مقدمة لابد منها: السينما مصطلح يحمل بين طياته العديد من الدلالات الموجهة لعمق الفكر والوجدان الإنساني، يلمس أرض الواقع بصوره الملغمة لتنفجر وتصيب شظاياها مكامن الخلل داخل مجتمع معين. السينما في شكلها ومضمونها فن سام، راق، يساهم في بلورة فكر غير مصطنع، نابع من الكينونة الداخلية للإنسان الحضاري، فن يفرغ الرسالة التعبيرية والفنية والإبداعية التي بدأها المسرح قبله، في قالب مصور يستمد جذوره من الهم الإنساني، يغوص في الواقع ومآسيه، يعانقه بأسلوب هادف، متزن، غير منحط.. لكن، للأسف ما نراه الآن من إهمال بعض المخرجين المغاربة للجانب الأخلاقي لهذا الفن، وتجاوزهم للحرية التي اكتسبها هذا القطاع مؤخرا، ساهم في تمرير خطابات مشفرة، فردية، بعيدة كل البعد عن التناغم الداخلي الذي يتشكل منه المجتمع، وأعني هنا، التناغم الأخلاقي، النابع أساسا من الأسر المغربية المحافظة، التي بفضلها مازال هيكل المجتمع وقواعده الأساسية صامدة. وهنا لا أعمم بالطبع، إذ هناك أسر أخرى ذات نمط غربي، غريب، خارجة عن هذه المنظومة ولعبتها، لكن هذا لا ينفي تشبع الأغلبية الساحقة من الأسر بكل طبقاتها بالتربية المحافظة، البعيدة عن السلوكيات المقززة، المشبوهة، الشيء الذي يجبرنا ويلزمنا على احترام مشاعر وأخلاق هذه الأغلبية، لو كنا ديمقراطيين فعلا ، ونحمل رؤية صادقة نتوق إلى تعميمها على الكل، لأن السينما أولا وأخيرا وسيلة أساسية وفعالة لتهذيب النفس والفكر، لا لتخريبهما معا. وهذا ما يدفعنا إلى تحليل بعض النماذج السينمائية المغربية، لا أقول شاذة، لكنها للأسف الشديد تحتوي على جرعات مختلفة النسب من حيث الخطورة بما كان على هويتنا وأخلاقنا الاجتماعية، وسأكتفي هنا بنموذج واحد أثار حفيظة الرأي العام ، وأسال الكثير من المداد في مختلف الصحف والجرائد، ولا بأس أن يسيل قلمي بدوره بعضا من هذا المداد مادامت مشاعرنا تستهدف هكذا جهارا، والسينما المغربية تفتض بكرتها بواسطة أفلام أقل ما يقال عنها أنها مستلبة الهوية، بعيدة عن واقعنا الأخلاقي، ومجانبة للمآسي الحقيقية التي يتخبط فيها مجتمعنا، رغم أن مخرجيها حاولوا ويحاولون بكل جهدهم إلصاقها بسينما الواقع. حصد فيلم كازانيكرا لنور الدين لخماري الكثير من الامتعاض والسخط، أكثر من الفرجة والمتعة، لجرأته الزائدة ليس في معالجة موضوع ما أو قضية معينة، إذ أن موضوع الفيلم سبق تناوله في العديد من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، بل في قدرته العجيبة على جلب أعتى الشتائم وأحط الكلمات النابية من الشوارع، وتفريغها في الصالات العمومية، التي غالباً ما يكون روادها من المراهقين والشباب بالإضافة إلى الأسر المحترمة التي سيفقدها الفيلم لا محالة بسبب هذه اللغة الصادمة، عوض كسبها واحتضانها، و لا أشك هنا أن للمخرج هدفا آخر من وراء استعمال هذا الأسلوب، ربما كدعاية خلفية، قد تكون ناجحة في نظره !!!. الفيلم بين رداءة الحوار وبعض المشاهد السطحية جميل أن نعري واقعنا ونعبر عن رؤية انغمست في الهم الاجتماعي والأخلاقي لمجتمعنا، لكن ليس بهذا الأسلوب (المنحط) الذي حاول الشريط إيقاظه من بين حمولة مشبعة بالقيم والفضيلة، تحت ذريعة الواقعية، التي حرفت عن مسارها العام، وبترت بالتالي معاني هذه القيم، التي أصبحت في الفيلم مجردة من روابطها الإنسانية المطلقة، التي ميزتها عن النزعة الحيوانية (القطيعية)، ليجد المشاهد نفسه أمام بعض اللقطات غير الضرورية التي كان من الممكن تفاديها، أو معالجتها بطريقة ذكية غير خادشة للحياء، كالصورة الرديئة التي برز بها الممثل ادريس الروخ وهو يمارس العادة