بِقْدر ما يَجِدُ المرء المُتأمِّل في الطبيعة، تلك الأُمُّ الخلاَّقةُ، وسيدة الرموز والإشارات، العديدَ من الألغاز والأسرار العجيبة التي يكون علينا فقط الإنصات إلى ما تتضمنه من إنجازات باذخة واستعارات، يجد كذلك أجوبة شافية لبعض أسئلته المستعصية، حتى لو كانت هذه الأجوبة في شكل استعارات كبرى كذلك أو تشبيهات بليغة قد تَصْلُحُ لمطابقة رائعة بين وضع ووظيفة العديد من الكائنات ( البشرية منها وغير البشرية )، سواء في الحياة الطبيعية العادية، أو في التواجد والوظائف والأدوار الأخرى الموكولة لهاته الكائنات في المجال الرمزي. ما الداعي، هنا، لذِكْر حيوان رخوي جميل اسمه " الحلزون "، وجعل اسمه وصفاته وخصائصه موضوعا وعنوانا لهذا المقال بالذات ؟ أو، بالأحرى، ما السبب الوجيه الذي يمْكِن أن يجعل من الخصائص البيولوجية والحيوية لهذا الكائن في دورة الطبيعة تطابقات أو معاني سلبية على وجد التحديد، أو حتى وظائف عكسية أحيانا بالمعنى المَجازي، إذا ما تمتْ مقارنة وظائف هذا الحيوان المسكين بالعديد من الكائنات المحسوبة، في مشهدنا الوطني والعربي، على الثقافة والإبداع والسياسة وغيرها من مجالات إنتاجنا الرمزي وغير الرمزي ؟ خصوصا إذا عُدْنا إلى التعريف العلمي لنوع من هذه الحلازين ( الحلزون البزَّاق )، كَدابَّة صغيرة رخوة تعيش في صَدَفة، أو كحيوان " عديم القوقعة، جسمه رخو، يحتوي الكثير من الماء ولا يحميه غطاء خارجي. إذ تعيش بعض أنواعه في الأماكن الرطبة وعلى اليابسة. فيما يعيش البعض الآخر في البحر مثل : " البزَّاق الأصفر "، المتواجد في الحدائق وأسفل البيوت، سِيَمَا داخل أنابيب البنية التحتية، مثل : المزاريب ومَجاري المياه ". وإذا ما عُدنا إلى " حلازيننا البزَّاقة " في مشهدنا الثقافي والإعلامي والسياسي الوطني والعربي، وحاولنا رصد ما يوجد من تشابهات صارخة، في الوظائف والأدوار، بين بعضها وما يقابلها رمزيا في هذا المشهد الذي أصبح يَعُجَّ، حدَّ التخمة، بشتى أنواع هاته الحلازين. سيَما وأن " الحبل أصبح متروكا على الغارِب " كما يقال، وأضحى في وسع مَنْ " هبَّ ودَبَّ " ( وهذه أيضا صفة أو خاصية بيولوجية ظلت ملتصقة تاريخيا وأدبيا ورمزيا بالحلزون، ككائن بطيء السرعة، باعتباره آخر من يدرك خط الوصول في كل السباقات )، فإننا نجد بأن الكل، في هذا البلد " السعيد " قد أصبح " كاتبا " و " شاعرا " و " ناقدا " و" مبدعا " و " إعلاميا " و " فاعلا " في السياسة والمجتمع من دون " حسيب ولا رقيب ". ومن المؤكد أيضا بأن مشهدنا الثقافي والإعلامي والسياسي المغربي والعربي الحالي أصبح يتنافس على الرداءة بامتياز، وهو في أمس الحاجة إلى أكثر من قراءة فاحصة، تكشف عن الكثير من أعطابه وتعيد تركيب عناصره ومكوناته من جديد، بما في ذلك هؤلاء الذين يُنَصِّبون أنفسهم " حُرَّاساً للهيكل " في السياسة والثقافة والإبداع، و" فاعلين " في هذه المشاهد وأوصياء شرعيين عليها من دون حق. حيث يَظهَر لك بين الفينة والأخرى، هنا وهناك، مِنْ منبر حزبي أو دكان سياسي أو عَبْر نص أدبي ضحل أو " مقال " مُدَبَّج بشكل رديء، من يَلبَس عباءة المهنة والصنعة والوَرَع والتقوى وحُجَّة " الغيرة " على البلاد والعباد، ليَنفُثَ أفكاره وأكاذيبه وأحقاده ولُعابَه السَّام، كما يفعل " الحلزون البزَّاق " في جسم ووجه مَنْ يوجد حوله مِنْ كائنات، ويهدم كل ما هو جميل في هذا الوطن وفي الحياة. غايته الوحيدة أو الدفينة في ذلك تزييف الحقائق والقناعات والمبادئ وتبخيس إنجازات ونجاحات الآخرين. الأمثلة كثيرة ومتعددة. إذ لا يحتاج المتتبع اللَّبيب لأغْلَبِ ما يُكتب ويُنتَج ويُنجَز في الثقافة والسياسة والإعلام في بلدنا العزيز إلى الكثير من العَناء، كي يميز ما بين الجاد والمسئول والضحل، وحتى المنحط والمزيف أحيانا في كل هاته الإنتاجات والمبادئ والقناعات. وليس في هذا الحُكْم، الذي قد يبدو قاسيا بالنسبة للبعض أو حتى مُجانبا للصواب بالنسبة للبعض الآخر، أي نوع من التعميم أو أي شكل من أشكال اليقين المُطْلق، ولا حتى ما قد يوحي لبعض الأذهان المُغلَقة بنوع من " تصفية الحسابات ". لكون الكتابة والإبداع، كل الكتابة وكل الإبداع، في نظرنا