أيتها الأخوات أيها الإخوة ينعقد مجلسنا الوطني في ظروف حزبية ووطنية تفرض علينا جميعا أن نتحلى بروح المسؤولية والشجاعة، وبالقدرة على استجماع قوتنا، والتوجه نحو المستقبل بما عهد دائما في حزب القوات الشعبية من تضحية ونكران ذات وإخلاص للمصلحة العليا للبلاد وفتح أبواب الأمل في غد أفضل. إن هذه الدورة تأتي بعد انتهاء مسلسل انتخابي بدأ باقتراع 12 يونيه 2009 وانتهى بتجديد ثلث مجلس المستشارين. وسيكون من الضروري الانكباب على نتائج هذه الاستحقاقات ، بما يلزم من تحليل دقيق واستخلاص للدروس، ليس فقط للوقوف على الاختلالات والانحرافات، ولكن أيضا وبالأساس لتحضير أجوبة مقنعة للمستقبل تدعيما لبنائنا الديمقراطي ودفاعا عن مصداقية مؤسساتنا ودورها في بناء المغرب الحديث. إن المكتب السياسي سيحرص على تقديم تقييم أولي لهذا المسلسل الانتخابي أمام مجلسنا الوطني بكل ما يلزم من موضوعية ونقد ذاتي لبلورة كل الأجوبة السياسية والتنظيمية التي سيكون علينا تقديمها لمناضلينا وللرأي العام الوطني. كما تأتي هذه الدورة في أجواء احتفائنا بالذكرى الخمسين لتأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهي مناسبة لاستحضار الأدوار الرئيسية التي اضطلع بها حزبنا في النضال من أجل التقدم والحرية والديمقراطية، تلك الأدوار التي جعلته دائما في قلب القضايا التي عرفها المغرب المستقل، وفي كل المواعيد التي أثرت بعمق في تحولات بلادنا وفي إصلاحاتها الأساسية. إنها مناسبة لنؤكد مرة أخرى أن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سيظل وفيا لقيمه ولمثله العليا، ولشهدائه الأبرار، وأنه سيستمر بأجيال جديدة من المناضلين المخلصين مناضلا من أجل ترسيخ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ومن أجل بناء دولة ديمقراطية حديثة تضمن لنساء ورجال المغرب حياة كريمة، ومشاركة واسعة في الحياة العامة. وأخيرا فإن هذه الدورة تنعقد في أجواء الاحتفاء بذكرى المسيرة الخضراء التي كانت منطلقا لاستكمال وحدتنا الترابية، والتي أكد عاهل البلاد بمناسبتها تشبث المغرب بمقترح الحكم الذاتي وإرادته الراسخة في إقامة جهوية موسعة، وفي تطبيق خطة تنموية متجانسة وفعالة. وإنها لمناسبة لنؤكد مرة أخرى استنكارنا لخطط التأزيم التي ينهجها أعداء وحدتنا الترابية، ودعوتنا على وجه الخصوص لأشقائنا في الجزائر، بأن ينبذوا، كما فعل المنتظم الدولي، الأسلوب العقيم والمتخلف لدعاوى الانفصال والتفرقة، وبأن يرجعوا إلى فضيلة الحوار والتآزر، التي لا غنى عنها لبناء المغرب الكبير، وبأن يدركوا بحكمة وتواضع أن المغرب الذي اختار بمحض إرادته أن يفسح المجال أمام كل أبنائه لبناء مغرب الغد، لن يتنازل أبدا عن سيادته ووحدته الترابية، وسيعمل بإرادة كل قواه الحية على توفير كل الشروط التي تجنب منطقتنا كل ما من شأنه أن يزعزع الاستقرار والأمن لشعوبنا، وكل ما من شأنه أن يفوت عليها فرصة بناء قوة اقتصادية قادرة على ربح رهانات المستقبل. وعلى المستوى الاجتماعي تتسم المرحلة الحالية بدينامية تشريعية متميزة لتأطير العمل الاجتماعي والنقابي من أهم مظاهرها مأسسة الحوار الاجتماعي الذي