تعتبر مسألة اللغات في علاقتها بالمنظومة التربوية من القضايا التي تتميز بقدر كبير من الحساسية والصعوبة على المستوى الاجتماعي والسياسي؛ لذلك فالنقاش حول هذا الموضوع غالبا ما يكشف عن تقاطب إيديولوجي حاد بين تيارات محافظة تعلي الخطاب الهوياتي، وتنادي بالتصدي لاستهداف اللغة العربية باعتبارها مكونا أساسيا من مكونات الهوية الوطنية إلى جانب اللغة الأمازيغية، وأخرى تدعو إلى الانفتاح على لغات التواصل الأكثر تداولا في العالم أي اللغات الأجنبية وتشجيع تدريسها والتدريس بها. لقد ظلت الإشكالية اللغوية مطروحة بحدة منذ عقود بالمغرب، ويبرر إعادة طرحها باستمرار معطيين على الأقل: الأول مرتبط بضعف مستوى خريجي المدرسة العمومية وضعف قدراتهم اللغوية في القراءة والكتابة والتواصل الشفهي. أما الثاني فيتعلق بعدم الانسجام بين لغة التدريس بشعب التعليم الثانوي التأهيلي (اللغة العربية)، ولغة التدريس في بعض تخصصات التعليم العالي العلمية والتقنية. هذا الفصل وعدم الانسجام ألقى بثقله من جهة على المستقبل الجامعي والمهني لملايين الشباب عبر حرمانهم من اكتساب قدرات تواصلية أساسية، ومن جهة أخرى على التوازن الاجتماعي والاقتصادي بالمغرب؛ وهو ما تأكد بالفعل من خلال الفوارق الاجتماعية التي ظلت تنتجها هذه السياسة اللغوية غير العادلة وغير المنصفة منذ الاستقلال، وانعكاسات ذلك الواضحة على التنمية. لمعالجة هذا الوضع، نص الميثاق الوطني للتربية والتكوين (المادة 114) على تدريس الوحدات والمجزوءات العلمية والتقنية الأكثر تخصصا من سلك البكالوريا باللغة المستعملة في الشعب والتخصصات المتاحة لتوجيه التلاميذ إليها في التعليم العالي؛ كما دعا ضمن منطوق المادة نفسها إلى العمل تدريجيا على فتح شعب اختيارية للتعليم العلمي والتقني على مستوى الجامعات باللغة العربية. وبعد مرور عقدين تقريبا من صدور هذه التوصيات دون تنزيلها، جاء مشروع قانون- إطار رقم 17-51 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي ليحاول الحسم في هذا التخبط اللغوي وإعادة بناء هندسة لغوية جديدة، إذ نص في مادتيه 31 و32 على المبادئ التي ترتكز عليها هذه الهندسة وتدابير تنفيذها. ومن بين هذه المبادئ نص المشروع على ''إعمال مبدأ التناوب اللغوي من خلال تدريس بعض المواد، ولاسيما العلمية والتقنية منها أو بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد، بلغة أو لغات أجنبية''، دون أن يحدد أو يشير إلى لغة بعينها. كما أن هذا ينسجم تماما مع ما جاء في الميثاق منذ عقدين من الزمن. أثارت هذه المقتضيات المتعلقة بلغات التدريس جدلا واسعا بين الحساسيات السياسية والاجتماعية (أحزاب الأغلبية والمعارضة، نقابات، تشكيلات مدنية، فاعلون ثقافيون وتربويون...)، طغت عليه مرة أخرى الاصطفافات الإيديولوجية والتقاطبات السياسية أكثر من التزامه بقواعد النقاش العلمي وهاجس مصلحة الأجيال اللاحقة، بعد أن جعل التخبط اللغوي الأجيال السابقة والحالية تخلف موعدها مع التاريخ والتطورات العلمية والتكنولوجية والمعرفية المتسارعة عبر العالم. يبدو أن سؤال العدالة اللغوية (Justice linguistique) أصبح مطروحا بحدة بعد عقود من اعتماد مسلسل التعريب كمشروع إيديولوجي بالدرجة الأولى، أسس له جيل الحركة الوطنية بعد الاستقلال. هذا السؤال يرتبط عضويا بمسألة العدالة المعرفية، أي الإنصاف وتكافؤ الفرص في الولوج إلى المعارف العلمية الحديثة. في هذا السياق نطرح بعض مستويات الخلط والالتباس التي تعتري هذا الجدل والأسئلة المرتبطة بها: أولا: إن النقاش حول اللغة لا يجب أن يسقط في الخلط بين اللغات المدرسة كمواد قائمة الذات في البرامج والمقررات الدراسية من جهة، وبين لغات تدريس بعض المواد غير اللغوية. كما أن مصطلحات من قبيل ''التعريب'' Arabisation أو ''الفرنسة'' Francisation لم ترد كتوصيات، لا في الميثاق الوطني للتربية كوثيقة مرجعية للسياسات التربوية حظيت بنوع من التوافق المجتمعي، ولا في الرؤية الإستراتيجية التي أعدها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي (2015-2030)، بل كان هناك حديث عن إرساء تعددية لغوية بالإدماج المبكر للغات الأجنبية (فرنسية وإنجليزية) إلى جانب اللغتين الوطنيتين. ثانيا: لا بد من التمييز في نظرنا بخصوص النقاش اللغوي بين مستويين: المستوى الهوياتي، حيث يصبح التعلق باللغة العربية أو اللغة الأمازيغية مسألة مشروعة ومصيرية مرتبطة بالوجود، وتتعدى منطق السوق اللغوية ((Marché