مهرجان السينما العربية فى أوروبا قدم المزيد ووعد بالمزيد (ورقة مفصلة) حاول العديد من الأشخاص والمؤسسات التعريف بالتراث العربى فى أوروبا عبر إقامة مهرجانات وتظاهرات ثقافية وسينمائية، ان تنمى ذوق المتلقى العربى فى المهجر، وتساعده على استكشاف الوقائع الحقيقية لمجتمعه الأصلي، وتدفع بالجمهور الغربى إلى كسر الحاجز الثقافى بينه وبين الآخر، وبناء نظرة أكثر عمقا وشمولية. ومن بين هذه المهرجانات مهرجان الفيلم العربى فى روتردام، الذى برهن على استيعاب كل المفردات السينمائية، الشيء الذى أعطى لدوراته الست الماضية بعدا احترافيا، يضاهى أكبر المهرجانات العالمية، كما اهتم بوضع معالجات منهجية لكثير من القضايا العربية، عبر الدقة فى اختيار الأفلام المتنافسة والإعداد المحكم للبرامج الثقافية، مما أعطى مؤشرات جادة لتحقيق علاقات ثقافية وفنية بين المجتمع العربى والغربي. وما يميز المهرجان عن غيره، هو اعتماده على الموارد الشخصية لأشخاص ومنظمات غير حكومية آثروا الخروج من النفق الرسمى الذى يتحكم فى كل كبيرة وصغيرة. وقد عرف المهرجان بجرأته فى عرض أفلام تتعرض لتابوهات المجتمعات العربية، كما عرف ببرمجة أفلام فرضت عليها الرقابة فى الدول العربية، وهذا لم يعفه من انتقادات البعض. ولكن حيثما قدمت الدورة التى اختتمت اعمالها فى 17 الشهر الماضى المزيد من الأعمال الفنية العربية المتيزة، فان الاهتمام الكبير الذى حظيت به أعمال المهرجان يشجع على الاعتقاد بان الدورات المقبلة ستحقق المزيد أيضا. فإذا قمنا بتقييم الدورات السابقة للمهرجان من حيث الأفلام المشاركة، نلاحظ رضا المتتبعين على القيمة الفنية لها، مما يجعل هذه التظاهرة مقياسا للحكم على جودتها. أما برنامج هذه السنة "السابعة" فقد أعطى انطباعا ايجابيا جيدا حول ما يمكن أن تعرضه هذه التظاهرة من أفلام قد ترضى شغف الجمهور العربى المقيم بهولندا وخاصة المغاربي، إن اختارت إدارة المهرجان فيلمين تونسيين طويلين لعرضهما فى حفل الافتتاح هما "آخر فيلم" للمخرج النورى بوزيد الحائز على ذهبية مهرجان قرطاج 2006، ويناقش قضية الارهاب بإسلوب عميق بسيط من خلال التركيز على حياة طبقات القاع وفئات المجتمع الدنيا مؤكدا ان لكل شذوذ سياسى جذورا فى بنية المجتمع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية الظالمة والمشوهة. أما الفيلم الروائى الثانى المقرر عرضه ليلة الافتتاح فهو"عرس الذيب" للمخرج التونسى الجيلانى السعدى الذى يكشف السعدى عن موهبة كبيرة فى الشعور بمعاناة المهمشين والمحرومين والمكبوتين فى المجتمعات العربية الاسلامية بما تعانيه من انفصام حاد على جميع الأصعدة. واقتحمت السينما المغربية فى السنوات الأخيرة المهرجانات العالمية بصورة لافتة مستفيدة من الانفتاح العام الذى تعرفه البلاد، ومن دعم "صندوق الدعم السينمائى المغربي" للأفلام المغربية، بالإضافة إلى مساهمة جيل الشباب من السينمائيين، الذى أعطى نفسا جديدا للإنتاج السينمائى الوطنى ودفعه بقوة نحوالمهرجانات السينمائية الدولية، من بينها مهرجان الفيلم العربى فى روتردام، الذى احتضن هذه الدورة فيلمين مغربيين مهمين، الفيلم الأول لفوزى بن سعيدى وهو مخرج مغربى من جيل الشباب، بدأ كممثل ليلتحق بقطار الإخراج عبر ثلاثة أفلام قصيرة لاقت نجاحا مهما، حيث حاز فيلمه القصير "الصخرة" على 23 جائزة أوروبية وعالمية، وبعده أخرج فيلمين آخرين "الحائط" و"مسارات"، وفى عام 2003 قام بكتابة سيناريو وإخراج أول فيلم طويل له "ألف شهر" الذى نال جائزتين. وحضر فوزى بن سعيدى فى هذا المهرجان بفيلمه الطويل "ياله من