ندعو إلى الارتقاء به إلى ما يجعل منهجيته أكثر فعالية ومردودية. أخواتي إخواني لقد مرت اليوم سنة على مؤتمرنا الثامن، ومن واجبنا جميعا أن نقف عند تفاصيل هذه التجربة، ونناقش ما حققناه وما لم نستطع تحقيقه بروح من المسؤولية والتجرد. ولن يكون كافيا أن نقف عند حدود النتائج الكمية، بل يجب أن نرى ما إذا كان حزبنا قد فتح صفحة جديدة في حياته السياسية بعد المؤتمر، أم أنه ما زال قاصرا عن إحداث التحولات اللازمة التي تجعل منه وفقا لشعار المؤتمر حزبا متجددا حزبا محركا للحياة السياسية، ومنتجا للمبادرات والمشاريع الجديدة. ومهما كانت رؤيتنا لما أصبح عليه الحزب سنة بعد المؤتمر، فلابد أن نعبر عن تقديرنا واعتزازنا بالعمل الجدي والدؤوب الذي قام به الاتحاديات والاتحاديون في كل الأقاليم والجهات وفي عدد كبير من القطاعات، من أجل استعادة مكانة الحزب ودوره في المجتمع. لقد ألح مؤتمرنا الثامن على ضرورة التوجه إلى المستقبل بالتأكيد على ضرورة الإصلاح السياسي والدستوري، وبالانخراط في إصلاحات لا تقل جوهرية تهم القضاء والتعليم والإدارة والاقتصاد وربط المؤتمر ربطا وثيقا بين التوجه نحو هذا الأفق الإصلاحي وبين مواصلة جهودنا داخل الحكومة. ولقد قمنا بما اعتبرناه واجبنا تجاه المؤتمر وبيانه السياسي، فوضعنا مذكرة بمضامين الإصلاح الذي نطمح إليه، ورفعناها إلى جلالة الملك، مقدرين أن هذا الإصلاح يتوقف إلى حد بعيد على ما سيبادر إليه جلالة الملك في هذا الإطار، وعلى ما سيتبلور من توافق وطني حول مضمونه. كما حرصنا على جعل الكتلة الديمقراطية منطلقا ومنبعا لهذه المبادرة، لكننا تفهمنا أيضا موقف حلفائنا، واعتبرنا أن مبادرتنا التي تطابق التزامنا خلال المؤتمر الثامن، ستلتقي حتما مع كل الإرادات المخلصة لإنجاز الإصلاح، وأن تقديمها بشكل منفرد لا يعني توقف الحوار والتنسيق والعمل المشترك من أجل بلوغ الهدف المنشود. وحرصنا كذلك على تحضير الشروط الكفيلة ببناء القطب الاشتراكي اليساري الواسع، معتبرين أن الأمر يحتاج إلى حوار عميق حول الأهداف، وسبل العمل المشترك، وحول تجربة اليسار عموما في نجاحاتها وإخفاقاتها، لأننا نريد تحقيق هذا البناء اعتمادا على حوار وطني جريء، وعلى عمل ميداني فعال على الأصعدة البرلمانية والنقابية والجمعوية وليس على مجرد اتفاقات شكلية أو فوقية. ومن المؤكد أن عملا كبيرا مازال ينتظرنا في هذا الإطار، لتحقيق مطلب القواعد الحزبية الاشتراكية في كل تعبيرات اليسار. لقد كان لزاما علينا بعد المؤتمر أن نتوجه إلى المعارك الانتخابية، منسجمين مع الشعار الذي رفعه الاتحاديون حول ضرورة الدفاع عن مكانة الحزب واستعادة دوره كاملا في الحياة السياسية الوطنية. ولقد حرصنا في هذا الإطار على تجديد أساليب العمل بإعطاء أهمية بالغة للتنظيم الجهوي، ولجعل هذا التنظيم إطارا لبلورة اختيارات الحزب سواء على مستوى لوائح المرشحين أو البرامج المحلية المقدمة للناخبين، أو التحالفات الممكنة بعد إعلان النتائج. ورغم ما حققه المناضلون والمناضلات بمجهوداتهم المخلصة في عدد من المدن والقرى من ترسيخ لوجود الاتحاد وجودا مشرفا في ظروف عامة جد صعبة، فإن من واجبنا