توصل موقع "الدار" بمقال من الأستاذ الباحث بالمدرسة الوطنية للتجارة والتسيير بالقنيطرة، فيصل الداودي، يستعرض فيه قصة التعددية الثقافية والأذربيجانية، وكيف نجح هذا البلد في إرساء معالم التعدد الديني والثقافي في عالم تمزقه ويلات الحرب والتطاحنات باسم الدين. وفيما يلي نص المقال نعيش اليوم في عالم تعاني فيه الأقليات داخل العديد من المجتمعات من شتى أنواع التمييز، والاضطهاد، يتوج غالبا بقتل أعدادا كبيرة من البشر. وتواجه أغلب دول المعمور، نزاعات معظمها عرقية، أو دينية تنامت بسببها الكراهية، و المد العنصري حتى في الدول الديمقراطية منها. رغم تغير النطاق والنهج وتباين جذوره، ومحفزاته، لا يزال الموقف العام الرافض لأولئك الذين يشاركون في ثقافة أو عرق أو دين مختلفين مستمرا بأغلب البقاع ، إلا أنه ومع ذلك نجد نماذج إيجابية لبلدان متعددة الثقافات، حيث تجتمع وتعيش فيها المجموعات المختلفة، وتتقاسم الحقوق المتساوية مع الحفاظ على هويتها العرقية والثقافية والدينية داخل منظومة تعمل بأكملها بسلاسة. إحدى هذه الدول هي جمهورية أذربيجان حيث الاحترام المتبادل بين المجموعات الاثنية، والدينية المتعددة هو القاعدة السائدة التي نشأت من صميم مجتمعها المتعدد الثقافات، وعززته السياسة الحكيمة التي وضع أسسها المعتمدة على معايير القانون الدولي الزعيم الراحل حيدرعلييف، ويشرف عليها حاليا الرئيس إلهام علييف، بهدف حماية التعددية الثقافية والتسامح، وتطويرهما لخدمة العلاقات بين الدولة والأقوام والأديان.العالم اليوم بأمس الحاجة إلى هذه الأمثلة لأنها تساعدنا على استعادة ثقتنا في قيم الإنسانية بينما تلهمنا كيف ينبغي لنا أن نتعامل مع العديد من المشاكل الرئيسية والمستعصية اليوم. ‒ ما هي "التعددية الثقافية "؟ من الناحية النظرية " التعددية الثقافية " ترمز إلى الوجود والتعايش السلمي داخل المجتمع نفسه لمجموعات عرقية أو دينية أو ثقافية متعددة تتشارك في التقاليد والقيم و السلوك و العادات ، في المجتمع المتعدد الثقافات تتمتع كل المجموعات بالحق في التعبير رسميا عن ميزاتها الخاصة و تعزيزها والمحافظة عليها. تطرقت العديد من الدراسات والبحوث لنماذج "التعددية الثقافية"، ونظم المجتمع المتعدد الثقافات أفضت أغلبها إلى أن النماذج الاجتماعية المختلفة لتعددية الثقافية تعتمد إما على الاستيعاب وإما على العزلة ، فنموذج الاستيعاب المتعدد الثقافات يشبه الباحثون بمثابة "وعاء الانصهار"حيث تعيش المجموعات المختلفة معا لكنها تفقد هويتها الثقافية الخاصة بها وتجبر على استيعاب الثقافة السائدة لتصير جميع الثقافات في النهاية ثقافة واحدة ، بدلا عن ذالك في نموذج العزلة يتم تهميش الأقليات وتقييدها و لكنها تحافظ على هويتها الثقافية ، لذلك نجد أن تطبيق النموذجين في العديد من الدول أفرز عدة توترات أعاقت التقدم والتكامل السليم للمجتمعات وكانت غالبا في صميم الصراعات التي أبتلي بها عالمنا اليوم. قد تكون التعريفات والأوصاف النظرية ضيقة جدا للتعبير عن معنى التعددية الثقافية حتى أنه لا وجود لطريقة لمعرفة المجتمع المتعدد الثقافات الجيد أفضل من ملامسة التعددية الثقافية في الواقع المعاش حيث يتعايش الأشخاص من مختلف الأعراق والثقافات والأديان بسلام وانسجام. ‒ مصادر التعددية الثقافية الأذربيجانية تقدم لنا جمهورية أذربيجان نموذجا جيدا ومتكاملا لتعديدية الثقافية ، في حين أنها دولة ذات الغالبية المسلمة نجدها تستضيف أيضا مجتمعا مسيحيا كبيرا و تمثل أكثر من مجرد مكان آمن لليهود ، يوجد في أذربيجان 13 كنيسة منها 11 