السرية، وهنا يستحضرني مشهد من المشاهد الرائعة للممثل خالد صالح الذي يمكن مقارنته بالمشهد المذكور البعيد كليا عن الابتذال والانحطاط، في فيلم هي فوضى، وهو مستلق فوق سريره أمام صورة ضخمة لفتاته، المتيم بها، هائما في أحلامه الجنسية معها، هذا دون أن يتجاوز المشهد حدود المعقول ويستفز مشاعر المتلقي.. فاللبيب بالإشارة يفهم، لكن للأسف هناك من المخرجين - خاصة ذوي تكوين غربي - من يحمل تصورات أخرى عن الجمهور المغربي، بعيدا عن واقعه، تصفه بالبلادة والجهل، فيبالغ في إبراز الواضحات مع أن المشاهد يمكنه بإشارة واحدة التمييز بين الغث والسمين دون الدخول في تفاصيل مملة وجوفاء، نحن في غنى عنها. هناك لقطات أخرى اقتحمت الشريط دون داع، ليست جنسية بالضرورة، إذ كان من الممكن التخلص منها، أو الاستفادة منها بذكاء، وهنا أذكر على سبيل المثال مشهد البطلين داخل فيلا الرجل الشاذ جنسيا وتصويره إياهما بكاميرا محمولة، لم نتمكن من بعد، كجمهور يهمه الحدث وتفاصيله، من معرفة جدوى هذه العملية، التي لم تستغل بشكل جيد داخل مسار الأحداث المتوالية في المشهد نفسه، إذ كان من الممكن تكسير الكاميرا أو الشريط من طرف أحد البطلين كاحتياط واجب في مثل هذه الحالات. إلى جانب الحوار البسيط ذي اللغة الرديئة، واللقطات المقحمة دون سبب، نجد الفيلم في بعض الأحيان يجرد شخصياته أو أحداثه من دور البطولة على حساب الديكور. كما أنه لم يبلور لنا قصة، مركزة، واضحة، بالمفهوم المتعارف عليه، تهدف إلى تجميع خيوط الأحداث كلها في سلة واحدة، دون الدفع بالمشاهد إلى استخدام طاقته في سبيل نسج الأحداث لتكوين قصة متخيلة قد تكون بعيدة عن الرؤية الإخراجية، هذا إلى جانب الافتقار وبشكل ملحوظ إلى السلاسة في السرد، مما يدفع بالمشاهد إلى الضياع، بين متاهة الديكور والشخصيات من جهة، وبين سرعة تلاحق الأحداث التي أصبحت كيوميات روتينية من جهة أخرى.. بعيدا عن الحوار..قريبا من اللغة السينمائية الفيلم المتقن الصنع هو في الحقيقة لحظة من الحياة، تعيشه بآنيته الراهنة، تتذوق حلاوته الإبداعية، لتنطلق بعد نهايته في تفكيك رموزه واستنباط رسائله، بأبعادها المختلفة الزوايا، من موضوع مختار بعناية، وتصوير جيد، وحوار متأصل يشعرنا بانتمائنا له و بانتمائه لنا. لا أنكر أن الفيلم له جوانب عدة مضيئة كانت ستسمو به عاليا في تاريخ السينما المغربية وتثبته في سجل الأفلام الناجحة شكلا ومضمونا، كعلي زوا لنبيل عيوش، أو الملائكة لاتحلق فوق الدارالبيضاء لمحمد العسلي، أو السمفونية المغربية لكمال كمال أو... لولا ضعف المحتوى والتركيبة البنوية للحوار الذي احتوى على أكثر من 50 في المائة من السب والشتم، الشيء الذي غطى على الأهداف الأساسية التي من أجلها أنشئ الفيلم. الفيلم انطلق من فكرة جوهرية خلقت الأحداث في سياقها الاجتماعي إذ عرض عينة من السلبيات والمتناقضات التي تعيشها مدينة الدارالبيضاء في شكلها الحالي وحاول تكثيف العناصر المكونة لزوايا هذه المرحلة بالذات، الحبلى بالعلل الضاربة في أعماق كينونتنا الاجتماعية، وهنا تكمن قوة الفيلم إضافة إلى بلاغة لغته السينمائية المتقنة التي حكمت مسار رؤيته الفنية وأعطته جمالا شكليا غطى بعض الشيء على لغة حواره العنيفة الصادمة. استطاعت كاميرا الفيلم أن تنتقل بمدينة الدارالبيضاء إلى مدينة أخرى غير فاضلة (الدار الكحلة أو السوداء) أرادها المخرج أن تختزل مكامن الخلل المتجدر في الأولى، وقد وفق في ذلك عبر التصوير المتقن، المحترف، الذي استطاعت بعض زواياه أن تقبض على اللحظات المؤثرة في الفيلم، في قالب زاوج بين الصورة والسيرورة الزمنية