توقفنا في حلقة أمس عند معالم التقديم الذي خَصّ به الأديب والروائي عبد القادر الشاوي كتاب حديث الإصدار يحمل عنوان "الخطابة السياسية الشعبوية عند عبد الإله بنكيران" للباحث محمد الأمين مشبال. (جاء الكتاب في 274 صفحة، وصدر عن منشورات باب الحكمة، تطوان، ط 1، 2022)، موازاة مع الخطوط العريضة لأقسام وفصول الكتاب، ومعها الملاحق التي تضمنها. مما جاء في مضامين وخلاصات الكتاب، ونورد بعضاً منها، لأنها جاءت موزعة على فصوله، من قبيل ما جاء في الفصل الثاني وعنوانه "الهجوم على الخصم"، حيث أحصى المؤلف مجموعة ممارسات كانت تصدر عن عبد الإله بنكيران في حقبة توليه رئاسة الحكومة ورئاسة أمانة العامة للحزب، منها استراتيجية المسير الدرامي، مسير الجماعة، تبني عدة آليات في سياق الهجوم على الخصوم، كالتشبيه بالحيوانات، شراء الذمم، التشبيه بالكراكيز، السخرية، التشفي، التشهير، التقليل من الخصم، التنديد بالواقع، ليخلص إلى أن بنكيران/ الخطيب شكلَ صورته وصورة جماعته في سياق حواري مع خطاب الآخر المناوئ أو المضمر؛ إذ كان مطالباً بتقديم صورة أخلاقية عن الجماعة كفيلة بخلق تصديق الجمهور وتعزيز اعتقاده في مشروعها السياسي؛ كأنها صورة تمتثل للمبادئ الأخلاقية والدينية الاجتماعية والوطنية المشتركة، حيث حرص على إظهار البعد الوطني في شخصيته وشخصية جماعته. وهنا، يضيف محمد الأمين مشبال، تتجلى الحوارية في تشكيل هذه السمة، التي أراد بها الرد على من يتهم الأحزاب الإسلامية بولائها للدين على حساب الوطن، حيث عمد الخطيب إلى نفي هذه التهمة المضمرة بحجة التطابق بين الوطن وجسد أعضاء الحزب وأنصاره. وفي سياق هذه الحوارية أيضاً يومئ إلى أن أعضاء حزب العدالة والتنمية الذين يسعون إلى الحكم لا يشبهون خصومهم؛ فهم لا ينتمون إلى الفئات الاجتماعية الغنية البعيدة عن إدراك الهموم والمشکلات التي تعانيها معظم الفئات الاجتماعية المكونة لهذا الشعب؛ فهم بخلاف هؤلاء جزء من الشعب؛ ويحبون شعبهم وبلدهم بالفطرة كذلك. وبالطبع، مرت بضع سنوات حتى يتأكد الرأي العام من حقيقة هذه المزاعم على أرض الواقع، وكانت نتائج ذلك أحد أسباب الهزيمة الانتخابية للحزب "الإسلامي" المعني. يقدم بنكيران صورة أخلاقية عن الحزب في ممارسته السياسية؛ صورة تنم عن تملك الإرادة السياسية وعدم الرضوخ للابتزاز السياسي، وأنهم مستعدون للتضحية بأرواحهم من أجل الإصلاح السياسي ومن أجل الدين الإسلامي. وبما أن صورته لا تكتمل إلا عبر صراعها ودحضها لأطروحات الخصم، أو تشنيع أفعاله، فقد عمد بنكيران إلى ممارسة العنف اللفظي ضده وتقديمه في صورة شخص متآمر، لاأخلاقي، يمارس الكذب، ويشتري الذمم. لذا لا يتردد في أن يخلع عليه صفات الحيوانات (حنش، تماسيح)، والسخرية منه، باعتباره أسلوباً محبباً لدى الجمهور ويخلق تواطئ معه، ضمن صفات أخرى. (ص 147) مما خلُص إليه المؤلف أيضاً أن التعاطي والتفاعل المحتشم والمحدود لحزب العدالة والتنمية مع قضايا الديمقراطية يؤدي إلى الاقتصار على قبول بعض الآليات الديمقراطية بصلة مفادها أن النجاحات الكبيرة للحزب المتمثلة في كسب مواقع متقدمة في الخريطة السياسية المغربية والتي بلغت أوجها مع قيادته الحكومة لولايتين متتاليتين لم تجد صدى لها