عالم مدهش" وهو من أهم الأفلام المشاركة كما أكد ذلك المنظمون فى تصريحاتهم. هذا الفيلم من إنتاج مشترك فرنسى مغربى ألماني، وهو دخل فى إطار الكوميديا السوداء، وقد اتخذ من الدارالبيضاء أكبر المدن المغربية أنموذجا لاستنباط أحداثه وتسجيلها باعتبارها فضاء للمتناقضات يجمع بين التكنولوجيا الحديثة والفقر والإجرام والجنس. ولقى "ياله من عالم مدهش" ترحيبا فى المغرب من لدن النقاد والجمهور على السواء. وتدور قصة الفيلم حول شخصيات متنوعة. بطلها كمال المجرم الذى يستأجر لتنفيذ عمليات القتل، يقع فى حب كنزة الشرطية التى تحاول كسب أجرة إضافية عبر تأجير هاتفها النقال. أما سعاد فهى مومس تعيش من بيع جسدها لكسب قوت يومها... والفيلم المغربى الثانى المشارك كان "القلوب المحترقة" لمخرجه أحمد المعنونى مبدع فيلم "الحال" الذى رسم المسار الفنى لمجموعة ناس الغيوان وهى المجموعة الموسيقية المغربية الأكثر شعبية فى المغرب والوطن العربي. ومبدع الفيلم الطويل الرائع "الأيام الأيام" الذى يعالج ظاهرة الهجرة القروية. يعتبر فيلم "القلوب المحترقة" من الأفلام المغربية الناجحة. ويتطرق إلى ظاهرة تشغيل الأطفال فى المغرب، ومدى تأثرهم بالأحداث التى يعيشونها فى صغرهم عبر بطل الفيلم أمين. وقد صرح المخرج أحمد المعنوني سابقا فى بعض وسائل الإعلام أن الهدف من إنتاج هذا الفيلم هو البحث عن الهوية انطلاقا من أحداث الماضى خصوصا فى مرحلة الطفولة. وفى ختام اعمال المهرجان، منحت لجنة تحكيم الدورة السابعة جائزتها الذهبية لفيلم المصرية هالة خليل "قص ولزق". ومنحت لجنة تحكيم الأفلام الروائية التى ترأسها الناقد اللبنانى ابراهيم العريس جائزة الصقر الذهبى الى هذا الفيلم الذى سبق أن فاز بجائزة فى مهرجان القاهرة السينمائى فى ديسمبر - كانون الأول الماضي، كما منحت جائزة أفضل ممثل الى شريف منير عن دوره فى هذا الفيلم. اما جائزة الصقر الفضى فنالها المخرج الجزائرى ناصر بختى عن فيلمه "ظلال الليل" الذى عرض لأول مرة فى مهرجان عربي، والذى حصل أيضا على جائزة أفضل ممثلة نالتها مادلين بيجة. وذهبت جائزة العمل الأول الى الفيلم اللبنانى "فلافل" للمخرج ميشال كمون الذى عرض فى الصالات اللبنانية وفى اكثر من مهرجان عربى ومتوسطى وحصد جائزة فى مهرجان مونبيلييه الأخير للسينما المتوسطية. وقدم ضمن المسابقة فى عرض أول فيلم "علاقات خاصة" للمصرى ايهاب اللمعي، وفيلم "القلوب المحترقة" الى جانب الأفلام الثلاثة الفائزة. وفى مجال الأفلام الروائية القصيرة فاز فيلم "احمر ازرق" لمحمود سليمان من مصر بالجائزة الذهبية بينما حصل فيلم "اتمنى" للفلسطينية شيرين دعيبس على الجائزة الفضية ونال التونسى انيس الأسود تنويه لجنة التحكيم عن فيلمه "صابة الفلوس". وفى الفيلم الوثائقى الطويل انتزع الفيلم السورى "انا التى تحمل الزهور الى قبرها" لكل من المخرجين هالة عبدالله وعمار البيك جائزة الصقر الذهبى لأفضل عمل وثائقى وقد سبق لهذا الفيلم ان فاز بجوائز فى البندقية ودبى وتطوان. ونال فيلم "دبليودبليودبليوجلجامش" للعراقى طارق هاشم جائزة الصقر الفضى بينما حصل الفيلم التونسى الكوميدى "كحلوشة" على تنويه من لجنة التحكيم الخاصة بالفيلم الوثائقي. وفيما يتعلق بالفيلم الوثائقى القصير منحت اللجنة ذهبيتها لفيلم "صمت" للسورى رامى فرح وهومن الأفلام التى نتجت عن ورشة العمل التى اقامها المخرج السورى عمر اميرالاى فى عمان وانتهت بولادة عدد من الأفلام. اما فضية الفيلم القصير الوثائقى فمنحت للعراقى هادى مهود عن شريطه "ليالى هبوط الغجر" الذى يتناول مأساة قرية عراقية فى ظل