إذا كانت اللغة العربية قد تراجعت وتخلفت عن الركب، عما كانت عليه في السابق، وفي ذلك ارتباط كبير بالعوامل الداخلية والخارجية، ومن ضمنها العلاقة بالسلطة السياسية والاقتصادية على حد تعبير الراحل محمد عابد الجابري، نتيجة تخلف حضاري وسياسي لا ينفصل عن التخلف العلمي والمعرفي، وهنا جدلية العلاقة واضحة من خلال التخلف العام الذي انتهى بسقوط الأندلس، ايذانا ببداية الخمول والجمود، فإننا نتفق مع الباحث عبد المجيد السفياني، في كونها "ليست هي المسؤولة عن التخلف العلمي، ولا لغات أخرى هي الطريق الملكي للعلوم، فالروس أطلقوا أول قمر اصطناعي وحققوا نهضتهم العلمية بلغتهم القومية، وكذلك الصين واليابان والهند وغيرهم، فكل هذه الأوطان خاضت معارك شاملة طويلة وشاقة، وأرست سياسات ومؤسسات عامة جعلت من اللغة أحد العناصر في تحقيق النهضة العلمية والتقنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية عموما. لذلك فنحن لا نجد لديهم كلاما حول ضرورة التعليم بلغات العلم لاستفادة مجتمعاتهم من سوق الشغل الذي تضمنه مجتمعات ولغات العلم لغيرهم، فأوطانهم هي سوق شغلهم؛ إذ لا يمكن عزل السوق الاقتصادي عن طبيعة السياسات العامة لتدبير المجتمع في إطار ما يسميه "ألتوسير" ب "الكل البنيوي المعقد"، حسب الباحث محمد السفياني. إن الفصل في مسألة التجاذب الكبير اليوم ببن اللغة العربية واللغات الأجنبية، في سياق القانون الإطار للتربية والتكوين يجب أن يرتكز على التمييز بين تدريس اللغة ولغة التدريس، ولهذا فإصلاح التعليم بالمغرب لا يجب أن يسقط في الخلط بين السياقين، مع الاعتراف الجارح بأن اللغة العربية اليوم في حقلي العلوم والمعرفة، أصبحت عاجزة عن كسب رهان التسابق العلمي والتكنولوجي، في وقت تعمقت فيه الهوة الفاصلة بينا وبين البلدان المتقدمة الأخرى، ولكن هذا لا يعني أنها لا تملك القدرة على ذلك، ويكفي أن نعلم أن هناك جهودا حثيثة، حتى وإن كانت فردية لإنعاش هذه اللغة وتحيينها علميا، وفي هذا السياق تأتي أول موسوعة علمية باللغة العربية في الفيزياء النظرية، والتي قام بإنجازها البرفسور المغربي محمد البغدادي، في خمس مجلدات، تحت عنوان" أسس الفيزياء المعاصرة"، وقد صدرت في الأسابيع القليلة الماضية عن دار طوب بريس بالمغرب، وبمجهود شخصي صرف، أضف إلى ذلك مناقشة عدد كبير من أطاريح الدكتوراه في كليات الطب والصيدلة بالعربية، مغربيا وعربيا، وهي مجهودات ترتبط أكثر على مستوى المصادر والمراجع بالإنجليزية أكثر من الفرنسية. من هنا فتدريس اللغات الحية يحب أن يحظى بأهمية استراتيجية كبيرة، خاصة في ارتباطهابالمستويبن الاقتصادي والعلمي -التكنولوجي، ولذلك، يجب منح الأولوية للإنجليزية، وليس الفرنسية، لكن دون أن تصبح هذه اللغات هي لغات التدريس لعقود قادمة، بقدر ما يمكن أن تكون مرحليا أداة لتأهيل التعليم العلمي بالمغرب لفترة تجريبية تحدد مدتها انطلاقا من دراسة ميدانية، عبر تدريس عدد من المجزوءاتفي الرياضيات، الفيزياء، الكيمياء، والطبيعيات، وجب تحديديها في سياق القانون الإطار ضمن رؤية استراتيجية ومشروع عملي لا ينفصل عن خلق مؤسسة وطنية للترجمة على شاكلة بيت الحكمة، وهو تحد يلزم كل البلدان العربية الأخرى، فلا يعقل أن يكون حجم ما ترجم إلى اللغة العربية منذ الخليفة المأمون إلى اليوم لا يتجاوز 100 ألف عنوان، وهو ما يترجم إلى اللغة الإسبانية في سنة واحدة، للمثال لا الحصر، ، ولا يعقل أن