن الصحافة تشكل بمغرب اليوم جبهة لتوتر وتصادم لموقفين اثنين أحدهما يطالب بمزيد من الضمانات لحرية التعبير والآخر يطالب بالمسؤولية. في هذا الحوار نتناول مع الدكتور يوسف البحيري أستاذ القانون الدولي ومدير مختبر دراسات حقوق الإنسان بكلية الحقوق بمراكش وعضو المجلس الاستشاري للشبكة الدولية للتوثيق والاعلام في حقوق الانسان بجنيف، الجوانب القانونية والمؤسساتية لعلاقة الدولة بالصحافة ولمفارقة الحق في الخبر والتقييد القانوني لها .. حددت لجنة الحقوقيين الدولية مفهوم ممارسة حرية الإعلام عام 1981 في كونه «أن كل إعلامي هو حر في التعامل مع القضايا وفق حدود القانون/ وضوابط أخلاقيات المهنة دون أن يكون خاضعا لأية مؤثرات أو ضغوط مباشرة وغير مباشرة كيفما كان مصدرها...» وأكدت لجنة الحقوقيين الدولية أن الدولة هي التي تضمن استقلالية الصحافة من خلال التنصيص عليها في الدستور والتشريع، حيث تضمن حرية واستقلالية الصحافة بمنأى عن أي تدخل كيفما كان نوعه. وفي هذا الإطار، أكدت هيئة الأممالمتحدة في اتفاقية Saragosa عام 1984 على مجموعة من المبادئ التوجيهية للدول في مجال إعمال حرية التعبير ومنها بالطبع حرية الإعلام: 1 - إن إعمال حرية التعبير لا يجب أن تخضع إلا للقيود المنصوص عليها في القانون. 2 - إن القيود التي تحد من حرية التعبير لا يجب أن تكون تعسفية أو أن تعيق بناء أسس الديمقراطية. 3 - إن القيود التي تحد من حرية التعبير يجب أن تكون قانونية واضحة وفي متناول الجميع، ولا يجب أن تصاغ القيود بشكل غامض وغير محدد تفسره السلطات العمومية كيفما شاءت. 4 - أن ينص القانون في مجال الحفاظ على النظام العام على ضمانات وطرق طعن لمواجهة أشكال التعسف في مجال حرية التعبير. لكن ألا يبدو أن ترك السلطات العمومية تتصرف هكذا في التدابير القانونية لحماية المجال العمومي لحرية التعبير ، ينطوي على مخاطر تهم الاستفراد بتدبير هذا الحقل الحيوي؟ اتفاقية Saragosa ركزت على تحديد مفهوم حماية النظام العام في مجال حرية التعبير وذلك من خلال إلزام الدول بمبدأ أساسي: ضرورة خضوع أجهزة الدولة المكلفة بالحفاظ على النظام العام في مجال حرية التعبير لمراقبة البرلمان والقضاء. يتبين أن مبادئ Saragosa خلقت نوعا من الترابط العضوي بين ممارسة حرية الصحافة واحترام القانون من أجل حماية الحق في الخبر وتأصيل مسؤولية أجهزة الدولة أمام الرأي العام الوطني، وهو ما يستدعي توفر جميع مؤسسات الدولة على خليات للتواصل قصد تزويد الصحفيين بالمعلومات في إطار إعمال حق المواطن في الخبر. وهذا الاتجاه سلكته مدونة الصحافة والصحفيين المهنيين رقم 07-15، حينما ربطت قيود حرية التعبير بالقانون سواء في المادة 2 التي تؤكد على أنه «طبقا للفصل 9 من الدستور الذي يضمن حرية التعبير كيفما كانت أشكاله، تمارس بحرية كل من الصحافة والطباعة والنشر وإصدار الكتب والدوريات في حدود ما يسمح به القانون»، أو في المادة 3 المتعلقة بحق الصحفيين الولوج إلى مصادر الخبر والحصول على المعلومات في الحدود التي وضعها القانون «لأجل تمكين المواطنين من ممارسة حقهم في الإخبار، يحق لأجهزة الصحافة والصحفيين الولوج إلى مصادر الخبر والحصول على المعلومات من مختلف المصادر، ما لم تكتس هذه الأخبار طابع السرية بموجب القانون، ولهذا الغرض، يجب على المؤسسات التي تتحكم في مصادر الخبر تسهيل مهمة الصحافة والتزام الدولة بإحداث مصلحة مكلفة بالصحافة لدى كل إدارة عمومية أو مؤسسة عمومية أو جماعة محلية». في النهاية فالمطلوب هو حماية الدور الحيوي الذي يقوم به الصحفي لصالح المجتمع و حقه في الخبر .. نعم ، فطبيعة دور الصحفي في نقل المعلومات على شكل مكتوب أو بأية وسيلة أخرى يندرج في نطاق حق المواطن في التماس الخبر ومختلف ضروب الأفكار والمعلومات. لذلك فممارسة حرية الصحافة هي شرط أساسي لإخبار الرأي العام وتجسد الصحافة المستقلة الأداة التي يمتلكها الرأي العام لمراقبة سير مؤسساته. فضمان حرية الصحافة هي حق لجميع المواطنين من أجل التلقي والحصول على المعلومات المتعلقة بتدبير الشؤون العامة وسير المؤسسات العمومية. ومن ثمة، فتقييد حرية الصحافة خارج القانون يشكل انتهاكا لحق المواطن في الخبر وإجهاض لمراقبة الرأي العام لتدبير المؤسسات ويعطل إرساء دعائم الشفافية والنزاهة والبناء