ضمن هذا الأفق، فإن مسألة التعليم وإصلاحه لا يجب أن تنفصل على مستوى المدخلات التوجيهية من داخل حقل اللغة عن وحدتها العضوية مع الفكر والثقافة، حسب هاملتون، فالفكر لا يوجد خارج اللغة، والعالم نفسه لا يوجد إلا داخل اللغة، باعتبار أن اللغة هي مَقْوَلَةُ العالم، وأساس فعل التواصل الذي لا ينفصل عن الفعل الاستراتيجي الداعي للتحرر باعتباره امتلاكا لفلسفة الوعي، بحيث أن علاقة اللغة بالفكر، هي في العمق علاقتها بالفعل، وهو كعلاقة الذات بالموضوع شديدة الارتباط، بتعبير مدرسة فرانكفورت، وعلى رأسها هابرماس، إذ الألفاظ هي الحاضنة للمعنى والدلالة، وهو ما سبق وتعمق فيه أحد كبار علماء فلسفة اللغة، الألماني لودفيج يوهان فيتغايشتن، في كتابه رسالة فسلفية منطقية، الصادر سنة 1922، والذي ترجم إلى عدد كبير من اللغات، وعلى رأسها الانجليزية والفرنسية نفسيهما. بحيث أوضح أن اللغة هي مجموع القضايا، وأن العالم يرتد بالنهاية إلى القضايا التي تعبر عنها اللغة، إذ اعتبر أن الفكر هو القضية الأولى ذات المعنى، بحيث يصبح كل فصل بين اللفظ والمعنى وبين الفكر واللغة، فصلا تعسفياً يهدر في العمق مقولة العالم وانفصاله عن الإنسان، ولربما بتأويلنا الخاص لرسالة فيتغايشتين، يمكننا القول أن هذا الفصل، الكامن في تحويل اللغة إلى مجرد أداة للتواصل، هو نفي للإنسان عن العالم بالمعنى الفلسفي للكلمة، لأن العيش في العالم هو إنتاج لمقولاته وقضاياه، وليس فقط استهلاكها. من هنا أيضاً يمكن تفسير نبوغ اللغة الألمانية في الفلسفة، وفلسفة العلوم والتكنولوجيا والعلم على حد سواء، مثلها في ذلك مثل اللغات الأخرى. ولذلك، فالتعدد الثقافي لا يجب أن ينفصل عن التعدد اللغوي، أكيد، لكن التعدد اللغوي لا يعني السكون في الأحادية اللغوية، باسم العلم والتكنولوجيا، طالما أن لغة العلم بالغرب ليس الصيغة الوحيدة للعلوم، ولا الصيغة الفريدة للثقافة، وهذا ما ركز عليه فريتش فالنر في صياغته لنظرية الواقعية البنائية، خاصة وأن الثقافة لا تشمل فقط اللغة، بقدر ما تشمل القيم والمعايير الاجتماعية والطقوس والعادات، وكافة البنيات الأنثربولوجية للمتخيل، فإذا كانت الثقافة هي حاملة للقيم وموجهة للأهداف، فهي في ذات الوقت تمارس ضغطا على الأفراد وتوجه سلوكهم وتحدد مواقفهم، ووظيفة الثقافة هي أنها تحدد لكل فرد انتماءه إلى إحدى الجماعات، وهي التي تحدد مجال اتصاله داخل الجماعات وفيما بينها، فالثقافة تنشئ وحدة مشتركة تقوم عليها الأخلاق والمعرفة والقيم وأساليب العمل والتفكير وطرائق السلوك، وهي وحدة مستحيلة بدون اللغة الوطنية، لكنها لغة ملزمة بالتفاعل الخلاق بباقي لغات العالم، وملزمة بالتطور والتجدد من خلال العلم والمعرفة والتكنولوجيا، دون اضفاء طابع القداسة عليها بدعوى أنها لغة الدين أو القومية، لأن القداسة مانعة للتطور والتجديد، وفاصلة للمجتمع عن الازدهار والتمدن والحضارة، ومن هنا يأتي جمود الثقافة العربية، من جمود لغتها المنفصلة عن العلم والمعرفة، وهو جمود لا ينفصل البتة عن تخلف الاقتصاد والسياسة. فاللغة، أيا كانت هذه اللغة، ليست مكون محايد من مكونات الثقافة، بقدر ما هي نتاج تفاعل الاقتصادي والسياسي والعلمي وهلم جرا. إن جمود الصناعات الثقافية العربية وتصلب شرايينها الفكرية، مقابل التطور الهائل والمتسارع للصناعات الثقافية الغربية، يؤكد بالملموس تفاقم تبعيتنا الفكرية والإبداعية والتكنولوجية من المعمار حتى النقد الأدبي، ومن مناهج التربية حتى تعريب البرامج وتطوير برامجنا التعلمية والترفيهية، وهو ما تنبأ به عالم البرمجيات المصري "نبيل علي")متخصص في معالجة اللغات الطبيعية حاسوبياً (منذ حوالي عقدين من الزمن، معلنا بأن فجوة لغوية حادة ستحدث، فاصلة بين لغتنا العربية ولغات العالم المتقدم: فجوة في