بنيت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وهنالك 7 معابد يهودية و أكثر من 2160 مسجد ، رغم أن عدد الكنائس أقل من عدد المساجد إلا أن واحدة من الكنائس الأولى بنيت بدعم مالي مهم من طرف مليونير النفط المسلم الشهير الأذربيجاني الحاج زين العابدين تاغييف سنة 1909 كوسيلة لتعزيز الصداقة بين المجموعات الدينية المختلفة التي كانت تعيش آنذاك في باكو عاصمة البلاد. في هذا البلد الواقع بين أوروبا في الغرب وآسيا في الشرق وبين المسيحية في الشمال والإسلام في الجنوب والذي كان دائما وعلى مر العصور ملتقى طرق الحضارات المختلفة التي تداخلت فوق أراضيه نشأ وتطور نموذجا متميزا لتعددية الثقافية جعل من أذربيجان واحدة من الأماكن حيث يجتمع قادة الطوائف الدينية المختلفة على نفس الطاولة ويقدمون رسالة مشتركة ومن البلدان الإسلامية القليلة التي يصلي فيها المسلمون الشيعة والسنة في نفس المساجد ، من الرائع رؤية النموذج يعمل ولكن من الأفضل فهم ما الذي يجعله يعمل ، فالنموذج الأذربيجاني لتعددية الثقافية هو نتيجة لمزيج متناسق و متوازن بين التاريخ المميز ،الموقع والجغرافيا الخاصة لهذا البلد و السياسة الحكيمة. تمتد الجذور التاريخية لتعددية الثقافية الأذربيجانية لعدة قرون قام خلالها مجتمع هذا البلد باستمرار جمع شمل فسيفساء المجموعات العرقية والدينية المختلفة حسب تغير مصادر التأثير السياسية و الثقافية ، فقبل أن تصبح جزءا من الإمبراطورية الروسية خلال القرن التاسع عشر كانت أراضي أذربيجان تحت سيطرة و تأثير الفرس لهذا فإن حقيقة أن الأغلبية المسلمة تعتنق المذهب الشيعي هي نتيجة لهذا التأثير،علاوة على ذالك ورغم خضوع هذا البلد ما يقرب 100 سنة تحت حكم الإمبراطورية الروسية و تعرض ساكنته بقوة للتأثير الأرثوذكسي و اكتسابها تراثا روسيا إلا أنه لم ينتشر ويتجذ ر في المجتمع الأذري بقوة مثل التراثين التركي و الفارسي. اثر تفكك الإمبراطورية الروسية أعلنت جمهورية أذربيجان استقلالها لأول مرة عام 1918 و بعد عامين فقط أصبحت جزءا من الاتحاد السوفييتي سنة 1920 حيث تكيف الأذربيجانيون خلال هذه الحقبة مع مبادئ الشيوعية و تم حظر الدين تماما وتقوية البناء المتعدد الأعراق للمجتمع الأذربيجاني جراء سياسات الهجرة التي انتهجت داخل الاتحاد. لعب موقع أذربيجان الجغرافي كحلقة وصل بين أوروبا وآسيا وكملتقى طرق الحضارات المختلفة دورا كبيرا في إغناء التعددية الثقافية الأذربيجانية ،بوجود هذا البلد على طريق الحرير تأثر السكان بشكل كبير بتدفق المسافرين والأفكار والمعتقدات والتقاليد الجديدة المنقولة مع القوافل من الهند والصين إلى أوروبا ، إضافة إلى ذلك غنى هذا البلد بالنفط ساهم بدوره في تدفق الأجانب من مختلف بقاع العالم للعمل بهذا القطاع الحيوي. في الواقع لعبت هذه العوامل التاريخية والجغرافية دورا حاسما في تحديد و تشكيل مواقف الشعب الأذربيجاني تجاه الثقافات و الديانات المختلفة ،فتأثير أوروبا الغربية الحديثة وآسيا الشرقية التقليدية أحدث مجتمعا تمكن جميع أفراده من الحفاظ على هوياتهم الثقافية و الدينية وتقوية روح التسامح و إضفاء الطابع النموذجي على التعددية الثقافية الأذربيجانية حتى صارت نمطا للحياة و للعيش والتعايش بالنسبة لسكان هذا البلد. ‒ سياسة الدولة يرجح نجاح النموذج الأذربيجاني لتعددية الثقافية أيضا إلى الانفتاح الفريد والحداثي للمجتمع الأذري الذي يمكن أن نلامسه في العديد من القرارات الرائد ة ، تأسست جمهورية أذربيجان سنة 1918 وكانت أول جمهورية ديمقراطية علمانية في العالم الإسلامي حيث المواطنون باختلاف أصولهم و أعراقهم متساوون في الحقوق مع دعم مجتمعي مهم للمساواة بين الجنسين، فقد كانت أول بلد إسلامي يمنح المرأة حق التصويت حتى قبل العديد من الدول الأوروبية ودعم تعليمها من خلال بناء مدارس للبنات منذ القرن التاسع عشر.