الديمقراطي. نموذج على ذلك ما تعرضت له مجموعة من الصحفيين يوم 12 أبريل 2008 من اعتداءات جسدية من طرف القوات العمومية في إطار تغطية وقفة احتجاجية دعت إليها التنسيقية الوطنية ضد الزيادة في الأسعار أمام مقر البرلمان، مما أدى إلى إصابة الصحفيين مصطفى البقالي ومنير الكنتاوي ومحمد الحمراوي بجروح بليغة نقلوا على إثرها إلى المستشفى. المواثيق الدولية ألزمت الدول الأطراف باحترام حماية حرية الصحافة، وألغت السلطة التقديرية للسلطات العمومية في إجهاض أو تقييد نقل المعلومات إلى الرأي العام، ووضعت قيودا محددة مرتبطة بعدم مساس سيادة الدولة أو وحدتها أو تحقير الديانات أو مساس حقوق الافراد أو سمعتهم. السر المهني وعدم إلزام الصحفي بكشف مصادره يمثلان كذلك أحد التحديات المطلوب رفعها اليوم لتمكين الصحافة من القيام بدورها ؟ في حقيقة الأمر إن ممارسة بعض المهن كالشرطة والطب والقضاء والمحاماة والصحافة تستدعي الالتزام بواجب عدم الكشف عن الوقائع والوثائق التي يطلعون عليها أثناء ممارسة المهنة تحت طائلة التعرض لعقوبات جنائية. فغالبا ما يمتنع القضاء عن مطالبة الشرطة بالكشف عن الجهة التي تزودها بالمعلومات في حالة المتابعات القضائية، ولكن القضاء لا يطبق نفس المسطرة على الصحفيين، حينما يطالبهم بخرق واجب التكتم وعدم احترام السر المهني بالكشف عن مصادر الخبر وذلك باعتبار التحقيق و نقل المعلومات عن بعض مؤسسات الدولة يندرج في مجال النظام العام. بالنسبة للمغرب، إن المادة 4 من قانون 94 -21 المتعلق بالنظام الأساسي للصحفيين المهنيين تنص على أن الصحفي الحق في الوصول عن مصادر الخبر في إطار ممارسة مهنته وفي حدود احترام القوانين الجاري بها العمل. إلا أن واقع ممارسة مهنة الصحافة يؤكد بما لا يدعو إلى الشك أن مجموعة من المؤسسات داخل الدولة لا تتوفر على خليات للتواصل قصد تزويد الصحفيين بالأخبار لمناهضة الإشاعة وتأصيل مسؤوليتها أمام الرأي العام الوطني، حيث أن هذه المؤسسات ما تزال تطبق سياسة «النوافذ المغلقة» واعتبار ما يدور داخلها يندرج في مجالها المحفوظ وهو ما سبق أن أشارت إليه هيئة الإنصاف والمصالحة في تقريرها الختامي في كون مجموعة من المؤسسات امتنعت عن وضع الأرشيف والمعلومات التي تتوفر عليها من أجل الكشف عن الحقيقة المتعلقة بماضي الانتهاكات الجسيمة. يبدو أن الأمر يستدعي مجهودا قانونيا و ربما إجراءات مؤسساتية لحماية الحق في الوصول للمعلومة ؟ التحول الديمقراطي الذي يعرفه المغرب يستدعي فتح هذه المؤسسات للنوافذ والأبواب أمام الصحافة من أجل إعمال حق المواطن في الخبر في سياق إرساء دعائم المجتمع الحداثي ومأسسة دولة الحق. لذلك فمسألة وضع قانون خاص ينظم الحق في الوصول إلى الخبر والمعلومات أضحى ضرورة آنية لإعمال الحق في الخبر وترشيد العمل الصحفي ومناهضة الإشاعة، حيث أن نساء ورجال الصحافة يجدون صعوبة كبرى في الوصول إلى المعلومات المرتبطة بمجموعة من القضايا ذات البعد الوطني. إن إحداث قسم الاتصال لدى جميع المؤسسات هو ضروري من أجل نقل الخبر إلى الرأي العام الوطني والتواصل مع الإعلام، للمساهمة في تدفق المعلومات والأخبار ومناهضة الإشاعة وتجاوز سياسة النوافذ المغلقة، وفق ما ذهبت نحوه الرسالة الملكية في ذكرى تخليد تأسيس القوات المسلحة الملكية والتي تنص على إحداث مديرية اتصال في القيادة العامة للقوات المسلحة. ويمكن اعتبار أن البلاغ الذي أصدرته وزارة القصور والتشريفات والأوسمة بتاريخ 5 غشت 2009 حول الحالة الصحية للملك محمد السادس هو خطوة بناءة للتواصل بين الملك والشعب، حيث يؤسس لمسار جديد لم يكن يعرفه المغرب من ذي قبل، حول رفع الحجاب والكتمان حول صحة الملك محمد السادس الذي «تعرض لالتهاب من نوع روطا فيروس مع أعراض في الجهاز الهضمي وحالة اجتفاف حاد تتطلب فترة نقاهة من خمسة أيام، وأن الحالة الصحية لجلالة الملك لا تدعو إلى أي قلق». فهذا البلاغ، يحمل بين طياته دلالات عميقة ويشكل جسرا متينا للتواصل بين القصر والشعب وإعطاء العبرة للعديد من المؤسسات الوطنية التي تجد صعوبة كبيرة في الانخراط في دينامية الإرادة الملكية نحو مأسسة الانتقال الديمقراطي وإعمال حق المواطن المغربي في الخبر والحصول على المعلومات وتحرير الدولة والمجتمع من الطقوس والأعراف البالية التي عرفها المغرب في العقد الماضي.