كل المواضيع جديرة بالتناول السينمائي. ولا شيء يميز المادة الفيلمية كمنجز إبداعي سوى خصوصية هذا التناول. وبالتالي فأي متابعة نقدية أو"محاسبة" فنية، تستمد مشروعيتها من اعتماد المعايير و قواعد النحو الجمالي التي يتكئ عليها صانع الفيلم كمرجعية للمقاربات والمعالجات التي يقترحها. والفيلم الجدير باسمه، هو ذلك المعطى البصري، بكل مكوناته، و الذي يُقدم مقترحاته كعمل إبداعي للجمهور بأدوات تنتمي لعالم الفن السابع، والتي نستطيع معها أن نقول، بأن هذا العمل لم يكن له أن يأخذ شكلا تعبيريا آخر غير القالب السينمائي الذي احتواه. وحساسية المخرج الفنية هي قطب رحى اتجاهاته وترجيحاته الجمالية. فإذا لن ندخل هنا في ما أثاره فيلم "كازانيكرا" للمخرج المغربي نور الدين لخماري، من جدال هو أقرب إلى الفقه منه إلى الفن. وسنُخرج النقاش من ثنائية يجوز ولا يجوز، و من دائرة الحلال و الحرام ، إلى منطق الفكر والجمال. ولأنه يمكن التعاطي مع الفن، شأنه شأن كل المجالات، من زوايا متعددة، المحافظة منها والجريئة، وبعقليات متباينة، تقليدية وأخرى حداثية. فلكل الحق في أن يدلي بدلوه، شريطة أن لا يخنق بحبل بئره من يخالفه رأيه. فيلم "كازانيكرا" الذي أنتج هذا الموسم، تُحسب لنور الدين لخماري فيه جرأة اختيار الموضوع وطريقة تناوله سينمائيا. لقد اختار المدينة قبل كل شيء، مدينة اسمها "الدارالبيضاء" والتي جرها إلى فيلمه دارا سوداء، ليلفت الانتباه للقبح الذي يهدد رونقها. "كازا نيكرا"، كعنوان فيه من التوتُر الدلالي ما يقوض مدلول الاسم الشائع، ويفتح أفق قراءة سينمائية لتسمية نقيض، تجد امتداداتها في واقع مدينة تتنفس البطالة والسرقة والعنف وتجارة المخدرات والتشرد والأحلام الضائعة. ويقدم الفيلم على مستوى العنوان على الأقل، رؤية مشاكسة لفيلم مايكل كورتيز الشهير "كازابلانكا". راهن المخرج على حصان المعالجة الواقعية، رمى بكل الكليشيهات ومزق كل البطاقات البريدية، ومشى خطوات ليست بالقليلة يترصد بعدسته صورا اجتماعية حية لمجتمع يرزح تحت وطئ مدينة "كْبرات بْلا بْلان" كما يقول قاطنتها. فالعمارات والبنايات الإسمنتية شكلت خلفية للأحداث، ولإطارات عدد غير قليل من اللقطات، دون نسيان المسح بحركة الكاميرا "ترافلينغ" للشوارع ليلا، كتعقب "كريم " و"عادل" مثلا في سياق مشهد من الفيلم، وهما على الدراجة النارية التي سرقاها من موزع البيتزا، لتنتهي مشاغبات الليل بمنظر عام مأخوذ من فوق سطح بناية، وبحديث عن الفتيات السويديات، البعيدات المنال، كحلم عادل بالهجرة الممتنع لعدم توفر القدرة المادية. مدينة "مالمو" السويدية صورة جامدة ببطاقة بريدية، بعث بها إليه خاله المهاجر من هناك، يحملها معه باستمرار، وتحضر كمقابل متعالي ومنقذ من تشوه صورة مدينة أخرى حية ومتحركة، إنها البيضاء التي سودها الفقر و العوز والبطالة. ليفترش البطلان قطعتا كرتون على أرضية السطح حتى الصباح. تستيقظ المدينة، لنتتبع صورا متعاقبة بمونتاج يُظهر صباحا آخر، وبأسلوب استند إلى مفردات سينما واقعية كإطار يغترف منه متوالياته المشهدية، والتي مكنت المخرج من عرض مباشر للأحداث والوقائع، بعيدا عن أي فذلكة ودون أي تصنع أو تكلف. ليقدم صورة مغرب اليوم متمثلا في يوميات شابين تربطهما علاقة صداقة متينة، ويتقاسمان شقاء، يلخص أزمة هوية جيل مغربي يبحث عن ذاته. ومن العناصر التي دعمت واقعية الفيلم، إسناد تمثيل الدورين الأساسيين لوجهين غير معروفين: "أنس الباز" و "عمر لطفي". فأول ظهور لهما يتحقق في شريط "كازانيكرا". كذلك التصوير بأماكن حقيقية : الشارع، المحطة، داخل البنايات وفوق السطوح..الخ ساهم في خلق مناخ واقعي للأحداث، وإعطاء إحساس عام بمعايشة حقيقية.