اليوم يعد هذا البلد مثالا حيا يثبت للعالم وجود بلد ومجتمع إسلامي ليس متسامح فحسب بل مبني على مبادئ المساواة و الحرية والتعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع العرقية. ينص دستور أذربيجان مثل العديد من دساتير الدول الحديثة على أن كل دين متساو أمام القانون (المادة 18) بينما تضمن الدولة المساواة و احترام الحقوق والحريات للجميع بغض النظر عن العرق أو الجنس أو الدين أو اللغة (المادة 25) و لكل شخص حرية اختيار أي دين والتعبير عن رأيه في الدين (المادة 48) ، في هذا الإطار خلقت سياسة الدولة ممارسة عملية مجتمعية مبنية على روح التسامح و الاحترام والإخاء بين الأعراق والأديان يمكن رؤيتها والشعور بها أكثر مما في العديد من بلدان العالم عززتها بسياسة تعليم فريدة من نوعها حيث يسمح بتعليم لغات الأقليات القومية كجزء من المناهج الدراسية في أغلب المدارس حتى و إن كانت لغة سكان قرية جبلية صغيرة واحدة تقدم أذربيجان الحديثة نفسها للعالم اليوم كمركز للتعددية الثقافية وتبسط سياستها الحكيمة في هذا المجال من خلال تنظيم العديد من الأحداث و الفعاليات التي تظهر انفتاح هذا البلد على جميع الثقافات والأديان، لقد استضافت في مايو 2017المنتدى العالمي الرابع لحوار بين الثقافات بشراكة مع العديد المنظمات الدولية الشهيرة مثل اليونسكو ،كما أنها عقدت في السنة الماضية النسخة السابعة للمنتدى العالمي لتحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة في باكو، و منذ سنة 2010 تقدم أذربيجان سنويا منتدى باكو الإنساني الدولي الذي تجتمع النخب السياسية والعلمية والثقافية للمناقشة مشاكل الإنسانية الأكثر إلحاحا.حاليا يتم تدريس نموذج التعددية الثقافية الأذربيجانية تحت إشراف مركز باكو الدولي لتعددية الثقافية الذي أسس س بالقرار الجمهوري الصادر عن الرئيس الأذربيجاني سنة2014 . في العديد من الجامعات حول العالم و تنظم سنويا العديد من الدورات و التكوينات في هذا المجال داخل البلد و في الخارج . في النهاية لا يمكننا في هذا المقال عدم الإشارة إلى المشكل الأذربيجاني الأرمني، و حرب ناغورنوي كاراباخ، خصوصا، ونحن نتحدث عن التسامح في أذربيجان، على الرغم من أنه غالبا ما يشار إلى هذه الحرب على أنها صراع عرقي، إلا أنه هو صراع إقليمي حول أراضي أذربيجانية ، تبرزه جليا التسوية القانونية والسياسية للنزاع المستندة إلى قواعد و مبادئ القانون الدولي على النحو الوارد في قرارات مجلس الأمن (822.853.874.884)، و في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 62/243، و كذلك في القرارات والوثائق ذات الصلة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، و غيرها من المنظمات الدولية التي جاءت استجابة لاحتلال جزء من الأراضي الأذربيجانية. وعلى الرغم من النزاع، لا يزال حوالي 30 ألف أرمني يعيشون اليوم في أذربيجان، خارج منطقة ناغورني كاراباخ دون عوائق ومشاكل تذكر، مما يؤكد أن سبب النزاع ليس عرقيا. أذربيجان اليوم تعلمنا درسا مفاده أن احترام الأديان و الثقافات، و الأعراق يقودنا إلى إنشاء بيئة، ومجتمع متعدد الثقافات يسود الإخاء و التسامح بين أفراده، و مكوناته، و توفر لنا هذا النموذج العملي، والمتميز للتعددية الثقافية الذي لا مثيل له في العالم الذي بفضله جعلها تلعب أدوارا مهمة في حوار حضارات العالم.