linguistique؛ ثم المستوى المعرفي المرتبط بالمعارف والعلوم والثقافة الكونية. لتوضيح هذه الالتباسات نطرح التساؤلات التالية: - لماذا ظلت القدرات اللغوية للتلاميذ المغاربة حسب التقييمات الوطنية والدولية ضعيفة ومحدودة، سواء في اللغة الفرنسية التي تدرس منذ عقود ابتداء من السنة الثالثة من السلك الابتدائي (أي ما يعادل 10 سنوات إلى غاية الحصول على البكالوريا)، قبل أن ينتقل تدريسها إلى السنة الثانية ثم الأولى حاليا؛ أو كذلك في اللغة العربية التي مازال بعض حاملي الدكتوراه العربية يرتكبون مجازر لغوية بشأنها؟!. يكفي أن نشير إلى الدراسة الدولية لقياس مدى تقدم القرائية في العالم PIRLS برسم سنة 2016، والتي وقفت على استمرارية تأخرنا في الترتيب الدولي (358 نقطة). ألا يتعلق الأمر بمشكلات التدبير البيداغوجي لتعليم وتعلم هذه اللغات والوسائل الديداكتيكية المرصودة لذلك، بالإضافة إلى جودة تكوين الأساتذة؟..هل قمنا مثلا بدراسات علمية لمعرفة المستوى اللغوي للأساتذة الذين يدرسون اللغات في جميع أسلاك التعليم، خاصة أن جزءا كبيرا من أعضاء هيئة التدريس حاصلون فقط على شهادة البكالوريا؟. - مازال العديد من خريجي المدرسة العمومية يعانون من عجز كبير عن التعبير والكتابة السليمين باللغة العربية الفصحى..ماذا إذن عن تنمية اللغات الوطنية التي تحدث عنها الفصل 5 من الدستور المغربي، والذي نص على إحداث مجلس وطني للغات والثقافة المغربية، مازال مشروع قانونه التنظيمي حبيس البرلمان؟..هذا المشروع يسند إلى المجلس مهمة اقتراح التوجهات الإستراتيجية للدولة في مجال السياسات اللغوية والثقافية وإحالتها على الحكومة، كما أنه يتحدث عن اختصاصات مهمة لأكاديمية محمد السادس للغة العربية، كتطوير النظام النحوي والمعجمي والتوليدي للغة العربية، والقيام بالبحوث الرامية إلى إصلاح مناهج تدريسها، ووضع معاجم عصرية رهن إشارة المتخصصين في المجالات العلمية، ودعم ترجمة المؤلفات الأجنبية المرجعية. إن الحديث عن اللغة كأداة للولوج إلى مجتمع المعرفة يطرح مستويين من التحليل: - مستوى اللغة كأداة للتلقي وبناء المعرفة، حيث نصبح مكرهين وفق منطق ميزان القوة والغلبة على مسايرة التطورات العلمية والتكنولوجية بلغة الآخر. كما أن الواقع السوسيولوجي يبين أن الفرنسية مازالت تمكن من يتقنونها في المغرب من ولوج المدارس العلمية والتقنية في فرنسا، ثم الانخراط في أسلاك التكنوقراطيات التي تسير الاقتصاد والإدارة في القطاعين الخاص والعام، أي إن دورها مازال جوهريا في إنتاج النخبة الصانعة للقرار. من جهة أخرى فإن سوق الإنجليزية أصبح يتقدم بشكل كبير على حساب سوق الفرنسية في مجال الإنتاج العلمي والتكنولوجي. -مستوى الإنتاج العلمي والتكنولوجي، فالواقع اليوم هو أن اللغة العربية لا توفر رصيدا علميا وتكنولوجيا وفنيا يضاهي رصيد اللغتين الفرنسية والإنجليزية، سواء في العلوم الحقة أو في العلوم الاجتماعية والإنسانية. لذلك فالمفارقة الكبيرة التي تطرح في سياق هذه التنافسية اللغوية على مستوى المعرفة (وليس الهوية) هو الاقتران بين التشبث المشروع والمفهوم باللغة العربية من جهة، وضعف الإنتاج في هذه اللغة من جهة أخرى. يربط الأنثروبولوجي عبد الله حمودي هذا التفاوت بارتباط تعليم اللغة العربية بأمور العقيدة والشرع إلى درجة الخلط بينهما، فغلبت عليه مناهج النقل والحفظ بالمقارنة مع المنطق ومناهج التحليل العقلي؛ لذلك نجد انفصاما بين نخبة ضخمة من المتكونين باللغة العربية وفق المناهج السالفة، مقابل شرائح أقل عددا بكثير لكنها تتوفر على قدرات علمية وتقنية عالية بفعل تمكنها من اللغات الغربية. إن هذا الواقع لا يعود إلى اللغة العربية في حد ذاتها، بل إلى السياسات اللغوية المعتمدة، وإلى الإخفاقات البيداغوجية والمنهجية للمدرسة. إن مدرسة القرن الواحد والعشرين في كل مستوياتها لا يجب أن تنكب فقط على المعرفة، بل كذلك على ''معرفة المعرفة''، وما تنطوي عليه من خطأ ووهم، باعتبارها مخاطر تواجه العقل الإنساني؛ كما ينبغي أن تعلم الفكر المركب ووضع المعارف في سياق كلي، وترسخ الوعي بالهوية الإنسانية المشتركة ووحدة القدر الإنساني.. كما أنها مطالبة بالتربية على مواجهة اللايقين ((Incertitude كأحد السمات المميزة لمعرفة وعالم اليوم، وعلى الفهم المتبادل بين الأفراد والمجتمعات الإنسانية، بالإضافة إلى الوعي باستقلالية الفرد(Edgar Morin, 1999). *باحث في علم الاجتماع السياسي جامعة ابن زهر-المغرب [email protected]