سؤال المفاضلة بين نموذجي التنمية الصيني والهندي سؤال مطروح منذ أكثر من عقد. وقد كان الرأي الغالب في معظم الصحافة الأنغلوساكسونية أن النموذج الهندي أفضل، على أساس أن من الأحسن لبلد أن يكون معدل نموه الاقتصادي في حدود 6 أو 7 في المائة، مع ممارسة ديمقراطية راسخة وحريات عامة مضمونة (مثلما هو الشأن في الهند)، على أن يتجاوز هذا المعدل نسبة 10 في المائة، مع تشديد للدكتاتورية وتقييد للحريات (مثلما هو الشأن في الصين). إلا أن النموذج الهندي قد فقد بريقه أخيرا حتى لدى بعض أشد المتحمسين له. فما الذي تغير في المعطيات الأساسية للقضية، حتى يتغير الرأي؟ لم يتغير أي شيء. كل ما في الأمر أن أحداث العامين الماضيين شاءت أن ينضاف إلى معايير المفاضلة بين الدولتين عنصر جديد هو معيار الأداء التنظيمي في المجال الرياضي! فبينما كانت الدورة الأخيرة للألعاب الأولمبية في الصين عام 2008 مثالا في دقة التخطيط وجودة التنظيم، كانت دورة ألعاب دول الكومنولث في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي في الهند فضيحة ندر مثيلها في الفوضى والرداءة والقذارة... حتى أن الصحافة البريطانية قد أطلقت عليها اسم ألعاب 'الكمنفلث' (علما أن كلمة 'فلث' تعني شدة الوسخ)! بل إن 'الإكونومست'، التي هي من أبرز المعجبين بالنموذج الهندي، قد اضطرت، رغم اجتراحها لنظرية ملطّفة مؤداها أن ما يعوض عن ضعف الدولة في الهند هو قوة شركات القطاع الخاص (وهذا هو الأهم في رأيها)، إلى الإقرار بأن مستوى تنظيم دورات الألعاب الرياضية هو عنصر هام من عناصر الصورة التي يكوّنها الرأي العام العالمي عن أي بلاد، بصرف النظر عن مدى تطابق هذه الصورة مع الحقيقة. في هذا السياق بالضبط تندرج دلالة المونديال (كأس العالم لكرة القدم) باعتباره الحدث الكوني الفارق بامتياز. إذ لم يعد في وسع أي مهتم بالسياسة الدولية المعاصرة أن يتجاهل حقيقة أن المونديال قد صار، في عالم اليوم، مرآة لمدى تقدم الدول في إنشاء المرافق الارتكازية في قطاعات مثل الرياضة والمواصلات والسياحة، ومحكاّ لمدى قدرتها على التخطيط والإدارة. هذا فضلا عن أن أهمية المونديال، كمهرجان تسويقي وقوة جذب استثماري بالنسبة للبلد المضيف، إنما هي علامة من علائم كثيرة على الأهمية المتعاظمة لكرة القدم في العلاقات الدولية، على النحو الذي بيّنه مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس باسكال بونيفاس في كتابه الذائع الصيت 'كرة القدم والعولمة'. أما أحدث الأدلة، وأسطعها، على خطورة التحولات الجيوسياسية التي شهدتها الظاهرة الكروية أثناء العقد الأول من هذا القرن فهو فوز قطر (التي سارعت فأعلنت أن هذا فوز لجميع العرب) باستضافة مونديال 2022. تحولات جيوسياسية عالمية مشهودة ربما يكون أوباما، وهو السياسي المثقف، مدركا لها نظريا. لكن من الواضح أنه عاجز عن استيعابها وجدانيا. وإلا ففيم هذا الموقف السلبي الذي أعلنه من فوز قطر؟ ربما كان يمكن التماس وجه من وجوه العذر له لو أنه كان ينتمي لدولة من كبريات الدول في المجال الكروي لا تزال تجد صعوبة في التحرر من وهم اعتقاد قديم بأن التنافس على استضافة المونديال هو حكر على الكبار. لكن الولاياتالمتحدة ليست من الدول التي يعتدّ بها لا في سياسة المونديال ولا في ثقافة كرة القدم. فلا يبقى إذن إلا تفسير وحيد: وهو أن أوباما قد دخل سباق المونديال بمنطق 'الريالبولتيك' ظنا منه أن ترتيبات أوضاع كرة القدم لا بد أن تعكس واقع موازين القوى الدولية. غريب أن أوباما لا يبدو متفطنا إلى حقيقة أن 'كرة القدم متقدمة على الجغرافيا السياسية' (حسب تعبير باسكال بونيفاس) بمراحل تاريخية. وغريب أنه لا يبدو متفطنا إلى أن كرة القدم قد دخلت طور التعددية القطبية منذ زمن بعيد، بحيث أن عالم السياسة والاقتصاد قد بدأ الآن في محاكاة عالم كرة القدم. أما الأغرب فهو أن وثائق ويكيليكس لم تتضمن حتى اليوم ما يفيد بأن الطبقة السياسية الأمريكية أدركت (وأفهمت الرئيس) أن نفوذ 'الفيفا' أوسع وأبقى من نفوذ واشنطن... وأن الباحثين قد يختلفون على مكانة الولاياتالمتحدة، أما آلاف ملايين الجماهير فلا خلاف بينها على أن القوة العظمى الوحيدة في عالم اليوم إنما هي امبراطورية كرة القدم. القدس العربي