من المثير للإعجاب هذه السماحة الملكية المنقطعة النظير التي يقارب بها جلالة الملك محمد السادس ملف العلاقات الثنائية مع الجزائر. على الرغم من الوضع المتردي الذي وصلته العلاقات بين البلدين بسبب تعنت النظام الجزائري إلا أن العاهل الملكي لا يترك مناسبة من المناسبات إلا وعاد من جديد إلى مد جسور التواصل والترابط مع الجزائر شعبا وحكومة سعيا وراء تطبيع كلي للعلاقات بين بلدين تجمعهما أواصر المسار والمصير المشترك وجذور التاريخ والجغرافيا، وروابط الإنسانية التي مزجت في لحظة من لحظات التاريخ دماء الشعبين معا في معركة التحرير الوطني. ما يعبر عنه جلالة الملك محمد السادس تجاه ملف العلاقات المغربية الجزائرية رؤية راسخة لا تكاد تتزحزح عن ثوابتها مهما جرت من مياه تحت الجسور. وما يدعو أكثر إلى الانبهار في هذه المقاربة الملكية الحكيمة هذا الإصرار على الفصل المجهري الدقيق بين التشبث بحقوق المغرب الوطنية ووحدته الترابية والدفاع عنها في مواجهة المواقف العدائية للقيادة الجزائرية، وبين ضرورة عودة العلاقات الثنائية إلى مسارها الطبيعي وفتح آفاق التعاون الاقتصادي والتفاعل الاجتماعي بين الشعبين وإسداء النصح الدائم للقيادة الجزائرية من استثمار اللحظة التاريخية التي يمر بها البلدان ويعيشها العالم حيث تبحث كل بلدان العالم عن تكتلات إقليمية تحتمي بها في ظل المخاض الذي نعيشه قبل تبلور الشكل النهائي للنظام العالمي الجديد. وواهم من يعتقد أن الدعوة الملكية المتجددة لإذابة الجليد وتذليل العراقيل أمام العلاقات بين البلدين مجرد مبادرة تكتيكية أو بحث عن مكاسب ظرفية. هذه قراءة يحفظها أعداء التطبيع بين البلدين والواقفون على تدمير أي أفق مغربي جزائري مشترك وواعد. فالمغرب استغنى عن كل هذه المصالح واقعيا منذ أن توترت العلاقات بشكل رسمي في منتصف التسعينيات وانغلقت الحدود البرية. كما أن توقيف العمل بأنبوب غاز المغرب العربي لم يكن له أي أثر يذكر علي الاقتصاد الوطني بعد أن تم إيجاد بدائل التوريد بسرعة كبيرة وبالقدر الكافي. الدعوة الملكية إلى إعادة الاعتبار للعلاقات بين البلدين ووقف بعض الممارسات الكيدية المسيئة للشعبين ثابت من ثوابت الرؤية الملكية. وكلنا نذكر أن هذه الدعوة نفسها اطلقها الملك محمد السادس في 30 يوليوز 2019 في خطابه بمناسبة الذكرى العشرين لعيد العرش. وقال الملك محمد السادس حينها إننا نؤكد "التزامنا الصادق، بنهج اليد الممدودة، تجاه أشقائنا في الجزائر، وفاء منا لروابط الأخوة والدين واللغة وحسن الجوار، التي تجمع، على الدوام، شعبينا الشقيقين". هذا الإصرار الملكي على نهج اليد الممدودة نحو الجرائر رغم الجفاء والتعنت نابع أيضا من استشعار ملكي بالغ للمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق الدولة المغربية القائمة باعتبارها استمرارا لما تركه الآباء والأجداد من السلاطين العلويين الذين كانوا دائما يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن تأمين وتحصين المحيط المغاربي والغرب إفريقي بالنظر إلى العلاقات الروحية والسياسية التي كانت تربطهم بمختلف القبائل والشعوب التي عاشت على طول وعرض هذه الجغرافيا الممتدة. لا يمكن أن يتوقف الملك محمد السادس باعتباره وريثا لهذه التركة من المسؤولية التاريخية أن يردّ على التعنت بتعنت مقابل أو يقابل القطيعة بقطيعة مماثلة. ونحن في المغرب نشعر بقدر كبير من الفخر والاعتزاز عندما نسمع ملكنا يدعونا، على الرغم من كل يصدر من الطرف الآخر، أن "نواصل التحلي بقيم الأخوة والتضامن، وحسن الجوار، التي تربطنا بأشقائنا الجزائريين؛ الذين نؤكد لهم بأنهم سيجدون دائما، المغرب والمغاربة إلى جانبهم، في كل الظروف والأحوال". إن هذا الخطاب الذي يقابل القطيعة بالوصال والجفاء بالتقرّب لا يمكن أن يصدر إلا عن قائد دولة واثقة من قدراتها ومكانتها وبلغت من مستويات النضج التاريخي والثقافي ما يجعلها تتخذ المواقف والقرارات بناء على منطق العقلانية وثوابت المشترك التاريخي ومنطلقات المستقبل المشترك. لقد تشابكت فرنسا وألمانيا في حروب عديدة أودت بحياة الملايين وتخللتها عمليات واحتلال مهينة لكن البلدين انتهيا بفضل قيادتين حكيمتين إلى القناعة بأن المستقبل المشترك أكبر من كل الجروح والخلافات والمظالم. والحال أن مايجمع الشعبين المغربي والجزائري أعمق وأكثر رسوخا مما جمع الألمان والفرنسيين وأن كل الخلافات بين البلدين لا يمكن أن ترقى حتى إلى ما خلفته معركة واحد من معارك الحرب العالمية الأولى. لهذا فإن النهج الملكي بمد يد المصالحة إلى الرئاسة الجزائرية والحنو على الشعب الجزائري وتذكير المغاربة بعلاقات الأخوة والوئام لن يتوقف أبدا لا عن غضب ولا عن يأس، فمنذ أن تولى جلالة الملك محمد السادس مقاليد الحكم قبل 23 سنة لم يتوقف عن مد هذه اليد الكريمة، ولم ييأس من انفراج وشيك لا مناص منه في العلاقات بين البلدين، وهنا تبرز عبقرية هذا الملك وشجاعته في الإقدام على ما يتردد الكثير من القيادات في العالم على الجرأة عليه.