في شكلها التجريدي، وهذا يحسب للفيلم الذي بالمناسبة حصل على جائزة التصوير في مهرجان دبي السينمائي. أكثر العناصر إشعاعا في الفيلم العنوان نفسه الذي استخدمه المخرج كوصف لمدينة تقف رمزا للضياع، واهتراء للقيم، وعلامة لقسوة الحياة وبشاعتها، حياة لا تستجيب إلا للقوة والعنف، حياة بعيدة عن الحس الوطني، حياة لا وجود للانتماء فيها، وقد ظهر لنا ذلك جليا عند الشاب الذي ضج من العيش في مدينته، وحاول بكل السبل مغادرتها نحو المجهول حاملا معه حلمه في بطاقة لا تفارقه، تحمل صورة مدينة أخرى بعيدة كل البعد عن الدارالبيضاء. كما أن كيفية تداول العنوان الرمز داخل الفيلم، وإبراز معناه بطريقة ذكية، أظهرت احترافية متميزة لدى المخرج. بشاعة الواقع تدفعنا في بعض الأحيان إلى التفاعل مع لغته ومجاراته في أساليبه الدنيئة، وهذا ما نجح في تشخيصه شخصيات الفيلم الرئيسية، فالحوار غير المتكافئ مع الواقع المعاش، دفع بقوة الشر الكامنة داخلهم إلى الاندفاع خارجا، والتهام باقي الأشخاص المتواجدين حولهم، حتى الهجرة خارجا أصبحت حلما ساذجا يستمد عزاءه من بطاقات وصور وهمية. قصة الفيلم.. الفيلم يحكي عن شابين، كريم وعادل، وحدت بينهما صداقة قوية رغم اختلاف نظرتهما للحياة، إلا أن مدينة واحدة، وحيا واحدا، وبناية واحدة، والأهم من هذا ظروف العيش المتشابهة، كل هذا، جمعهما وربطهما بمصير واحد مشترك، دفعهما للإقدام على عدة خطوات ومغامرات غير محسوبة، في سبيل استخلاص أحلامهما الصعبة التحقق في مدينة كالدارالبيضاء، التي أضحت كائنا ليليا قاتما يبتلع الكل، حتى الأحلام لم تسلم من أنيابه.. في الحقيقة ليس هناك حدثا رئيسيا معينا، بقدر ما توجد هناك أحداثا صغيرة متفرقة مرتبطة بشخصين رئيسيين يدور في فلكهما شخصيات أخرى ثانوية، أثرت بشكل متفاوت على سيرورة الأحداث، زريرق سيد المدينة بلا منازع، يتسم بالسلطة والوحشية، زوج الأم العنيف الذي ظهر في الفيلم كله يعنف زوجته بسبب أو بدونه. إلا أن اختلاف الوسط الأسري للبطلين، وهذا مهم جدا ويحسب للفيلم، أثر بعمق في توجهاتهما ودفع بكريم الذي يعيش إلى حد ما في وسط مستقر، إلى استخدام عقله والتروي في اتخاذ كل خطوة، وفي بعض الأحيان تأنيب صديقه، عكس عادل الذي يعيش في بيئة ملوثة ومفككة بسبب زوج أمه، إذ يحاول بكل السبل تحقيق حلمه بالهجرة إلى السويد، هذا الحلم الذي أضحى كابوسا مقلقا له ولصديقه. خاتمة لا بد منها: رغم جمالية الصورة في الفيلم واحترافية لغته السينمائية، إلا أنه أهمل جوانب مهمة تمسنا كمجتمع له خصوصياته، إذ كيف يمكننا التقدم سينمائيا، والخطاب الموجه للمغاربة يحمل بين ثناياه العديد من الدلالات المرقونة بأحرف غربية تجعل علامات الاستفهام تتساقط علينا بعد كلمة (النهاية) ليس في كازانيكرا وحده بل في كل فيلم نستبشر به خيرا، ليغدو بعد ذلك الحديث عن التقدم السينمائي ضربا من اللغط، كفانا من مزاحمة الغرب في أفكارهم وأسلوبهم الذي لا يصلح إلا لهم، لنأخذ العبرة من السينما المحافظة، المتوافقة مع حضارتنا وتقاليدنا، ولنا في ذلك أمثلة عدة حصدت جوائز عالمية دون أن تتخلى عن قيمها الأخلاقية، أو تعتدي على ذوقنا العام، كالسينما السورية والسينما الإيرانية والسينما الفلسطينية و غيرها كثير. بقلم: زويريق فؤاد / كاتب مغربي مقيم بهولندا هذا البريد محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته ''الفوانيس السينمائية'' مواضيع ذات صلة: فيلم "كازانيكرا" لنور الدين لخماري : واقع أسود في مدينة البيضاء على هامش مشاهدة فيلم "كازانيكرا"..متى يتصالح السينمائيون مع الأدب المغربي؟ شبيبة كازانيغرا