المتواضع، سواء في المجال العام أو الشخصي: هي ذلك المجال الأسمى والأنقى، والذي ينبغي أن يظل خارج كل أشكال التضليل الفكري والديماغوجية وتصفية الحسابات، وحيزا حقيقيا لزرع بذور الوعي الخلاَّق وقيم التسامح والاختلاف والنقد الهادف والبَنَّاء. لكن ثمة فرق كبير أيضا، من دون شك، فيما تقوم به الحلازين في الطبيعة كحيونات، تحكمها قوانين بيولوجية محددة وضرورات الرغبة في البقاء، وما تقوم به الحلازين البشرية في محيطها وفي المجتمعات: على الأقل يبقى لحلازين الطبيعة هذا العذر الأسمى في الحفاظ على حياتها وتحقيق نوع من التوازن في دورة الطبيعة والحياة، أما حلازين السياسة والثقافة والإعلام في مجتمعاتنا العربية، فهي عَدُوَّة الفرح والبهجة والحياة، وتأخذ، مع كامل الأسف، كل تلك الصفات والمعاني الضارة والمعكوسة للحلزون وتستحقها بامتياز. وللراغبين من هؤلاء الأصوليين والوصوليين، المختبئين وراء الإيديولوجيات المزيفة والخطابات السياسية والإبداعية الضحلة والمغشوشة، في معرفة بعض هاته المعاني، فما عليهم سوى الرجوع إلى القواميس العربية المعتمَدة ( " الرائد " و" الوسيط " على سبيل المثال لا الحصر ) للتأكد مما تعنيه وتشير إليه كلمة " حلزون " في مختلف أشكالها وصيغها الاسمية والفعلية والنَّعتية على الخصوص. حيث نجد، من باب الصدفة الغريبة والعجيبة، في هذه القواميس ما جاء ذكره في " باب الحلزون ". إذ نقول: " قلبٌ حَلِزٌ " فهو: " قلبٌ مقروح "، و " الحِلِّزُ " هو " البُوم "، والواحدة منها تسمى " حِلِّزة ". وتعني " الحِلِّزُ " كذلك: " البخيلُ "، و" القصير " و" السَّيِّء الخُلُق ". أما الأدهى والأعجب من ذلك، فهي الدلالة العجيبة والبليغة لاسم الحَلَزُون نفسه. إذ يأخذ هذا الأخير في بعض معانيه ذلك " الشكْل اللولبي الذى يأَخذه السلْك أو غيرهُ إذا ما لُفَّ حول محوره، ليُكَوِّن دوائر بعضها فوق بعض " .. وهذه صفة أو خاصية تكفي، وحْدَها، للتدليل على عدم الاستقامة في الحركة والفعل والسلوك، وتبرر قاعدة أو منطق المشابهة أو المطابقة الرمزية والاستعارية الذي أتينا على ذكره: إذ يتكيّف، بل يستجيب العقل الحلزوني كما فِعُلُه لمِحوره ولسيده ولصاحب نِعْمَته، على الأصح، ويُغيِّر شكله ومواقفه وأفعاله بما يُرضي المحور والسيد وصاحب النعمة في آخر المطاف. وأنا أستقصي، من هذا المصدر أو ذاك، بعض التعريفات العلمية والخصائص البيولوجية، وكذلك بعض المعاني اللصيقة بهذا الحيوان العجيب أو هذه الدَّابة الرخوة المسماة ب " الحلزون البزَّاق "، أثارتْني أيضا، ضمن نفس الاستعارات المُدهشة والمشابهات والمطابقات الدلالية السابقة، خاصية فيزيقية لهذا الحيوان الصغير، أراها على قدر كبير من الأهمية في رمزيتها ودلالتها كذلك لدعم وتأكيد حُجَّة هذا المقال: إنها مسألة تغيير الألوان. بحيث " يعيش نوع من هذا الحلزون العجيب قريبا من البحر الأحمر، ويسمى " بزَّاق البيجاما ". لِمَا يتميز به، عكس باقي الحلازين، من أشرطة ملونة أغلبها: أبيض واسود وبرتقالي. ولهذا السبب سُمي تحديدا ب " بزَّاق البيجاما ". إذ تجعله تلك الألوان مخيفا بالنسبة لحيوانات البحر الأخرى. وهو يتغذى على فُطْر سام من نوع " الفيلينيوس Phillinus ". وفي ذلك، في نظرنا المتواضع، الكثير من المعاني والدلالات والأجوبة البليغة التي تمنحنا الطبيعة إياها من دون مقابل، وكذلك الكثير من القصص والسِّيَر التي عاشها وشيَّدها، بالقليل من الجهد والكثير من النَّفعية وتغيير القوقعات، العديد ممن وجدوا أنفسهم بالصُّدفة في دوائر المسئولية والسياسة والكتابة والثقافة والإبداع. فسُبحان الذي، مثلما سَخَر لعباده الطيبين الكثير من فوائد الطبيعة وعناصرها وإنجازاتها المُبهرة، سَخَّر لهم كذلك إمكانية ونعمة العقل التي يمكن بفضلها التمييز بين المعاني وإشاراتها، والحلازين وأشباهها. و" طوبى " لكل تلك الكائنات البزَّاقة التي ما زالت تقتات بجُهد الآخرين وتتغذى على الفُتات. إشارة : * العنوان مأخوذ مِنْ مَطْلع نشيد مدرسي معروف، ضمن مقررات البرنامج السابق لوزارة التربية الوطنية المغربية في ثمانينيات القرن الماضي، يقول: " دَبَّ الحلزون فوق حجارة / مِنْ أين أتى يحمل داره " … ؟