جدد د. عياد أبلال، الباحث الأنثروبولوجي المهتم بالشأن الاجتماعي والسياسي، التأكيد بأن المدرسة في أمس الحاجة إلى سياسة جديدة تقطع مع التقليدانية، وتفتح مجالات للإبداع والإنتاج عوض إعادة إنتاج ما سبق من النخب، مشيرا إلى ضرورة إعادة النظر في الاصلاح الجامعي، الذي لا يمكن إدراكه إلا بالإصلاح الجدري للتعليم المدرسي. وسجل د. أبلال، في دراسة له بعنوان "العدالة والتنمية بين الوعود الانتخابية والواقع الحكومي: العجز الديمقراطي أو الإصلاح المعطوب"، أن حكومتي حزب العدالة والتنمية الأولى والثانية لا تمتلكان الجرأة السياسية لإصلاح المنظومة التعليمية والتربوية، ولا الرؤية الاستراتيجية، بالإصرار على اعتماد التقليدانية والارتجالية في سياستهما التعليمية، وهو ما اتضح مع القانون الإطار للتربية والتكوين، وعدم منح تدريس اللغات الأجنبية، وخاصة الإنجليزية المكانة التي تستحقها باعتبارها لغة البحث العلمي والتكنولوجي، فضلا عن "طمس التعدد اللغوي والثقافي من خلال تعثر مسار تداول اللغة الأمازيغية وتفعيل دسترتها"، وهو ما جعل المدرسة والجامعة منفصلتان عن محيطهما الاجتماعي والثقافي. وتطرق الباحث، في هذا الجزء من دراسته، للحديث عن أوضاع الجامعة والبحث العلمي في المغرب، في عهد حكم حزب العدالة والتنمية، معتبرا أن الجامعة المغربية في ظرفية حكم "البيجيدي"، "باتت مؤسسة لتفريخ جيوش من العاطلين، بدون هوية وعلامة مهنية"، وذلك لأن "النظام ذو التوجه التقليداني والمحافظ لا يمكن أن ينتج سوى الهجانة والمشاكل على مستوى هذا القطاع". وأكد أن تطور وازدهار دولة الحق والقانون لا ينفصل في العمق عن ازدهار الصناعات والخدمات والاقتصاد المعرفي المرتبط بمجتمع المعرفة والبحث العلمي اللذان تلعب فيهما الجامعة دورا أساسيا، ومن واجب الحكومة بذلك أن تدعم "الإنتاج سواء كان في مجالات التصنيع أو الخدمات أو التجارة، لكن مع ضرورة ربطه بأفق البحث في الجامعات والمعاهد"، متأسفا لغياب مفهوم الابتكار والإبداع في الجامعة. ولا يمكن الحديث عن البحث العلمي، حسب أبلال، إلا في السياق الليبرالي الذي يعتمد بدوره على العقل والعقلانية والحرية والديموقراطية، وحزب العدالة والتنمية، الذي يتأسس خطابه على التقليد، لا يمكنه تطوير المجال أو الدفع به إلى الأمام، وهذا ما يعيق مجال البحث العلمي، حسب الباحث الأنثروبولوجي. تفاصيل أخرى يطلعنها عليها د. عياد أبلال، في الحلقة الخامسة من دراسته التي تحمل عنوان:" تخلف الجامعة وتعثر البحث العلمي انعكاس للعجز الديموقراطي على عهد حكومة العدالة والتنمية". ** إن الحديث عن إعادة الإنتاج، هو حديث عن استمرارية الجمود والتقليدانية، نحن الآن في حاجة ماسة ليس إلى الإصلاح، بقدر ما نحن في حاجة إلى صناعة سياسة تعليمية جديدة تقطع مع التقليدانية، وتفك الارتباط المرجعي بالصراعات السياسية الحزبية. من هنا ضرورة الإبداع والإنتاج، وليس إعادة إنتاج ما سبق من نخب، حيث تأتي الجامعة كمشتل من المفروض أن يبتكر جيلا جديدا من النخب، وهو ما يقتضي إعادة النظر في المنهاج الجامعي، وقبل ذلك في المنهاج المدرسي، لأن الجامعة بتحصيل الحاصل هي امتداد للتعليم المدرسي، فتلميذ التعليم المدرسي الأمس هو طالب التعليم الجامعي اليوم، ولذلك، فإصلاح الجامعة لن يستقيم إلا بالإصلاح الجدري للتعليم المدرسي على كافة المستويات: البنيات التحتية، الموارد البشرية، المنهاج والمقررات، وطرق التدريس…وهي أشياء يبدو أن العدالة والتنمية لا يرغب فيها، كما لا يرغب في ربط التعليم بإنتاج مجتمع