أن نعترف بأن اختلالات حزبية كبيرة كانت في كثير من الأحيان سببا مباشرا في نتائجنا المحدودة. وسيكون علينا أن نواجه هذه الاختلالات بما يلزم من حزم وصرامة، وفق ما سيشير إليه التقييم الشامل للعمليات الانتخابية والواجب عرضه على المجلس الوطني. كما أن من واجبنا أن نقر بأن تجربة المسلسل الانتخابي الأخير قد أبانت عن استمرار مظاهر الاستخفاف بالإرادة الشعبية المتجلية في استعمال المال وتدخل بعض الإدارات الترابية، وإعادة إنتاج ظواهر من الأساليب القديمة. إن حزبنا يعتبر هذه المظاهر، مخاطر حقيقية تهدد مستقبل الديمقراطية في المغرب، بضربها لمصداقية العمل السياسي، ولمصداقية المؤسسات المنبثقة عنه، وبإشاعتها للإحباط واليأس في نفوس المواطنين، لذلك فإن هذا الوضع يحتم علينا أن نحدد رؤيتنا للمستقبل بكل وضوح ومسؤولية. وحتى نتمكن من ذلك لا بد أن نفهم طبيعة المرحلة السياسية التي نعيشها. ما الذي يجب أن نعمل على ترسيخه وتوسيعه؟ ومَا الذي تنبغي مقاومته؟ مَا هي مكامن الخلل؟ وَمَا هي السبل لمواجهتها مواجهة عقلانية؟ مَا هي المواقف التي يجب أن نبلورها كحزب وطني تقدمي دفاعاً عن الديمقراطية والاستقرار في بلادنا؟ أخواتي إخواني لقد أكد مؤتمرنا الثامن في معرض تحليله للأوضاع السياسية في بلادنا على التعثر الحاصل في الانتقال الديمقراطي، ولقد أكدت كثير من تمظهرات العمل السياسي في بلادنا استمرار هذا التعثر، فبينما كنا نتطلع جميعاً بعد انطلاق تجربة التناوب التوافقي إلى تلاحق سريع في مسلسل تحديث البلاد، تبين بعد فترة وجيزة أن التراكم في مجالات التحديث لم يحدث كما كان متوقعاً، إذ رغم كل الجهود التي بذلت على المستوى الاقتصادي والمالي والاجتماعي، ورغم كل المجهود التشريعي الذي دشن إصلاحات جوهرية في بلادنا، فقد تعثر مسلسل التحديث، وعادت قوى المحافظة إلى إعادة إنتاج أساليب معيقة لتطور العمل السياسي والمؤسسي في بلادنا. إن الأزمة التي نعيشها اليوم هي وليدة لتعثر مسار التحديث، ذلك المسار الذي كان من المفروض أن يطور المجال السياسي ويرسخ العمل الديمقراطي، ويشيع جوا من الثقة والنزاهة في الحياة العامة. إنها أزمة مسلكيات سياسية تمس كل الفاعلين السياسيين، تهم الدولة في تدخلاتها، وفي إدارتها التي لم تستوعب دروس التحولات التي عرفها المغرب، ولم تستوعب ضرورة الحياد السياسي الضروري لبناء كل ديمقراطية حديثة، وتمس المجموعات الوسيطة من أحزاب وجمعيات ووسائل إعلام، وتعني حزبنا الذي استبطن هذه الأزمة وأصبح يعيش تأثيراتها كأزمة داخل الأزمة. كل هذا يعكس ما يعرفه مجتمعنا من تدهور في القيم السياسية والأخلاقية والسلوكات، ومن غياب للمرجعيات، فهناك مجموعة محدودة تتبنى القيم الكونية وتتصرف بمقتضاها، ومجموعة أوسع تأثيرا تتبنى مرجعيات المال والسلطة، وهناك فئات واسعة لم تعد تجد لنفسها مكانا في هذه الخريطة المضطربة. إنها أزمة تنامت داخل المجتمع، وتغذت من السياسات المتبعة، ومن المراهنات الخاطئة، حتى تجذرت وأصبحت لها قوة ضاربة، وممارسات، وتقنيات وشبكات واتخذت المجتمع رهينة لها ليس في الاستحقاقات الانتخابية فحسب، بل ولكن في الحياة العامة برمتها.