يترجم العرب كلهم 20 في المئة فقط مما تترجمه اليونان، التي لا يتجاوز عدد سكانها عشرة مليون نسمة،سنويا. وما يقال عن الترجمات، ينطبق على التأليف في كل المجالات، إذ يكفي أن نعلم أن أمريكا لوحدها تصدر 300 ألف عنوان سنوياً في الثقافة العامة، مقابل 5000 عنوان في كل بلدان العالم العربي، حسب أخر دراسة لمؤسسة الفكر العربي. إن الأفق الذي نبتغيه، كمرجعية لإصلاح هندسة التعليم بالمغرب، يقتضي مؤسسات قوية برؤية استراتيجية حقيقية، نابعة من عمق التحدي والرهانات الكونية، وخاضعة وجوبا للتقييم المستمر، وفق ثوابت الحكامة الرشيدة ، حيث لا يجب أن نسقط في مؤسسات من قبيل معهد التعريب الذي لم يقدم شيئا يذكر في كسب رهان التحدي الماثل في تأهيل لغتنا علميا ومعرفيا، وهي مؤسسة يجب أن تشتغل في تناغم مع مديرية المناهج بوزارة التربية الوطنية، والتي لم تنجح في مهمة ابتكار مناهج قادرة على كسب رهان المدرسة المغربية، لا على مستوى اللغات ولا على مستوى العلوم، فخريجو الجامعات لا يتقنون لا اللغة العربية ولا باقي اللغات، التي فشلت روزنامة المناهج بالتعليم المدرسي في تحقيقها ككفايات تواصلية، وهو مسعى لن يتم تحقيقه إلا عبر تأهيل أطر التربية والتكوين والأكاديميين والباحثين تأهيلاً علمياً ولغوياً، خاصة على مستوى الانجليزية التي تعد بحق اللغة الأولى للبحث العلمي في العالم اليوم. إن الادعاء بفشل عموم الطلبة والمتعلمين في اتقانهم للغات الأجنبية، خاصة على مستوى العلوم نتيجة الازدواجية اللغوية في التدريس بين التعليم المدرسي والجامعي، هو ادعاء لا يصمد أمام حجة وبرهان فشل اتقان حتى اللغة العربية نفسها. فالأمر يتجاوز تدريس اللغات، كما يتجاوز لغة التدريس باللغة الفرنسية، إلى البحث في المناهج والطرائق وكافة مستويات المنظومة التربوية والتعليمية، مما يجعل الاقتداء بالتجربة الفرنسية، لإصلاح هندسة التعليم" العلمي" بالمغرب اقتداءً فاشلاً بالأساس، خاصة إذا علمنا، حسب جاك أطالي، أن جميع الدراسات المنجزة من طرف وزارة التربية الفرنسية وعدد من المنظمات الدولية، أن التلاميذ الفرنسيين في الرياضيات في تراجع مستمر، منذ أزيد من عقدين من الزمن، فتلاميذ الإعداديات الفرنسية هم الأسوأ من بين تلاميذ الدول الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE)، فيما يخص التمكن من معادلات الكسور، وهو ما ينطبق على مستويات التلاميذ في الشعب العلمية في فرنسا نفسها، وقد أشرت جريدة لوفيغارو، عدد 20 أبريل 2019، أن التلاميذ والطلبة الفرنسيين لم تعد تستهويهم الشعب العلمية، بما في ذلك الرياضيات والهندسة، مؤكدة تصريحات جاك أطالي، وهو ما ينطبق على الفرنسية كلغة إبداع أدبي ، التي بدأت أسماء الأدباء القادمين من المغارب وباقي البلدان الأخرى تتربع على عرشها مقارنة مع الكتاب من أصول فرنسية. إن فشل تدريس العلوم لا ينفصل على مستوى المرجعيات والمخرجات عن فشل تدريس اللغة العربية، باعتبارها لغة التدريس، مثلها في ذلك تدريس باقي اللغات، وهذا يدل على أن المشكل قائم في المناهج الدراسية والطرائق والبيداغوجيات، التي يتم تبنيها مركزياً في هجانتها كل حين، حتى بات التعليم جثة محنطة للتجارب، نتيجة تهميش المجالس التعلمية والفرق التربوية إقليميا وجهويا لصالح المركز، وغياب بنيات للبحث التربوي والبيداغوجي بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، التي باتت تكون أساتذة التعليم المدرسي :)ابتدائي، ثانوي إعدادي، ثانوي تأهيلي(، في غياب أية بنية للبحث العلمي المرتبط بمهن التربية والتعليم، وكل ما يرتبط بذلك من باقي البنيات المادية والرمزية لمنظومة التربية والتكوين التي سبق وأشرنا إليها. إن استلهامنا لهذا النموذج التجريبي، بتدريس مجزوءات باللغتين الفرنسية والانجليزية، مع الاحتفاظ بالعربية كلغة للتدريس، ينبع من استحضار تجربة العلوم والفلسفة في القرن الثامن عشر، فحسب محمد السفياني، فقد كانت اللاتينية حينها لغة الكتابة والبحث عند عدد من العلماء والفلاسفة من أمثال "غاليليو" و"ديكارت" و"سبينوزا" وغيرهم، حيث كانت ماتزال تحظى بقيمة كبرى على مستوى البحث والكتابة، وليس بلغاتهم الوطنية، التي اغتنت بفضل ترجمة هذه المؤلفات وأخرى إلى لغاتهم القومية الأوروبية، والتي كانت في الأصل مجموعة من اللهجات، سرعان ما أصبحت لغات وطنية قائمة الذات، لكن في الوقت نفسه، كانت لغة التدريس تتم باللغات الوطنية والقومية: ألمانية، انجليزية، فرنسية، إسبانية…إلخ، وهو ما ضمن الانتقال السلس للغات الوطنية التي أصبحت لغات العلم والتكنولوجيا، لكن هذه التجربة ما كانت لتكون كذلك لولا العمل الذي قام به الغرب لتأهيل لغاته الوطنية من أجل أن تصبح لغة علم ومعرفة، إذ ليس هناك معطى لغوي ثابت ونهائي، بقدر ما أن المسألة تكمن في القدرة من عدمها على تأهيل التعليم ليكن قاطرة للتقدم والتطور والرقي. ذلك أن الانفصال/ الاستمرارية مثلا بين التراث اللاتيني والروماني، كان قد أتى كحاجة عملية ليؤسس هذا الانتقال من كون اللغة اللاتينية لم تعد قادرة على التعبير عن الثقافة الرومانية، التي كانت تعد حكمة عملية، لا ثقافة لاتينية تأملية ونظرية بتعبير جورج طرابيش في كتابه "نقد نقد العقل العربي". بهذا يمكن القول بأن اللغة القادرة على الفاعلية العملية، هي اللغة القادرة على البحث العلمي والتداول المعرفي، وهو ما يشرح بالضرورة أن عدم تأهيل اللغة العربية لتصبح من جديد لغة علم ومعرفة عملية، هو إعداد مع سبق الاصرار والترصد لموتها، والتأهيل لا يمكن أن يتم إلا من خلال تأهيل التعليم ذاته، خاصة إذا علمنا أن تراثا كبيرا وزاخراً من العلوم والمعارف والفلسفة جاءت بهذا اللسان، من الرياضيات إلى الجماليات، ويكفي أن نعلم أن أول نظرية متكاملة في علم الجمال جاءت بلسان الضاد مع الفارابي، التوحيدي، ابن مسكويه، ابن رشد،..إلخ. تأسيساً على ما سبق، لا يجب الخلط بين تدريس اللغات، الذي هو أمر محمود ومرغوب ولغة التدريس، طبعا ضمن نموذج بيداغوجي وديداكتيكي جديد، بحيث يجب توضيح أن البند المتعلق بتدريس العلوم في القانون الإطار توضيحا دقيقا، خاصة وأنه ورد بشكل ملتبس وغامض يخفي الكثير من الأشياء، ومن بينها ما المقصود باللغات الأجنبية، فإذا كانت الوزارة تعني بذلك اللغة الفرنسية بالدرجة الأولى، فبالأحرى أن تكون الانجليزية هي الأولى، ثم ما معنى تدرس بعض المواد أو جزء منها. فهكذا عبارات هي غامضة وتسمح ببروز جدل يكون أحيانا عقيما باسم الهوية، مما يستوجب توضيح ما هي هذه المواد وما هي المجزوءات المراد تدريسها، وما هي اللغة التي نود أن ندرس بها؟ إن مسألة تحويل تدريس اللغات إلى لغة التدريس، وضرب اللغة/ اللغات الوطنية)العربية والأمازيغية( هو أمر خطير، ولا ينفصل عن الاستيلاب الثقافي والتبعية السياسية والاقتصادية، لكن بمراعاة سوق اللغات وسوف الشغل وواقع جامعاتنا، فأعتقد أن تدريس بعض المجزوءاتالعلمية بالإنجليزية لفترة تجريبية، مع تأهيل منظومة اللغة العربية المعرفية والعلمية عبر الترجمة، كما سبق الذكر، من خلال إعداد مناهج لتدريسها بالعربية فيما بعد، دون التخلي نهائيا عن تدريس اللغات الأجنبية، عبر دعم تدريس الإنجليزية منذ الابتدائي ، خاصة وأن ترتيب الفرنسية الآن في سوف اللغات والبحث العلمي يأتي في مرتبة متدنية، لكن هذا لا يعني استبعاد تدريس الفرنسية بدعوى لغة المستعمر، طالما أنها لغة فكر النهضة والأنوار الوارث لتراث إنساني وكوني رغم كل شيء، وباعتبارها أيضاً تشكل اليوم اللغة الأولى على مستوى مجريات ومصادر البحث العلمي في الجامعات المغربية، وبالتالي فتعويضها كليا على مستوى البحث العلمي بالإنجليزية يتطلب على الأقل جيلا دراسياً من الزمن، أي مدة التعليم المدرسي من السنة أولى ابتدائي إلى البكالوريا، دون أن نحتسب طبعاً التعليم الأولي الذي يجب تأهيله بشكل علمي مدروس، إذا ما توفرت الإرادة السياسية والعلمية والتعلمية. لذلك، فتأهيل العربية علميا وتكنولوجيا لن يتم الا بتأهيلها تعليميا وثقافيا، وهذا لن يتم إلا بتطويرها دون السقوط في صراع هوياتي بخلفية دينية، وهو ما يتطلب دعم جهود الترجمة، والتي يمكن القول أن الحكومة لم تولها لحد الأن أية مكانة وأهمية. إن كل الدول التي وجدت لها موطئ قدم في التكنولوجيا والتقدم، كلها دول اعتمدت لغتها الوطنية في التدريس، ولنا في نمور آسيا خير دليل على ذلك. ولهذا، فمن الممكن تدريس بعض مجزوءاتالعلوم بالإنجليزية أو الفرنسية أو بالتناوب في مرحلة أولى، لكن مع وضع تصور واضح لإعداد مناهج وتكوين الأطر على التدريس باللغة العربية والتوفيق مع باقي اللغات من خلال مادة الترجمة. أما ما يرد في القانون الإطار، فاعتقد أن المقصود باللغات هو الفرنسية، لكن دون وضع تصور مستقبلي واضح، مما يعني أن الحكومة عاجزة عن بناء استراتيجية إصلاحية لقطاع التعليم، مبني على دراسات ومعرفة بالقطاع. إن مشكل التعليم ببلادنا لا يكمن فقط في اللغة فقط ، بل المشكل كامن في الرؤية السياسية للتعليم، وهو ما لا ينفصل عن أزمة المناهج، المؤسسات، التكوين، الوضع الاعتباري للأستاذ، الحكامة في الإدارة التربوية والمدرسية، والجامعية….إلخ، والدليل على غياب الحكامة في منظومة التربية والتكوين منذ الاستقلال إلى الأن هو عدم ارتباط أي فشل في مشاريع الإصلاح بربط المسؤولية بالمحاسبة، ولنا في آخر تجربة للإصلاح من خلال المخطط الاستعجالي خير دليل على إهدار المال العام، دون جه حق ودون تحقيق الحد الأدنى من الأهداف، وهو ما لا ينفصل في العمق عن العجز الديموقراطي في البلاد، الذي جعل وضع الأسر المغربية من وضع المدرسة والتعليم، ووضع خريجي الجامعات من وضع اقتصاد البلاد، ولذلك كان على النقاش أن ينصب على مشكل التعليم في شموليته، وليس فقط في مسألة اللغات. ضمن هذا السياق، يتضح أن حكومة العدالة والتنمية في صيغتيها (الأولى والثانية) تعيد إنتاج المدرسة المغربية التقليدية، كما هو حال باقي الحكومات السابقة، من خلال تغيير التسميات، لتظل بذلك المدرسة والجامعة منفصلتين عن محيطهما الاجتماعي والثقافي المحلي والعالمي، ولذلك فالهجانة تأتي من كون قيم المدرسة والجامعة أصبحت غريبة عن المجتمع، حتى إذا ربطنا تعسفا التعليم بسوق الشغل، فقيم الاستحقاق تضمحل وتنهار أمام أعراف الزبونية والفساد الاداري والمالي، حيث تغيب كل قيم الاستحقاق والمجهود والمردودية، وكل قيم المحاسبة والمسؤولية.