المعرفة، فالنقاش الذي اشتعل لينطفئ في حينه حول اللغة الثانية في المنهاج الدراسي، انتهى بإعادة الإنتاج الايديولوجي للمدرسة الطبقية وللتبعية اللغوية والهوياتية، وفي ذلك فصل تعسفي للجامعة والتعليم عن التقدم والبحث العلمي ومجتمع المعرفة بشكل عام، فبدلا من اعتماد الإنجليزية كلغة ثانية باعتبارها اللغة الأولى عالميا على مستوى البحث العلمي والمعرفي وولوجيات المعلوماتيات، نجد أن الحكومة انتهت بإعادة اعتماد الفرنسية في القانون الإطار، وطمس التعدد اللغوي والثقافي من خلال تعثر مسار تداول الأمازيغية وتفعيل دسترتها لغويا وثقافيا في المغرب. إن الفصل في مسألة التجاذب الكبير اليوم ببن اللغة العربية واللغات الاجنبية، في سياق القانون الإطار للتربية والتكوين يجب أن يرتكز على التمييز بين تدريس اللغة ولغة التدريس، ولهذا فإصلاح التعليم بالمغرب لا يجب أن يسقط في الخلط بين السياقين، إذ أن تدريس اللغات يحب أن يحظى بأهمية استراتيجية كبيرة ، على أن يحدث الانفتاح على اللغات الحيوية في ارتباطها بسوق اللغات، خاصة على المستويبن الاقتصادي والعلمي -التكنولوجي، وهنا يجب منح الأولوية للإنجليزية، وليس الفرنسية في المقام الاول، بحيث لا يجب الخلط بين تدريس اللغات، الذي هو أمر محمود ومرغوب ولغة التدريس. وهنا نكون أمام هدم الهوية الوطنية والحكم على قدرة الشعب على ابتكار حلوله وثقافته وحضارته بالفشل. في هذا السياق يجب توضيح أن المادة المتعلقة بتدريس العلوم في القانون الإطار توضيحا دقيقا وردت بشكل ملتبس وغامض يخفي الكثير من الأشياء، ومن بينها ما المقصود باللغات الأجنبية، فإذا كانت الوزارة تعني بذلك اللغة الفرنسية بالدرجة الأولى. فبالأحرى أن تكون الانجليزية هي الأولى، ثم ما معنى تدرس بعض المواد أو جزء منها. فهكذا عبارات هي غامضة وتسمح ببروز جدل يكون أحيانا عقيما باسم الهوية، من هنا وجب توضيح ما هي هذه المواد وما هي المجزوءات المراد تدريسها، وما هي اللغة التي نود أن ندرس بها. إن مسألة تحويل تدريس اللغات إلى لغة التدريس، وضرب اللغة الأم هو أمر خطير، ولا ينفصل عن الاستيلاب الثقافي والتبعية السياسية والاقتصادية، لكن بمراعاة سوق اللغات وسوف الشغل وواقع جامعاتنا، فأعتقد أن تدريس المواد العلمية بالإنجليزية مع التفكير في إعداد مناهج لتدريسها بالعربية في الخمس سنوات المقبلة، مع دعم تدريس الانجليزية منذ الابتدائي أمر محمود، خاصة وأن ترتيب الفرنسية الآن في سوف اللغات والبحث العلمي يأتي في مرتبة متدنية. إن تأهيل العربية علميا وتكنولوجيا لن يتم الا بتأهيلها تعليميا وثقافيا، وهذا لن يتم إلا بتطويرها دون السقوط في صراع هوياتي بخلفية دينية، وهو ما يتطلب دعم جهود الترجمة، والتي يمكن القول أن الحكومة لم توليها لحد الأن أية مكانة وأهمية. ومهما كانت مرتبة الفرنسية، فهي من اللغات الحية التي لها راهنيتها وأهميتها الثقافية، خاصة وأنها لغة ثقافة وفلسفة الأنوار وفكر النهضة، لكن يجب أن تكون من ضمن روزنامة تدريس اللغات، ولا يجب أن تتحول إلى لغة التدريس . إن كل الدول التي وجدت لها موطئ قدم في التكنولوجيا والتقدم هي كلها دول اعتمدت لغتها الأم في التدريس، ولنا في نمور آسيا خير دليل على ذلك. إذن ممكن تدريس العلوم بالإنجليزية أو الفرنسية في مرحلة أولى، لكن مع وضع تصور واضح لإعداد مناهج وتكوين الأطر على التدريس باللغة العربية والتوفيق مع باقي اللغات من خلال مادة الترجمة، وتدريس بعض المجزوءات بالإنجليزية. أما ما يرد في القانون الإطار، فاعتقد أن المقصود باللغات هو الفرنسية، لكن دون وضع تصور مستقبلي واضح، مما يعني أن الحكومة عاجزة عن بناء استراتيجية إصلاحية لقطاع التعليم، مبني على دراسات ومعرفة بالقطاع، وهنا تتحمل كل مكونات الأغلبية الحكومية مسؤولية كبيرة. إن مشكل التعليم ببلادنا ليس في اللغة فقط ، بل المشكل يكمن في الرؤية السياسية للتعليم، وهو ما لا ينفصل عن أزمة المناهج، المؤسسات، التكوين، الوضع الاعتباري للأستاذ، الحكامة في الإدارة التربوية والمدرسية، والجامعية….