" فضائي هو مكان بالنسبة لك وفضاؤك هو مكان بالنسبة إلي " تأتي هاته الورقة البسيطة في إطار أصبح من اللازم أن نجزم فيه بأن موجة الفيلم الوثائقي أصبحت واقعا لا مفر منه، وبالتالي فإذا كان القرن 20 قد عرف الإرهاص الأول لاختراع الفعل السينمائي الذي خلق لنا موجات ومدارس لا مثيل لها في عالم السينما من خلال أفلام وتحف روائية، فإنه يمكن القول بأن القرن 21 سيكون لا محالة قرن الأفلام الوثائقية من دون منازع، في هذا الإطار إذا جاز لنا القول بأن الأفلام الوثائقية التي أنتجت خلال القرن الذي ودعناه اهتمت في جانب كبير منها بالهموم والقضايا الكبرى ذات الاتصال المباشر بالمصير، طبعا مصير الشعوب والأنظمة والجغرافية والتاريخ، وبكل ما يتصل بالحروب والثورات والاستعمار وقضايا التحرر والاحتلال والاستقلال، وصولاً إلى الهوية والإرث الجماعي كرؤية ظلت تحكم الإبداع العربي عموما ، فإنه بالمقابل بات من الواجب الاعتراف بأن المعاش اليومي للإنسان ظل مغيبا ربما لصعوبة تناول الموضوع خصوصا مع شبه حضور للأنظمة الديمقراطية التي تسمح بملامسة أو تناول الهامش . في هذا الإطار وأمام الانفراج الذي أصبح عليه مشهد حرية التعبير في الوطن العربي عموما، و في وطننا العزيز على الخصوص ، يأتي عمل المخرجة بشرى إيجورك الذي هو بحث مستفيض لهاته المخرجة الشابة وللباحثة الصحفية خديجة العامودي ، طبعا هو عمل صعب التناول خصوصا إذا تعلق الأمر بسيناريو مبني على شخصية محورية اسمها الفضاء، وطبعا فقد يظن البعض أن الفيلم يتناول ظاهرة ناس الغيوان بل بالعكس من ذلك فأعضاء فرقة ناس الغيوان ماهم إلا أناس أنشأهم وجود اجتماعي من عيار مكان ثقيل اسمه " الحي المحمدي " في مدينة يحكى انها بيضاء لكنها تنبني على كل أنواع المتناقضات والذي سيتحول بالطبع إلى فضاء. وكما قد يظن البعض أن فيلم " الحي المنسي " يتناول بالدرس والتحليل الموجة الفنية التي عرفها المغرب خلال فترة الستينيات وبداية السبعينيات بل بالعكس من ذلك إن الفيلم يتناول المعيش اليومي لهذا الحي الذي أنشا مجموعات فنية من طينة فرقة ناس الغيوان وتكدة... وكذا فرق مسرحية كانت معروفة أنذاك وكانت لها اليد الطولى في خلق ما كان يعرف بالمسرح الملتزم . والفيلم أيضا لا يتناول سيرة أحد من أولئك الذين أثثوا فضاء " الحي المحمدي " طبعا " الحي المنسي" كما لقبته صاحبة الفيلم كما يظن البعض، إن الفيلم في نظري هو مزيج من فضاءات أناس عاشوا حقبا مختلفة وبسيكولوجيات تكاد تقترب وإكراهات جربها البعض والبعض عاينها فنال يذلك مرتبة التجريب، التحمت وتلاقحت وتناقضت في كثير من الأحيان فأنتجت لنا هامشا اسمه فضاء " الحي المحمدي" ، حينما نقول الهامش فنحن لا نقصد الجانب القدحي/ الفضائحي لذلك الفضاء ، بل بالعكس من ذلك، إن الهامش هو وليد ميكانيزمات اجتماعية سياسية فكرية،....