في الأطروحات المؤسسة للحزب وبنيته الفكرية بصفة عامة، معتبراً أن المراجعات التي شملت أساساً شروط الممارسة السياسية لا تعدو أن تكون تكتيكاً سياسياً، أو بما يمكن تسميته "فقه الضرورة"، يسعى لتهدئة مخاوف وهواجس التيارات الليبرالية والعلمانية التي تتهم بنكيران والحزب بمحاولة "أخونة" و"أسلمة" المجتمع. بخصوص تراجع الشعارات البارزة لحركات الإسلام السياسي من الخطاب السياسي للحزب من قبيل "الإسلام هو الحل" أو "الخلافة الإسلامية" وتلقيحها بمصطلحات مأخوذة من معجم الفكر السياسي الحديث من قبيل الديمقراطية والمجتمع المدني، فقد كان اختياراً موقتاً من وجهة نظر المؤلف، وكان محكوماً بموازين القوى السياسية، وبانتظار توفر الشروط الموضوعية والذاتية لبعثها من بطون كتب الفقه وبلورتها في قوانين وإجراءات عملية تتنكر لكل ما سبق، (ص 161) وهذه إشارة تتطلب الكثير من الكد البحثي، خاصة أنه سواء تعلق الأمر بالمرجعيات الإسلامية الحركية أو المرجعيات الحداثية والعلمانية، نعاين أنه في سياق التعامل مع ثلاثية السلطة النظام الدولة في المغرب، ثمة تغييب لعدة مميزات مغربية خاصة، لا نجد لها مثيلاً في باقي دول المنطقة، وهذه قضايا لم نجد لها حضوراً في الكتاب. صحيح أن العمل لم يكن مخصصاً لواقع الثلاثية في المغرب، ولكن الخوض في واقع الخطاب السياسي لأحد رموز الإسلاموية، كان يقتضي الإحالة على تلك الخصوصية، ولو في بضع إشارات. ويضيف المؤلف عطفاً على الخلاصة أعلاه، أنه في أفضل السيناريوهات المتخيلة، سيسعى الحزب، كما هو الشأن للعديد من حركات الإسلام السياسي في العالم العربي، إلى التأقلم مع صيرورة الاندماج التدريجي في مؤسسات الدولة مع ما يُصاحب ذلك من بروز فئات مستفيدة تتفادى منطق الصدام والمواجهة المباشرة. إضافة إلى ذلك فإن انعكاسات التحولات السياسية والسوسيولوجية والثقافية التي تفرزها العولمة وما ترسخه من نموذج رأسمالي سيقود الحرب لا محالة إلى بلورة خطاب سياسي يُشرعن الواقع الجديد وينتصر لقيم الليبرالية المتوحشة اقتصادياً، والدفاع عن إسلام محافظ ثقافياً يستجيب للقلق العميق الناجم عن انفجار الهويات والأزمات الاقتصادية التي تعصف بالعالم المرشحة للتفاقم خاصة ما بعد تفشي جائحة كورونا. من الخلاصات أيضاً، أن بنكيران كان يُجسّد الصورة النموذجية للزعيم الشعبوي المحرك للجماهير والمُلِم بالأوتار الحساسة التي يتعين عليه العزف عليها، مستغلاً في ذلك كونه يمتلك فصاحة خاصة تستخدم طريقة للتأكيدات القاطعة والواثقة من نفسها، كما تستخدم الصور الانطباعية المؤثرة والمحاطة بمحاكمات عقلية مبتسرة ومختزلة؛ لكن ما يمنح شعبوية بنكيران، ومن خلاله تيار الإسلام السياسي المغربي، سمتها الخاصة كونها جاءت تعبيراً عن أزمة الانتقال نحو الحداثة في المجتمع المغربي الذي تتعايش فيه في نفس الآن بنيات اجتماعية واقتصادية وثقافية متباينة ومتداخلة، والتي اصطلح عليها السوسيولوجي الراحل بول باسكون ب"المجتمع المركب". نقول هذا، في سياق تزكية بعض مضامين هذه الخلاصة، أخذاً بعين الاعتبار أن دخول الاستعمار إلى بلدان العالم العربي، ومن ضمنها المغرب، أدى إلى تفكيك سريع وعنيف للبنيات التقليدية القائمة على التضامن والوحدة العشائرية