الخ، وكلها مشاكل لا تنفصل عن المستوى الديموقراطي في البلاد، الذي بجعل وضع الأسر المغربية من وضع المدرسة والتعليم، ووضع خريجي الجامعات من وضع اقتصاد البلاد، ولذلك كان على نقاش العدالة والتنمية أن ينصب على مشكل التعليم في شموليته، وليس فقط في مسألة اللغات. ضمن هذا السياق، يتضح بذلك أن حكومة العدالة والتنمية في صيغتيها (الأولى والثانية) تعيد إنتاج المدرسة المغربية التقليدية، من خلال تغيير التسميات، لتظل بذلك المدرسة والجامعة منفصلتين عن محيطهما الاجتماعي والثقافي، ولذلك فالهجانة تأتي من كون قيم الجامعة أصبحت غريبة عن المجتمع، حتى إذا ربطنا تعسفا الجامعة بسوق الشغل، فقيم الاستحقاق تضمحل وتنهار أمام أعراف الزبونية والفساد الاداري والمالي. الجامعة بين التكوين والبحث العلمي باستحضار راهن الجامعة المغربية، يمكن القول أنها باتت وستظل مؤسسة لتفريخ جيوش من العاطلين والمعطلين، بدون هوية وعلامة مهنية، في ظل سوق تنحو أكثر من أي وقت مضى نحو التخصص والمهنية والاحترافية التقنية والمعرفية، كما ستظل تنتج جيوشا من الرعايا تساهم في تعميق العجز الديموقراطي والسياسي بالبلاد. إن مستقبل الجامعة والتعليم المدرسي رهين بمدى منسوب الديموقراطية ودولة الحق والقانون، لأن الإصلاح القطاعي التقنوقراطي الذي لم ينفصل عن بعده البيروقراطي وتوجهاته المحافظة والتقليدانية، لا يمكن أن ينتج سوى الهجانة على كافة المستويات، وهذا ما يوضح بعمق ارتباط مشروع المدرسة بالمشروع السياسي بشكل جدلي. ثم ما دور الجامعة في إنتاج النخب إذا كان النسق السياسي والاجتماعي والاقتصادي ينحت أعرافاً لولوجه وقيماً للنجاح الاجتماعي مختلفة ومعارضة لقوانين الترقي الاجتماعي والرأسمال الرمزي التي تعلمها المدرسة وتكرسها الجامعة؟. إن تطور وازدهار دولة الحق والقانون لا ينفصل في العمق عن ازدهار الصناعات والخدمات والاقتصاد المعرفي المرتبط بمجتمع المعرفة الذي تلعب فيه الجامعة دوراً محورياً لا مندوحة عنه للنهوض الاقتصادي والثقافي والمجتمعي بشكل عام، وهو ما يتضح في فشل مشروع تكوين 100 ألف إطار، على أساس 25 ألف إطار كل سنة، والذي توقف عند فوج وحيد دون أن ينتهي المشروع ولا هذا الفوج إلى أية مخرجات، لا على مستوى التكوين، ولا على مستوى الولوج إلى سوق الشغل. يقودنا الحديث عن البحث العلمي حتماً إلى استحضار واقع التعليم في أي بلد من البلدان، إذ بالضرورة الحتمية أن ترتيب أي بلد في ذيل قوائم مرتبة التعليم بالعالم يعادل موضوعياً وبشكل مباشر غياب البحث العلمي، لأن البحث العلمي كبنية أساسية في مجتمعات المعرفة يتأسس حتماً على نجاح التعليم المدرسي والجامعي. ولذلك لا يمكن الحديث عن بحث علمي في ظل فشل منظومة التربية والتكوين في المغرب، مثلما هو حال عدد كبير من المجتمعات المتخلفة، بمعنى أن الحديث عن بحث علمي سواء كان مستقلا بذاته، يعني كبنية مؤسساتية ضمن مؤسسات التعليم العالي أو تابعاً للجامعات والمعاهد الحكومية هو ضرب من المستحيل. وهنا يجب التمييز بين البحث العلمي كرؤية استراتيجية