بل أكثر من ذلك إن الهامش هو خليط من تراكيب سيكولوجية نفسانية وسوسيولوجية، خليط من المرارة والفرح، خليط من الفقر المادي والغنى الروحي، إن الهامش هو نوستالجيا وتداخل الذات في الموضوع، لقد استطاعت مخرجة الشريط في كثير من مشاهد الشريط أن تؤنق جل الأماكن التي يحلو لنا ان نقول إنها ليست جميلة طبعا بواسطة الصورة. فيلم " الحي المحمدي الحي المنسي " ولو أنه منسي كما يعتقد ولكنه يذكر كل واحد منا بشيء من فضاءاته التي عاش فيها بذكرياته، أحلامه، مشاكساته مع البقال وبائع " الزريعة " وصاحب الفرن وإسكافي الحي .. بتحرشاته ومعاكسته لضيفات الحي من الفتيات، وطبعا ففتيات الدرب كان من الصعوبة بمكان أن يتجرأ عليهن أحد، كان كل واحد منا يخلق من حيه الأسرة الكبيرة، وكانت " وصلة الخبز " هي واحدة من المقدسات التي كانت تكرس أصرة القرابة والأخوة بين أفراد الدرب. فيلم " الحي المحمدي الحي المنسي " يحمل في طياته ملمحا من ملامح ما أصبح يعرف " بالسينما المشاغبة " التي تكسر الطابوهات وتحاصر ما يعتبر وما يعد مقدسا بالطبع السياسي أو الفكري والثقافي أو حتى المعاشي .... فيلم " الحي المحمدي الحي المنسي " لا يمكن بأية حال من الأحوال أن نختزله في شخص فرقة موسيقية أو فرقة كوميدية .... ، كما لايمكن أن نختزله في فضاء مثل درب مولاي الشريف أو سينما السعادة... بل هو كل لا يمكن تجزيئه أو تقزيمه، هو كيان يشكل وحدة اجتماعية بضجيجها وأنين طبقاتها المسحوقة، ماكان للحي المحمدي أن يصبح فضاء للنوستالجيا إلا بأوضاعه الاجتماعية والفكرية والجمعوية ... التي خلقت لنا فيما بعد أناس مقاومين بموسيقاهم ورسوماتهم التشكيلية وحلقاتهم الكوميدية التي كنت تجدها أينما أحللت وارتحلت بأمكنة الحي المحمدي : شحصية خليفة وقرزز والمحراش وانعينعة ولمسيح والثنائيات التي كانت تؤثث ذلك الفضاء.... وغيرهم كثير هم من وضعوا لبنات حجر هذا الفضاء الذي هو منسي من طرف من تنكروا لجميله ومنسي من طرف أجيالنا الصاعدة هاته المدجنة بكل أنواع التعولم الذي تدعي العولمة. إن الحي المحمدي كفضاء مثله مثل كثير من الفضاءات التاريخية المغربية المقاومة والتي يجب أن ينتبه لها حتى لا تنسى ... فضاء الحي المحمدي هو نموذج الفضاءات المغربية الموشومة الذي جمع كل الشرائج المجتمعية لوطننا الحبيب بامتياز ..... جمع كل الفخذات بل كل الدواوير المشهورة والقبائل في مغربنا العزيز، فأنتجت لنا خليط متماسكا من أناس وحينما نقول النموذج فالضرورة تقتضي من مخرجينا أن ينتبهوا بعين الدقة والإخلاص لكثير من الفضاءات التي ستطوى إلى الأبد إن هي لم تخرج بحرقة إلى الوجود على شاكلة " الحي المحمدي الحي المنسي " الذي كان مكانا، فتحول إلى فضاء بفعل تكتل مجموعة من الأسباب ... التي كان يعيش عليها الإنسان المغربي خلال فترات ما بعد الاستعمار وما بعده وهذا هو الأهم . فيلم " الحي المحمدي الحي المنسي " كعمل فني اعتمد استنطاق الأمكنة خلق لنا انطباعا مفاده أن كل فضاء هو مكان وليس كل مكان فضاء ولكن لنتفق جميعا من خلال تمثلات مسبقة بأن مستشفى المجانين أو السجن كأمكنة ... هي فضاءات نتمثل دواخلها وطقوسها ولو لم نقعد بين جدرانها لا قدر الله ولو لهنيهة، إذا كان الأمر كذلك فإنه يبقى من الصعوبة بمكان أن أتمثل أمكنة ذكرياتك الجميلة وغير الجميلة التي طبعت شخصيتك وخلقت من مكان وجودك وتواجدك فضاء تحن إليه حينما تبتعد عنه أو تتنهد كلما تذكرت أحد البصمات التي ظلت مرسومة على شخصيتك، وهذا أحد السمات التي تميز الفيلم الوثائقي عن غيره، الذي يسعى قي المقام الأول إلى المعالجة الخلاقة للواقع والمجتمع كما اتفق على ذلك جل الدارسين . حسن مجتهد مهتم بالسينما يوليوز 2009 الدارالبيضاء الهاتف : 0670351812 ''الفوانيس السينمائية''