الحوار أيضا بغوصه في "كْلامْ الزْنقَة" و لهجة أولاد الدرب وأبناء الأحياء والأزقة الشعبية، كان يعكس المنحى العام الذي اتخذته أجواء الفيلم وكذا الفئة التي أريدَ تسليط الضوء عليها، أما السب والشتم وإن كان مبررا في أحايين كثيرة، لأنه جزء من قاموس الشارع اللغوي بالطبع، فيبدو، أنه بدل من أن يتخلل الحوار سباب بين حين وآخر بحسب ما تقتضيه المواقف والانفعالات وطبيعة الشخصيات، بحيث يكون مبرَراً دراميا. لمسنا نوعا من " التْكْثارْ" والغلو. كما أن السباب يجب أن يختلف من شخصية إلى أخرى. والسب ليس هدفا في ذاته بقدر ما يقدم صورة للشخصية ولحالتها النفسية وكذا للموقف الدرامي، كما أنه يعكس معطى اجتماعيا، ثقافيا ونفسيا، وهو طريقة رد فعل لكل منا في حالات معينة، الشيء الذي وُفق الفيلم في إظهاره، لكن مع بعض الإخفاق في مواقف معينة، فكثرة الشيء تقتل الشيء. و الاكتفاء بإبراز الجزء للدلالة على الكل، قد يمَكِن من تفادي تزاحم السب بهذا الشكل على لغة الحوار، وحتى تتوفر فسحة لإظهار ما يلتقطه عادة يوسف فاضل - كاتب حوار الفيلم - من لغة شارع مدينة البيضاء. وأستحضر هنا اشتغاله المميز على اللغة الدارجة بحوار فيلم "علي زاوا" لنبيل عيوش الذي لا يخلو من شاعرية، بحيث نجد المفردات التي يمكن للبعض أن لا يستسيغها، تفرض الحالة الدرامية التفوه بها و إلا اختل المشهد، أو سقط في ذلك التصنع الذي يذكرنا بأفلام [هاكْ مفاتيح العربية، واشْ جَا ساعي البريد، آشْ هادْ الجُرح...] وغيرها من الحوارات التي يستهزئ من زيفها المتفرج المغربي. ناهيك على أن "كازانيكرا" تفوق، بغوصه في بنية شريحة من مجتمع مفكك، ليلامس ذلك السب المضمر والغير شفوي والذي يتجاوز اللغة ، فشخصيات الفيلم أغلبها يحمل سبة على جبينه، فعادل له زوج أم يضرب أمه ويضربه، و يلعنهما معا في كل وقت، الدور الذي شخصه الممثل إدريس الرخ بحرفية وبحساسية خاصة، ساعده في ذلك بناء الشخصية الواقعي والصادق، فهو متغطرس شتام ويحتقر زوجته وابنها، لكنه في نفس الوقت ضعيف خانع متوسل، يستعطف "عادل" لكي يعيد أمه. فالزوجة تهجر زوجها السكير وترحل عنه لبيت أهلها بإيعاز من ابنها. والفيلم يرصد هنا ذلك الصنف من الرجال الذي يختزل حاجته للزوجة في إشباع رغبته الجنسية، وتلبية حاجاته كخادمة. "كريم" أيضا يحمل سبة انتمائه إلى الشارع، الشيء الذي يحول بينه وبين حبه لسيدة منتمية اجتماعيا لطبقة أعلى - والتي أدت دورها غيثة التازي - فبذلته وربطة عنقه اللذين يحاول أن يخفي بهما شخصيته كعاطل مشغل لأطفال الشوارع في بيع السجائر بالتقسيط، ليس إلا قناعا مفضوحا يسقط أمام سيارة الشرطة التي تطارده وصديقه من حين لآخر. أما