ذاكرة سينمائية للبيع على قارعة الطريق تُعرّف السينما بركائز ثلاث؛ صناعة، فن، وتجارة، وقد ينحاز المُنتَج السينمائي إلى ركيزة دون غيرها فيتحدد معها هوية وجودة الفيلم، كأن يكون الفيلم تجاريا أو يكون فنيا، وتعتبر أفضل الأفلام السينمائية تلك التي توازن بين هذه الركائز الثلاث، مع ذلك تحتفظ ركيزة الفن بأهمية خاصة، إذ أنها تمنح الُمنتَج السينمائي بعد ثقافيا، يحمل مضمونا له تأثير على المتلقي، مهما اختلفت قيمة ونوع المضمون، ومهما اختلفت مستويات التلقي والتأثر، لذلك بعد مضي زمن على هذه الأفلام المنتجة، تصبح جزءا من التراث الثقافي للبلد المُنتِج، الذي تنعكس من خلاله ثقافة المجتمع ومزاجه وتقلباته وتوجهاته ومستوى حرية التعبير لديه في المرحلة التي أنتج بها، وبناءا عليه لنا أن نتساءل كيف لأي دولة كانت أن تبيع ذاكرتها السينمائية -التي هي بالضرورة جزء من ذاكرتها الثقافية- مهما ارتفع الثمن المعروض؟ يتبادر هذا السؤال في الذهن عند قراءة أخبار تتحدث عن بيع ثلثي أصول أفلام السينما المصرية التي تتجاوز ال 3000 فيلم والمنتجة على امتداد أكثر من مائة عام – هي عمر السينما- إلى جهات غير مصرية ذات رؤوس أموال ضخمة كشركتي؛ "ايه ار تي" و"روتانا"، فكان حري بوزارة الثقافة أو اتحاد الإذاعة والتلفزيون في مصر شراء هذه الأفلام من أصحابها الذين تعود ملكية الأصول إليهم، للحفاظ عليها في مكتبة التلفزيون التي لا تحتكم الآن إلا على أقل من 200 فيلم من الثلث المتبقي. عدم اكتراث الحكومة المصرية إزاء شراء أصول الأفلام المصرية، يبدو غير مفهوما عندما نشهد تصعيدها للموقف من استرجاع آثار فرعونية، بإصدار قرار يقضي بوقف التعامل مع متحف اللوفر الفرنسي وجميع المتاحف والبعثات الأجنبية التي تقتني آثارا مصرية مسروقة، الأمر الذي حدا بالرئيس الفرنسي ساركوزي أن يكلم الرئيس المصري هاتفيا ويؤكد له أن متحف اللوفر سيعيد الآثار الفرعونية المسروقة خلال أسبوع، إذ يبدو من هذا التباين في الموقف أن الحكومة المصرية لا تضع فن السينما على ذات الدرجة من الأهمية مع الآثار الفرعونية، بالرغم من أن كليهما يحمل ذات القيمة بما يشكلان تاريخا وذاكرة للبلد، تستدعي نفس القدر من التشبث للاحتفاظ بها، فبيع اغلب أصول الأفلام المصرية لغير المصرين أو لجهات مصرية غير معنية في الحفاظ عليها، يعني أن يصبح تراث السينما المصرية في مهب الريح يحكمه مزاج ومصالح مالكيها، فقد يصبح عرضة للبعثرة مثلا فيما لو قررت إحدى هذه الجهات المالكة أن تبيع الأفلام لأكثر من جهة ولمن يدفع أكثر، أو عرضة للضياع فيما لو قررت هذه جهة أو تلك أن تحرق جميع أصول هذه الأفلام لسبب ما، فمن يستطيع منعها؟ وقد يعني هذا في ظل وجود كيانات سينمائية كبرى وفضائيات تمتلك رأس المال ضخم احتكار هذه الأفلام ويمكن لاحقا أن لا تكون متاحة للمشاهدة إلا عبر القنوات المشفرة، نقول هذا دون أن نغفل ما يعنيه شراء جهات حكومية أصول الأفلام المصرية أو على الأقل شراء أهم الأفلام التي شكلت علامات فارقة في تاريخ السينما المصرية والعربية، فهذا يعني أموال طائلة لا قدرة للدولة عليها، لكنها لو نظرت للأمر على أنه حماية ذاكرة سينمائية ثقافية من الضياع ومنع الاحتكار لاختلف الأمر، بالإضافة إلى أهمية إيجاد مكتبة سينمائية تعود ملكيتها للحكومة المصرية يُحتفظ بها بنسخ من هذه الأفلام لتشكل أرشيفا مصريا، تماما كما تحتفظ مكتبة الكونغرس بنسخ من الأفلام الأمريكية، وإلا ستبقى ذاكرة السينما المصرية، في قبضت أصحاب رؤوس الأموال الضخمة وحكرا على شركاتهم الخاصة، فشركة روتانا مثلا والتي سيمتلك روبرت مردوخ -اكبر داعم للصهيونية- خمسها مع مطلع العام القادم، تحتكم على أضخم مكتبة أفلام عربية، تقدر ب 60% من حصة السوق. هذا عن تراث السينما المصرية، فماذا عن ذاكرة الزمن القادم من السينما المصرية التي تتشكل الآن؟ تخيم على صناعة السينما المصرية اليوم، هيمنة الكيانات السينمائية الكبرى، والتي هي شركات إنتاج سينمائية ذات رؤوس أموال ضخمة، تؤهلها لامتلاك ركيزتي السينما؛ الصناعة، والتجارة، من الإنتاج إلى توزيع الفيلم وعرضه، من دون أن تتمكن اغلب تلك الكيانات من الإمساك بناصية الفن، مما أدى إلى هبوط المستوى الفني، كما أنها لم تتمكن من زيادة عدد الأفلام المنتجة في السنة الواحدة كما كان حال السينما المصرية في عصرها الذهبي ستينات وسبعينات القرن الماضي، فكانت عدد الأفلام حينها يتجاوز المائة فيلم، أما الآن فلا تتجاوز الثلاثين فيلما، كما أن وجود هذه الكيانات السينمائية الكبرى عزز مناخ الاحتكار لا التنافس، من اجل هذا أخذت الدولة المصرية على عاتقها المبادرة بتحويل "جهاز السينما" -وهي مؤسسة حكومية تابعة لمدينة الإنتاج الإعلامي في مصر- إلى شركة مساهمة باسم "شركة مصر للسينما"، لتصبح أول كيان مصري يعتمد بشكل كامل على رأس مال وطني يتجاوز ال 200 مليون جنيه، ويساهم فيه عدد من بنوك مصر، وشركات التأمين في شراكة مع الدولة، وضعت هذه الشركة خطة طموحة لتطوير البنية التحتية لصناعة السينما المصرية وتطوير دور العرض، وزيادة عدد الأفلام المنتجة، وإنشاء قطاع خاص لتوزيع الأفلام، والارتقاء بالسوية الفنية السينمائية، والحفاظ على الهوية المصرية للأفلام المنتجة، وإرساء حالة من التوازن، وتعزيز روح المنافسة والتخفيف من حدة الصراع وكسر الاحتكار، لكن هذه الشركة فشلت على ارض الواقع ولم تتمكن من تحقيق الغاية المرجوة منها، كما حاولت أيضا بعض الشركات الصغيرة الاندماج لتشكل كيان سينمائي ضخم تتمكن من خلاله البقاء والصمود في وجه تلك الكيانات الكبرى، كتجربة شركة "الفن السابع" التي اندمجت فيها شركات كل من يوسف شاهين "أفلام مصر العالمية" و"العدل جروب" و"الماسة" و"المنتج وائل عبد الله، لكن أيضا هذه التجربة لم تفلح، فيبدو أن الأرضية كانت ممهدة فقط للتحالفات الكبرى الطويلة الأمد، كما حدث في أيار الماضي بين أربع كيانات إنتاجية سينمائية مصرية وعربية ضخمة، وهي شركة جود نيوز، والمجموعة الفنية المتحدة (أوسكار، النصر، والماسة)، ومجموعة ال ايه آر تي، وشركة السينما الكويتية الوطنية، لتفتح هذه التحالفات السينمائية الأسواق الخليجية والعربية أمام الأفلام المصرية، وكمخرج لانعكاس الأزمة الاقتصادية العالمية على صناعة السينما المصرية من ناحية أخرى، لكن هذه التحالفات قد تخلق تبعات سلبية أخرى بالإضافة إلى تصعيد الاحتكار، فرأس المال العربي والخليجي الذي يُفتح له الآن الباب على مصرعيه للسيطرة على صناعة السينما في مصر، قد يفرض رؤيته، وثقافته، وشروطه، ورقابته على الأفلام وموضوعاتها وسيناريوهاتها، وعلى الملابس الممثلين، والمشاهد الجريئة ...، وهناك تجارب سابقة تعزز هذا التوجس، الأمر الذي قد تفقد معه السينما المصرية هويتها الخاصة، وهامشها من حرية التعبير. لنا في النهاية أن نسأل في ظل سيطرة رؤوس الأموال العربية اليوم على صناعة السينما المصرية: ما شكل الذاكرة السينمائية القادمة التي ستترك مصر لأصحاب رؤوس الأموال العربية فرصة صياغتها؟ وإذ تستودع مصر حاضرها السينمائي الآن كما سبق وان استودعت ماضيها السينمائي في أيد أصحاب رؤوس الأموال العربية، عندما تخلت لهم عن اغلب أصول الأفلام التي أنتجتها على امتداد أكثر من مائة عام، فماذا سيتبقى لمصر من الذاكرة بعد؟ رانيه عقلة حداد هذا البريد محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته ''الفوانيس السينمائية'' نرجو التفضل بذكر المصدر عند الاستفادة