تربط المجتمع دولة ومؤسسات بالمستقبل من خلال ربط الموارد البشرية من جهة، والموارد الطبيعية من جهة ثانية، بمفهوم الإنتاجية، يعني أن الإنتاج سواء كان في مجالات التصنيع أو الخدمات أو التجارة يجب أن يكون هو أفق البحث في الجامعات والمعاهد، وبين البحوث الأكاديمية والجامعية التي تدخل في سياق إعادة الإنتاج، واستدامة التبعية الاقتصادية، بشكل يجعل كل هذه البحوث والأطاريح الجامعية هي مجرد بحوث تلعب دور الوساطة المعرفية للاطلاع على مجالات البحث العلمي بالغرب، وهنا يغيب مفهوم الابتكار والابداع، مما يعمق مستويات التبعية للغرب، حيث البحث العلمي أحد أهم استراتيجيات الهيمنة والتقدم، بله، هو المدخل الرئيس لقيادة العالم. إن الحديث عن بنية مستقلة للبحث العلمي، يعني ضمن ما يعنيه أن الدولة بكل مؤسساتها تراهن عن قاطرة التعليم والتصنيع والتكنولوجيا لفك الارتباط التبعي الاقتصادي بالدرجة الأولى والسياسي بالدرجة الثانية، وعلى المستوى الاقتصادي، يكون الرهان على مفهوم التنافسية التي لا يمكن الحديث عنها إلا في سياق تحرير المعلومة وتكلفة الانتاج والتسويق، وهي مفاهيم لا تنفصل عن البحث العلمي كبنية تأسيسية لاقتصاد السوق، وهي البنية التي لا يمكن فصلها عن الليبرالية، دون السقوط في الليبرالية المتوحشة وتحويل البلاد إلى مجرد يد عاملة وسوق استهلاكية ضمن منطق المناولة، بمعنى آخر، لا يمكن الحديث عن البحث العلمي إلا في السياق الليبرالي الذي يعتمد بدوره على العقل والعقلانية والحرية والديموقراطية، فهل هذه الأسس متوفرة مغربيا كي نتحدث عن بحث علمي كبنية مستقلة؟ ضمن هذا الأفق، يمكن قراءة برنامج العدالة والتنمية الانتخابي وبرامج الحكومات السابقة لمعرفة واقع البحث العلمي، ومعرفة مستقبل بلدنا، وما دامت المعرفة هي العدو الأول للحكومات التقليدانية، فإن خطابها يتأسس حتماً على الجهل والخرافة، مما يعيق البحث العلمي، المرتبط بالسياق الليبرالي والديموقراطي. أكيد أن هناك بعض النتائج التي يمكن تسجيلها على مستوى بنيات بعض الجامعات والمعاهد من بحوث ودراسات رائدة، لكنها قليلة ومرتبطة بأسماء بعض الباحثين والعلماء دون غيرهم وبمجهودهم الفردي، إذ ليس هناك مؤسساتية علمية وبحثية، حتى وإن وجدت مؤسسات للبحث العلمي، إذ يؤكد الواقع السوسيولوجي ارتباط مجهود هؤلاء المغاربة في سياق أشغالهم بالمؤسسات الأجنبية. من المعلوم أن البحث العلمي مرتبط فكرياً بمجتمعات المعرفة، ومؤسساتياً بالمراكز والمعاهد والجامعات، وسياسياً برؤية استراتيجية مستقبلية لقضايا التنمية والتقدم، وبالعودة إلى الواقع المغربي، نجد أن مؤشرات هذه المحددات تكاد تكون محتشمة، أو لنقل تقليدية تخضع لوتيرة تاريخية جد بطيئة على مستوى السرعة والفعل، فحزب العدالة والتنمية، الذي لطالما تغنى بوعود وشعارات الإصلاح لم يستطع الانفصال عن جبة الفقيه، وعن ثقافة الأذن بالتعريف الأنثربولوجي للعبارة، وبالتالي فإن مسألة التغيير والقدرة على التنبؤ والاستشراف تكاد تكون غائبة عن مشهدنا السياسي والتخطيطي لمستقبل المغرب. وهو ما يتجلى بقوة في المجال الاقتصادي والاجتماعي. أما على مستوى البنيات الحاضنة للبحث العلمي، فيمكن القول أن غياب المراكز المتخصصة والمعاهد الكبرى خير مؤشر على ارتباط البحث العلمي فقط بالجامعات التي لم تستطع بدورها في ظل غياب ميزانية تشجع على البحث والابتكار والتجديد إلا أن تبقى رهينة وظيفتها التقليدية باعتبارها امتدادا تلقينياً للتعليم المدرسي، وهذا ما يشهد عليه ترتيب جامعتنا على المستوى العالمي.