شخصية "زريرق" التي لعبها باقتدار الممثل محمد بنبراهيم، فقد كانت متسقة مع اللغة التي يستعملها، لكن سبابه أيضا تشابه وتكرر توظيفه في بعض الأحيان. موهبة بنبراهيم وتلقائيته جعلته يرسم شخصية مغربية من قاع المجتمع وبملامح محلية، وميول أدائه للكوميديا كان بجرعات قليلة جدا و وظف في بناء الشخصية بإيجابية، وقسوته نُسجت بدقة، فهو يحتقر من يجالسه بالبار ويعتبره أنتن من كلبه الذي يحترمه ويقبله من حين لآخر. من الشخصيات الملفتة بالفيلم "صاحب السلحفاة" والتي أدى دورها باجتهاد ملموس عثمان الإدريسي. كان مُقلا في كلامه متلعثما بشكل مقنع، عايش دوره بإحساس صادق وبإشارات وحركات مقتضبة جعلت أداؤه يُرَسخُ الشخصية بدهن المتفرج، على الرغم من قصر المساحة الزمنية التي شغلها بالفيلم، كما أن هذه الشخصية كانت لها فاعلية و وظيفة درامية في سياق الأحداث، تمثل في إبراز ما يحاول إخفائه عادل : كونه يتعاطف ويساعد الآخرين، فهو يُقدم على إنقاذ سلحفاة صاحبنا، من على حافة جدار البناية، تفاديا لسقوط قاتل مرتقب، ويأمره بألا يخبر أحدا بذلك. كريم أيضا يتمتع بحس مسؤولية اتجاه عائلته،هذا الحس الذي قد تخفيه ضبابية ما يُجر إليه من مواقف، والتي تظهره بغير ما سيكون منه لو أن ظروفه المعطاة مغايرة لما هي عليه. فهو يوصي بأن يأتيه أحد الأطفال، الذين يُشغلهم، بقاموس اللغة الإنجليزية، لنفهم أنه يريده لأخته التي تحتاجه للدراسة. كما أنه يعتني بوالده الذي أفنى ثلاثين سنة من عمره في شروط عمل تقوده إلى المرض والإعاقة وفقدان القدرة على الكلام. فالحاج صاحب المعمل الذي لعب دوره الممثل الكبير- الذي قد تنتظر السينما المغربية طويلا و لا تعوضه - الراحل حسن الصقلي، يستغل جهد العمال وعرقهم، فالأجر الزهيد الذي يتقاضونه لا يساوي ما يبدلونه من عناء. وكريم نفسه الذي عمل بمعمل تصبير الأسماك، في محاولة منه لخنق بطالته، لم يحتمل الاستمرار أكثر من يوم واحدا من العمل، فيُلقي بشتائمه وبأجرة يومه [50 درهما] في وجه الحاج، ليعود إلى وضعه الأول كعاطل. باتجاه النهاية يُضطر كريم وعادل، في واقعٍ هم أحوج فيه إلى الكرامة والعدل، إلى الاشتغال مع "زرريق" الذي يكلفهم بمهمة مشبوهة، تتمثل في حقن "عنتر" بمادة ستؤثر على قواه أثناء السباق - فهو واحد من الخيول التي يُتراهن عليها - و ذلك حتى يضمن " زريرق" وصديق له، فوز حصان آخر سيراهنان عليه، و الذي يدخل عادة في مرتبة ثانية بعد "عنتر". لن تنجح "مهمة الحقن" وسيهرب الحصان. وتجدر الإشارة إلى أن المشهد الممتد من محاولة الحقن وإلى حادثة هروب الحصان، ينتابه شيء من الخلل، فالشابان يتخاصمان بشكل شبه مختلق وكأنهما يحاولان إعطاء فرصة للحصان لكي يهرب، كما أن هذا الأخير لم تُوفر له دوافع حقيقية و درامية للهروب، كأن تؤلمه شوكة الحقنة أو شيء من هذا القبيل، فهو يهرب من المكان المخصص له، كما أنه يتمكن من الخروج من الإسطبل ككل إلى الشارع . من أين خرج والباب قد أقفله الحارس بعد دخول الشابين بالسيارة؟ كيف فُتح الباب؟ يبدو انه هرب من باب آخر، كيف تُرك هذا الباب الآخر مفتوحا ليلا؟ ربما نُسي هكذا مفتوحا ليهرب الحصان.. لا ندري. نقر أن المشهد صعب، وهو مبني في عموميته، لكن على مستوى التفاصيل - والسينما فرس علفها التفاصيل - كان يجب، من وجهة نظرنا، أن يحبك ويحاك بشكل أدق، ليتماشى ومستوى نسيج الأحداث المتقن منذ بداية الفيلم وحتى النهاية.
تبدأ الملاحقة في الشوارع من طرف الشابين بحثا عن الحصان بسيارة زريرق هذا الأخير الذي يلاحقهما بدوره بسيارة أخرى، فحادثة ارتطام السيارات، والتي كانت محبوكة على غير ما نشاهده عادة ببعض الأفلام المغربية، لينهال كريم على زريرق بالتهديد والشتم، في حين يكتشف عادل وجود حزمات من الأوراق النقدية بصندوق السيارة، لكن صفارة إنذار الشرطة تجعلهم يسابقون الريح، لينتهي الفيلم بالمشهد الذي استهل به : الشابان هاربان ورجال الشرطة يركضون في أعقابهم.
وفي المشهد ما قبل الجنيريك - والذي وضعه المخرج كحبة كرز على حلوى- يظهر كريم وهو يحاسب الأطفال على مدخول بيع السجائر، في حين يخاطبه عادل مُظهرا صورة لمدينة بيرغن النرويجية التي قرر الهجرة إليها بدل مالمو. المدن تتغير والحلم واحد، حلم كثير من الشباب المغاربة الذين يرون في الضفة الأخرى أرض خلاص، ممتنعة. وليتهم يعلمون أن ليس كل ما يلمع ذهب. فيلما نور الدين لخماري "نظرة" و "كازانيكرا" - وخاصة هذا الأخير- إضافة لها قيمتها لربرتوار السينما المغربية، مما يجعل المتلقي والمهتم يتتبع تجربة هذا المخرج السينمائية وينتظر ما ستنتجه من أفلام أخرى، ومنجزه الأخير يَعد بأفلام مميزة في طريقها إلينا. ستصورها عدسة تحركها عين مبدعة، و رؤيا لمخرج موهوب يفكر بالصورة وبالضوء والظلال، وما فوز الفيلم بجائزة أفضل تصوير في شخص "لوكا كواسين" في مهرجان دبي السينمائي الدولي إلا تأكيد لجهد ومثابرة مخرجه، وكذلك جائزة التشخيص للممثلين الأساسيين بنفس المهرجان، أنس الباز وعمر لطفي، إضافة لفوز هذا الأخير بجائزة أخرى كأحسن ممثل بمهرجان طنجة الوطني للفيلم، وجائزة أحسن صوت، و جائزة أحسن دور ثان للممثل محمد بنبراهيم هي إثبات لقدرات الطاقم التقني وحرفيته ولاجتهاد الممثلين وجهودهم التمثيلية، ولقدرات المخرج أيضا في إدارة ممثليه التي كانت واضحة في الفيلم. عبدالجبار خمران - باريس ''الفوانيس السينمائية''