التنظير، وفجوة في المعاجم، وفجوة في تعليم اللغة وتعلمها، وفجوة في استخدام اللغة وتوثيقها، وفجوة في معالجة اللغة وترجمتها آليا، وربما يؤدي ذلك- في النهاية- إلى انتكاس تعليمنا كسابق عهده مرتدا إلى اللغات الأجنبية، ستضمر ثقافتنا أمام جحافل ثقافة العولمة الوافدة، وستسلب منا نصوصنا وتراثنا ونتاج إبداعنا، تحت دعوى مزج الثقافات وحوار الحضارات، وتكفي الإشارة هنا إلى ما فعلته الشركات الأمريكية في استغلال منتجات الصناعات اليدوية والفنية في الدول النامية، من إندونيسيا إلى المكسيك، جاعلة منها تجارة عالمية لا يتجاوز نصيب الصانع المبدع فيها٪ 10، فلا حماية حتى الآن للملكية الفكرية الجماعية المتعلقة بروائع التراث الشعبي، والتي لم تهتم بها منظمة اليونسكو إلا أخيرا، (نبيل علي :2001:38). وإذا كانت اللغة الإنجليزية قد بدأت في اجتياح كل أرجاء المعمور، خاصة على المستوى الثقافي بالدرجة الأولى، من خلال تشدد الموقف الأمريكي، فإن فرنسا، وفي سياق الصراع/ الجدل حول الصناعات الثقافية، وحقوق المؤلف، قد انتفضت ضد هذا الاجتياح العارم والذي يهدد في العمق لغتها الوطنية، مما جعلها تحظى بما يسمى ب"الاستثناء الفرنسي" حفاظا على صناعتها الثقافية، بالرغم من تخلف لغتها في تداوليات سوق اللغات، لا في التكنولوجيا والبحث العلمي ولا في لغات التواصل الأكثر ازدهاراً، مما دفع رئيس الوزراء الفرنسي إدوار فيليب للقول في مؤتمر صحفي في مدينة ليل: "إن الإنجليزية الآن هي اللغة المهيمنة للتفاهم بين الشعوب. عليك أن تتحدث بالإنجليزية إذا أردت أن تتصرف وتتعامل في ظل العولمة"، خاصة وقد جاءت فرنسا في أحدث ترتيب "لإديوكيشن فريست" كثاني أسوأ متحدثين بالإنجليزية في أوروبا بعد الإيطاليين، وهي دعوة لإجادة تدريس الانجليزية، دون التخلي عن التدريس باللغة الوطنية" الفرنسية". وهنا فرق بين بين لغة التدريس، وتدريس اللغات، وعلى رأسها اللغة الإنجليزية. لقد تمكنت فرنسا ضمن مجريات المفاوضات من حيازة الحق في فرض القيود عل استيراد منتجات الثقافة الأمريكية، وتفعيل الدعم لثقافتها الوطنية، وعلى رأسها دعم لغتها عبر مختلف مؤسسات الفرنكوفونية، وهو ما باتت تنادي به أيضاً اليابان، عبر محاولتها خلق حلف لغوي ضد هذه الهيمنة، مع التركيز على جعل لغاتهما الوطنية لغة للتدريس بالدرجة الأولى، حتى وإن كانت من الدول التي تحظى فيها الانجليزية على مستوى تدريس اللغات بأولوية استراتيجية. لذلك، فإن التفكير في آليات وطرق تحصين الثقافة العربية/ المغربية وتثمين مواردها المتعددة والتي لا تنفصل عن الثقافات واللغات العالمية، باعتبارها أحد روافد الحداثة الغربية نفسها، من خلال ما قام به بيت الحكمة في العصر العباسي، وما تلاه من ترجمة ونقل للتراث الاغريقي واليوناني للغرب، والذي ساهم فيه بشكل كبير رواد الفلسفة الإسلامية وعلى رأسهم ابن رشد، لا ينفصل عن التفكير في استراتيجية لغوية وثقافية تتأسس على قاعدتي العلم والعقل بحثا وتنظيرا وابتكاراً، لذلك، فإن هذه الاستراتيجية تتأسس على البحث في الهوية الثقافية والحضارية العربية، وتثمينا للذاكرة الجمعية التي باتت تعيش تحت تهديد العولمة والاستلاب الثقافي، بما هي ذاكرة لغوية بالدرجة الأولى. من هنا يجب أن يتأسس أي مشروع لإصلاح التعليم بالمغرب، على تعزيز اللغة، اللغات الوطنية، العربية والأمازيغية، لكن دون السقوط في النرجسية اللغوية والأحادية الثقافية، سواء كانت عربوفونية أو فرنكوفونية. إن اللغة حاملة للفكر والثقافة ضمن علاقة ترابطية شديدة الحساسية، خاصة وأنها تزود الفكر، بما في ذلك الفكر العلمي بالمفاهيم وبنيات الربط وأطر التفكير، وليس مجرد أداة للتواصل، ولذلك، فتهميش لغة التدريس واستبدالها بلغة أجنبية، لن يمنحها القدرة على التطور والتجدد، وهو ما يحكم على