اذا كان التجريب هو تمرد على السائد والمكرور و ثورة على عتمة الراهن المعاش وتابوهاته ، فان مدكور ثابت في فيلمه (حكاية الاصل والصورة ، 1971) المستوحى من قصة (الصورة ) لنجيب محفوظ والتي تضمنتها مجموعته القصصية (خمارة القط الاسود) –الصادرة عن دار القلم ، بيروت 1971- وضعك امام تجريب سينمائي بنكهة الوجع العربي ، بطعم هزيمة 1967وخيباتها ، بل انه استطاع وعبر مشاهده السينمائية ان يؤرخ للجرح العربي فيستصرخ الذات العربية الحالمة بالرغيف والامان والتحرر ليرهص بحركتها الاكيدة نحو العبور الى مرفأ الخلاص وهو ماحصل فعلا بعد عامين من انجاز الفيلم واقصد عام 1973 . من اللافت ان قصة (الصورة ) لنجيب محفوظ قد عكست فضاءاتها السردية مهارة عالية ووعيا جماليا حادا في صياغة مناخ رومانسي يدين شراسة المدينة التي اطاحت بالفطرة الخيرة والتي جسدتها البطلة -المتمظهرة في صورة قتيلة تناقلتها الصحف وتلقفها الشارع – حين هربت من الريف النقي الى المدينة الملوثة ، هذه القصة التي غلفها مدكور برؤاه ليخطف صورة (القتيلة / البطلة) من كونها فلاحة ساذجة اطاحت بها المدينة صوب مناخات الرمز فتعددت اسماؤها فهي تارة فكيهة وتارة شلبية و سميرة و فافي ودرية بل و لها اسماء كثيرة لاتحصى ... لتكون الوجه الآخر للمكان المغتصب والموؤود فيتعدد مغتصبوها وتتعدد نصال الفتك بالجسد الانثوي الرامز للهوية والانتماء ، انك تلمح صيرورة المشاهد السينمائية مرايا صقيلة نبصر من خلالها عذاباتنا المشتركة واحلامنا الموؤدة إبان هزيمتنا النكراء عام 1967 ليؤرخ مدكور واعيا لنكستنا الجماعية محتجا على وأد المكان المرموز له ب( مصرع مليونيرةتحت سفح الهرم ) بل انك تجد ان الصحيفة التي حملت هذا الخبر بصورة القتيلة قد تصدرت بخبر اكبر وبخط عريض (مانشيت ) يرد فيها : ( دورياتنا تتوغل داخل سيناء لثلاث ليال متوالية ) هو اذن يجعلك منذ البدء امام معادلة المكان الموؤود بعد هزيمة 1967(سيناء) في مواجهة وجه القتيلة لتقودك هذه المعادلة الى البنية المسكوت عنها والتي كان يقشرها الاداء التمثيلي لابطال الفيلم راشد والصحفية ماجدة وضابط البوليس لتنفتح على هموم الراهن المسكون بالفجيعة – واقصد هزيمة 1967- التي هشمت احلام المثقف العربي المتشبثة بشهد التحرر ليصحو على هتك حرمة الارض العربية واغتيال تاريخها الحضاري والثقافي . حيث جسّد راشد الضمير الثقافي العربي العاجز عن المواجهة والاداء بمناقشته اسباب الهزيمة المرموز لها ب(مصرع البطلة ) واشاراته الواضحة منذ بداية الفيلم : (بان الزمن هو زمن القضايا الكبرى) ، ولكنك تجد ان لافعل يعضد هذه الاقوال العظيمة ؟؟! وتراه يضع اصبعه على كينونة الرمز حين يورد تفاصيل اغتصاب امكنة اخرى مثل مايحصل للجنود الامريكان في فيتنام، وتلمحه ايضا في مشهد آخر يعلن: (قد يكون القاتل جيمس بوند او ايرسين لوبين .. الحكاية امريكاني من اصلها ) ليخطف بصر التلقي من تمركزه حول مصرع فتاة الى المحنة الجماعية محنة اغتيال المكان واغتصابه ، وقد تجده يقول للمغلوب -وهو يترنح حد الثمالة -حين يشهد لعبة مصارعة : (اذا ضربك احد على خدك الايمن فأدر له خدك الايسر ) ليفضح احساسه الراعف بالهزيمة الثقافية حد الافلاس .. وتعكس الصحفية ماجدة ملامح النسق الاعلامي وحركته اللاهثة المحمومة والباحثة عن فتات الاحداث والمتغاضية عما يعصف بالمكان من تشظ وشتات ، ويمكنك ان تلحظ من خلال الاداء التمثيلي لراشد وماجدة انكسارات النسقين الثقافي والاعلامي بُعيد نكسة 1967 وخيباته ومراراته بل وحتى شعاراته التي افرغت من محتواها فتراهما (متناحرين