النظام الحالي. وحصل الفيلم الفلسطينى "عالم على بعد 15 دقيقة" على تنويه لجنة التحكيم. وقدم المؤلف العراقى نصير شمة الذى اعد الموسيقى التصويرية لعدد من الأفلام مقطوعات موسيقية على العود خلال حفل ختام المهرجان الذى شهد تكريما لشخصيتين مصريتين من عالم السينما هما ماريان خورى ومحفوظ عبد الرحمن. وكان كاتب السيناريو المصرى محفوظ عبد الرحمن قرر التنحى عن الرئاسة الشرفية للمهرجان وهو واضع سيناريو فيلم "ناصر 1956" و"حليم" "الذى عرض على هامش المهرجان" ومسلسل "ام كلثوم" إضافة الى عشرات الأعمال الدرامية التلفزيونية التى قدمها على مدى نصف قرن. وعن ماريان خورى قال المدير الفنى للمهرجان انتشال التميمى انها "منتجة متميزة اقتحمت أماكن خطرة عبر إنتاجها لأفلام يسرى نصرالله "سرقات صيفية" وعاطف حتاتة "الابواب المغلقة" اضافة لإنتاجها بالتعاون مع الاتحاد الاوروبى لسلسلة من الافلام الوثائقية حول المراة تحت عنوان "رائدات عربيات". ولاحظ مدير المهرجان خالد شوكت ان "الافلام المبرمجة ضمن المسابقة هذا العام تتسم بكونها قاتمة لعدم قدرة المخرجين داخل العالم العربى وخارجه على الانفصال عن ذواتهم وهموم أناسهم". وعن تقييمه للدورة الجارية قال انه "راض بنسبة كبيرة عن مستوى الإنتاج السينمائى العربى وان المهرجان قدم بنسبة كبيرة مجموعة من الاكتشافات: هناك 14 فيلما فى مختلف الأقسام تعرض للمرة الأولى فى مهرجاننا". واضاف شوكت ان "قيمة المهرجان تكرست أكثر على المستوى العربى ومستوى هولندا حيث بات هناك اعتراف رسمى بالمهرجان وهذا ما يدفع باتجاه طموحات اخرى نحوتوسيع دائرة الجمهور". وتميز المهرجان فى دورته السابعة بحضور جمهوره العربى المهاجر والهولندى فى كافة العروض وهو حضور يعزز من دور المهرجان الذى نجح ليس فقط فى الاستمرار وخلق موقع له على جغرافية المهرجانات الخاصة بالسينما العربية وإنما فى برمجة عدد من الأفلام العربية لعدد من المهرجانات الدولية والعربية المقبلة أيضا. وحيثما تعتبر السينما أهم الوسائل البصرية الإبداعية تأثيرا على الجمهور، وأنجع أداة لنقل الحمولة الثقافية والتراثية للشعوب، فقد ساهمت العديد من الأفلام الجيدة فى تغيير الواقع الذى عجزت عن تغييره الأقلام والندوات والمؤتمرات. وذلك عبر الصورة التى اتخذت لها سمة توعوية مؤثرة، وقد اعتبرها المخرج الروسى اندريه تاركوفسكى ذات يوم فنا قائما بذاته، منفصلا عن باقى الأشكال الفنية الأخرى، متخذا له بعدا فريدا واستثنائيا. وحيثما عانى العرب سابقا من الانقضاض السينمائى الغربى على التقاليد والمعتقدات الخاصة بهم، فها هم يحاولون جاهدين إيصال الصورة العربية بشكل أكثر إيجابية للمشاهد العربى والغربى على السواء، حيث استفادوا من الميزة السينمائية فى دمج الثقافة النخبوية والشعبوية، فى أداة واحدة تحتضن الكل. وبذلك استطاعت السينما العربية رغم تاريخها القصير، تعميق رؤيتها الشمولية وكسب جمهور عريض يجمع كل الشرائح الاجتماعية، فى قالب يعكس واقعه اليومى وقضاياه الراهنة. وقد قطعت أشواطا مهمة لتخلق لها فى الأخير شكلا مقنعا، استطاع وبنجاح كسب خصوصيات عربية، سعت لمقاربة مواضيع وتيمات عميقة، ساعدت على ربط جسر ثقافى بين العرب والغرب. ومن خلال هذا البرنامج الحافل وبرامج الدورات السابقة، نستشف أنّ مهرجان روتردام قد نضج وأكد قدرته على مواكبة المستجدات السينمائية الأوربية العربية، الشيء الذى يحدد دوره كمؤسسة قادرة على تمثيل السينما العربية فى هولندا أحسن تمثيل. وهذا بحد ذاته يمثل وعدا كبيرا للمستقبل. * كاتب مغربى مقيم بهولندا خاص بجريدة العرب و الفوانيس