اللغة أيا كانت هذه اللغة بالأفول والموت، خاصة وأن تحويل المجتمعات من مراحل الخرافة والفكر الغيبي إلى مجتمعات المعرفة والعلم، لن يتم عبر استهلاك اللغات الأجنبية وتهميش اللغة الوطنية، بل إن هذا التحويل لن يتم إلا من داخل هذه اللغة نفسها، ذلك أن تحويل التفكير الجمعي من تفكير جامدة إلى تفكير حي متعايش مع محيطه الدولي والكوني رهين بالاشتغال على بنيات اللغة، ومن بينها بنيات المشابهة والربط المنطقي، وهو ما يأتي عبر اشتغال اللغة من داخل حقل العلوم. لهذا فاللغة العربية لم تكن عاجزة في السابق، حين تم ابتكار الجبر والهندسة، واكتشاف الصفر والأرقام والخوارزميات، لكنها لم تكن كذلك مبدعة وقادرة على الاكتشاف العلمي إلا لكونها كانت مصحوبة بجهد كبير على مستوى الترجمة، منها لباقي اللغات، ومن باقي اللغات إليها، ولعلنا نجد في تجربة بين الحكمة على عهد الخليفة العباسي المأمون، خير دليل على أن اللغة، أيا كانت لا يمكنها أن تزدهر في حقلي العلوم والفلسفة إلا عبر مكون الترجمة، باعتبارها جسرا لا مندوحة عنه للتجاوز، بما يحمل الاسم من دلالة على الابتكار. ولذلك، فليس غريبا أن يُوَّلِيه المأمون بيت الحكمة على عهده، بما عرف عن هذا البيت من ترجمات، كانت بحق أحد أهم مداخل ازدهار العلوم حينها، والتي بفضلها تعرف الغرب على الكثير من التراث الاغريقي واليوناني في الفلسفة كما في باقي العلوم. يعتبر الخوارزمي، أو أبو عبد الله محمد بن موسى، من كبار علماء الرياضيات الذين أثروا العقل العلمي، بما في ذلك الفلك والجغرافيا، حسب الموسوعة البريطانية للعلوم، والذي انهال من التراث العلمي الكوني، شرح وعمق بطليموس في كتابه "صورة الأرض"، و"العمل بالإسطرلاب"، كما أعاد كتابة كتاب الفلك الهندي المعروف باسم" السند هند الكبير"، الذي ترجمه إلى العربية، وتجاوزه في كتابته "للسند هند الصغير"، وقد ترجمت أيضا كتبه إلى اللاتينية، التي أخد منها أيضا، ويكفي أن نعرف كتبه: " حساب الجبر والمقابلة"، و"حل منهجي للمعادلات الخطية والتربيعية"، كانت كافية لجعله مؤسسا لعلم الجبر إلى جانب "ديبوفانتوس"، بحيث كان اسمه هو الأساس اللغوي للجبر في الانجليزيةAlgorism. وإذا كانت الخوارزميات، بما هي مجموعة الخطوات المنطقية والرياضية المتسلسلة اللازمة لحل أي مشكلة رياضية وعلمية، هي أس الفيزياء النظرية، وأساسها الرياضي، فإنها سميت كذلك باسم صاحبها الخوارزمي الذي ابتكرها في القرن التاسع الميلادي ضمن الأفق نفسه، نستحضر أحد كبار الباحثين المعاصرين الذين اشتغلوا على علاقة اللغة بالفكر العلمي، وأحد مؤرخي العلوم، الدكتور رشدي الراشد وهو في الأصل عالم رياضيات وأستاذ فلسفة العلوم بالمعهد الجامعي للبحث العلمي بباريس، والذي سبق له أن درس الرياضيات بجامعة طوكيوباليابان، وصاحب كتاب: " من الخوارزمي إلى ديكارت، دراسات في تاريخ الرياضيات الكلاسيكية"، مؤكدا بأن ليس هناك علم يدرس بلغة أجنبية بدل اللغة الوطنية للبلد، إلا ولم ينتج معرفة علمية مزدهرة، فالعلم حسبه ليس مجرد كمية من المعلومات، بقدر ما هو تكوين عقلية قادرة على البحث العلمي والعمل العلمي، وتكوين العقلية العلمية يجب أن يكون باللغة الوطنية. أكيد أن الانجليزية أصبحت لغة البحث العلمي بامتياز، وهو ما يتطلب إجادتها والاستعانة بها، لكن لتحويل كل المجتمع إلى مجتمع معرفة وعقلية علمية عملية، يجب تحويل اللغة الأم إلى لغة تستوعب مفهومي القدرة والتجاوز، عبر استدخال مفاهيم المنطق والرياضيات والبرهان، وهو ما يعني تأهيل اللغة العربية حتى تصبح قادرة على ذلك، وهذا التأهيل يتم عبر مستويين: مستوى الترجمة، ومستوى تأهيل اللغة ديداكتيكيا كلغة للتدريس، بكل ما يرتبط بذلك من خلق مناهج مبتكرة، قادرة على ابتكار المفاهيم والمقولات). البقية في الحلقة الثالثة.