تارة وحائرين اخرى وثالثة متورطين في مسايرة مايحدث ورابعة يقهقهان حد الجنون وخامسة سلبيان حد السكون)، ويضيء ضابط البوليس والمحقق في الجريمة النسق السياسي الذي اسهم بشكل او بآخر في عملقة القاتل وتلميع صورته على حساب تغييب وجه القتيلة حد الغائه وهو يتآلف تارة مع النسقين الثقافي والاعلامي ويتخالف اخرى ، ولاسيما حين تصرخ في وجهه ماجدة معنفة: (( نحن لدينا البطولة للقتيلة وليس للقاتل ، لان تسليط الضوء على القاتل سيعطيه دور البطولة )) وقد تناوبت ملابسه بين المدني تارة والعسكري اخرى كما تناوبت افكاره بين بلادة الطرح وكلاسيكيته او الاذعان المطلق لامتساخ القيم والاكتفاء بمراقبتها عن بعد بسلبية مطلقة . حرص مدكور ثابت على ان يطرح بين يديك فاكهته الثقافية حين جعل من منجزه السينمائي بنية يتمظهر فيها التشكيلي {عبر النصب المقطوعة الرأس تارة والعارية اخرى بل والمتحركة ثالثة بحثا عن القاتل } والترميزي حين يسوق مدكور شفرات تكثف رؤاه ليجعل من المشهد السينمائي بنية نصية يشترك التلقي في فك رموزها خذ مثلا حركة الكاميرا التي تختزل حدث اللقاء الجسدي بين سيد البيت (رشاد افندي عبدالشافي ) وبين الشغالة (شلبية /البطلة / القتيلة ) حين تجعلك في مواجهة طباخ (بوتجاز) عليه طربوش يحترق وقدر حليب يطفح ويتناهى الى سمعك اصداء ضحكات انثوية ليؤشر اغتيال جديد ل(البطلة / القتيلة ) وانفلات آخر للقيم والمثل ، وايضا تتمظهر هذه الترميزات المشفرة في استجلاب الصحيفة المتضمنة صورة القتيلة لتتمنطق بها - احدى ضحايا حسونة المغربي المعترف باقترافه جريمة القتل - اثناء رقصها وتتخذ منها قناعا في اشارة الى تشابه وجوه الضحايا ومثل ذلك ينسحب على نشر الملابس الداخلية لزميلات (درية / البطلة / القتيلة) على حبل الغسيل ، وهي ترميزات تتقشر عن وأد فرداني يقود الى وأد جماعي حين تتماهى وجوه الضحايا وتتكور في وجه واحد هو وجه القتيلة . كما تلمح انامل مدكور وهي تستجلب السوريالي بمناخاته المناكفة لثقافة الموت والفجيعة فتجده مثلا حين يريد ان يصف ضياع (البطلة / القتيلة فيما بعد ) في المدينة التي لم تمنحها الا طعنات متواصلة فانه يجعلك قبالة شاب عابث -القاتل الاول- يقود الفتاة المبهورة بالبنايات الشاهقة الى سرير نوم يتموضع على قارعة الطريق ، وينسحب هذا على مشهد الراقصة التي استدعاها حسونة المغربي لتقدم رقصة غرائبية تستجلب اثناء رقصها رأسا مقطوعا حزين الملامح يجذب انتباه الحاضرين لتحوم هي حوله مثل الفراشة ، ومثل ذلك تجده ايضا في مشهد الرقص والعبث الذي ضجت به المدينة وقد تصدر بكف انثوي غض يتم تسميره الى خشبة صليب ليطرق عليه بأزميل ومطرقة ويتناهى الى سمعك صوت طرق وتكسير ... زد على ذلك المشهد الاول الصادم الذي جمع من خلاله بين صورة القتيلة المخضلة بالدم وراس مقطوع لرجل مسجى اسفل الصورة يحترق وعلى الجانب سيقان عارية لرجل وأمرأة بايحاءاتها الايروتيكية واحسب ان هذه المشاهد الضاجة بالاثارة قد نجحت في تمرير خطاب ايديولوجي يعري ثقافة الدم وثقافة مسخ القيم . وقد يوظف مدكور تقنية مسرحية هي لحظة التنوير حين يهتك عن الرمز حجبه في خاتمة الفيلم وتحديدا عندما تصغي الى نبرات عبدالقوي (القروي / المعدم)والد ( فكيهة /البطلة / القتيلة ) الفتاة التي اغوتها المدينة فهربت اليها تاركة في قلبه جراحا مثخنة اذكتها الصورة الموجودة في الصحيفة ليباغتك بقوله : ( سودت الدنيا في عيني يا فكيهة يا ابنتي !!! صورتك المقتولة هي صورة لبلدنا كلها) وهو ما سربته مشاهد الفيلم وحوارته المحمومة الباحثة عن الخلاص من واقع مأزوم ملفع بخيبة الهزيمة ومرارة النكسة فتجد صوت الصحفية (ماجدة ) التي تقف زاجرة لراشد الذي يجد ان القتيلة كانت على خطأ حين سارت الى حتفها بنفسها لتهتك بذلك عن الرمز غلالته حين تقول : (( حكمك عليها بالغلط ، ليس فيه ادنى رحمة ؟؟! لان مثل هذه الانسانة قلبها كبير ، وهي معذورة لانها وقعت في وسط غابة من الوحوش )) وقد شكلت حركة انطلاقة الكاميرا التي ترصد هذا المشهد من تمثال الام الرامز للاصالة والفطرة ولمصر برمتها والعودة اليه اشارة واضحة لالتحام المكان المغتصب الموؤود بهذه الانثى القتيلة . من اللافت ان تقنيات اخراج فيلم (حكاية الاصل والصورة ) تمنحك سانحة رصد حركة كادر التصوير داخل النص السينمائي وتحديدا المخرج مدكور ثابت الذي يطل عليك تارة يصرخ : ((ستوب)) ليناقش راشد الذي تمرد على النص موجها حديثه للكاميرا : (( اطلبوا من المخرج ان يقدم وجهة نظري على الشاشة ... ليس هناك متسع للمشاكل الصغيرة ، هذا زمن القضايا الكبيرة .... جريمة قتل واحدة مثيرة ومقتل 35 الفا من الفيتناميين ليس مثيرا ؟؟!! المسألة تحتاج الى مناقشة لكن السيناريو لايعطيني اية فرصة للمناقشة لاثبت وجهة نظري )) ليظهر قناعته بما يقول ، وتارة اخرى يظهر مدكور بشكل مفاجىء ليدير وجه راشد بيديه حتى لا يدلي برؤاه الخاصة فيخرج عن النص ، وثالثة حين يحدثك مباشرة ليقول : (نأسف لعرض هذا المشهد ، فهو غير موجود لافي القصة ولافي السيناريو ، لكنه النقطة الاولى من اصل الصورة في اخراج قصة نجيب محفوظ التي اسماها صورة ، نرجو الآن متابعة الفيلم للبحث عن القاتل )) ، ورابعة حين ينزل بكاميراته الى شوارع القاهرة بحثا عن القاتل فتسمع صوته وهو يوجه كادر التصوير متحدثا عن قص بعض المشاهد في المونتاج ، وخامسة حين يصل الفيلم الى نهايته ليسلط الضوء على القاتل الذي يعترف بقوله : (ان لها اسماءكثيرة ... كثيرة جدا ) فتسمع صوت مدكور الذي يترك كاميرات التصوير ليقول : (ستوب .. ليس من المعقول ان يكون هذا هو القاتل ؟! المسألة غير منطقية !! ) فيأتي صوت الممثل الذي يترك مكان التصوير ليلحق به قائلا : لكن في القصة والسيناريو مفروض انا القاتل ؟)) وهو في هذه الحركة يهبك سانحة ان ترى وجوه مغتصبي القتيلة واحدا تلو الآخر وهم يقفون خارج دائرة الضوء ، هذه التقنية بالضرورة تحيل الى رغبة مدكور في ابقاء الصلة التي وصفها نجيب محفوظ –في احدى حوارته - بالخيط الرفيع بينه وبين النص الاصل من جانب ومن جانب آخر املاء روايته الخاصة المكتنزة بثقافة الراهن المعاش بتراجيدياته وتطلعاته حين اشار الى (( ان المخرج فنان مثل المؤلف تماما ، ومثل كاتب السيناريو والحوار .. والاخير حين يتناول نصا ادبيا فانه من حقه ان يحوله اذا شاء الى فيلم مع المحافظة الكاملة على النص الاصلي.... وربما يحوله الى عمل فني جديد بعد تصرف في الاصل ليضفي عليه روايته الخاصة من دون (هلهلة ) فكرة المؤلف ، وقد يكتب عملا جيدا تماما وليس بينه وبين العمل الاصلي الاخيط رفيع ويجوز له ان يعطيه اسما جديدا )) . وخلاصة القول : فان المخرج السينمائي مدكور ثابت في فيلمه (حكاية الاصل والصورة 1971)كان يعي صلته بالمتن الاصل قصة نجيب محفوظ ولكنه في الوقت نفسه يشتغل ليضع بصمته الخاصة على منجزه السينمائي من منطلق ان للادب لغة تختلف عن لغة السينما ، زد على ذلك فان هذا المنجز يجعلك تطرح الاسئلة المقلقة المربكة لتعصف بك دوامات الجرح العربي فتبصر في وجه القتيلة المسجاة تحت سفح الهرم قتيلة اخرى مسجاة تحت ملوية سامراء او تحت نصب اسد بابل ولكنها ليست سيناء هذه المرة بل بغداد . الدكتورة وجدان الصائغ