والقبلية، وعوَّضها بأشكال اجتماعية جديدة من قبيل الأسرة النووية والبروليتاريا الصناعية، وأخرى سياسية مثل الأحزاب والنقابات. ورغم حصولها على الاستقلال، لم يكن لديها بد من الاستمرار في "صيرورة التحول القسري نحو الحداثة" على حد تعبير الباحث الفرنسي رومي لوفو، الذي يشير إلى كون عملية الانتقال في المجتمعات الغربية من الأرياف نحو المدن استغرقت قروناً طويلة، الأمر الذي مَكن من استيعاب ودمج المزارعين في نسيج المجتمع الصناعي الصاعد آنذاك. يستشهد محمد الأمين مشبال هنا برأي شهير للراحل ريمي لوفو، مفاده أن "الظاهرة الإسلاموية في العالم العربي تمثل الوجه الآخر للشعبوية، باعتبار مشاعر الإحباط الناجمة عن عولمة الاقتصاد وإكراهات سياسات إعادة الهيكلة المفروضة من لدى المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي وغيره" (ص 153)، وواضح هنا أن الأمر يتعلق بأحد المحددات التي تفسر ظهور الحركات الإسلامية، لأنه لا يمكن اختزال تلك المحددات في سبب واحد وحسب، ومن هنا دلالة وجود عدة قراءات للظاهرة، أياً كانت الأرضية النظرية لهذه القراءات، من قبيل العلوم السياسية، علم الاجتماع، علم النفس، علوم الدين، الفلسفة.. إلخ. ضمن هذا السياق السوسيو تاريخي الذي أحال عليه المؤلف [والذي يقف وراء الاستشهاد بأحد أهم أعمال ريمي لوفو] اتخذ الخطاب الشعبوي لعبد الإله بنكيران ميزته الخاصة التي يستمدها ويستوحيها من الثقافة أو المرجعية الدينية التي يستشهد انطلاقا ما آيات قرآنية وأحاديث شريفة وأقوال مأثورة لفقهاء مسلمين. وهو اختيار يتجاوز كون الإسلام في المجتمع المغربي يشكل دين الأغلبية الساحقة، ويحتل مكانة سامية في نفوسهم، إلى كونه أحد نقاط قوة الخطاب الشعبوي، بصفة عامة، المتجلي في تمثله لقيم غالبية المجتمع، والدفاع عن الهويات المحلية في مواجهة محاولات طمسها وتذويبها وتنميطها من طرف أمواج العولمة العاتية التي تريد فرض نموذجها الوحيد والموحد في اللباس والمأكل ومختلف التعبيرات الثقافية بصفة عامة. لذا، في ظل هذا السياق العالمي، يُصبح الدين بصفة خاصة، والثقافة والقيم التقليدية بصفة عامة، الملجأ الرئيس المتبقي للفرد، وعملية دفاعية مهمة في ظل واقع سوسيو اقتصادي لا يولد سوى الإحباطات لدى غالبية المجتمع. لقد انتعشت الشعبوية الإسلاموية لبنكيران وتغذت من الشعور العام بالإحباط لدى فئات واسعة من المجتمع المغربي، في ظل طغيان الحروب الداخلية على مكونات اليسار المغربي، علاوة على أزمته الفكرية التي جعلته حبيس مفهوم الصراع الطبقي، في حين أن إمكانية "تجذير الديمقراطية" باعتماد أجندة النضالات الخاصة بالأقليات بجميع أنواعها (الدينية واللغوية .. الخ)، والإيكولوجية وغيرها من النضالات ذات الطابع الفئوي التي من شأنها رسم أفق نضال جديد يعتمد شعبوية لا تفاضل بشكل آلي بين اليسار واليمين، بل تذهب أبعد من ذلك، عبر تجذير وتعميق مفهوم الديمقراطية، كأفق لا محيد ولا بديل عنه، وأضاف المؤلف أنه من المحددات التي ساهمت في خدمة الشعبوية عند المسؤول المعني، استفادتها من الانتشار الجماهيري لوسائط الاتصال الحديثة مما يقودنا للتساؤل عن مدى وحجم تأثيرها على تدني مستوى الخطاب السياسي المغربي من جهة، وعلى مدى نجاح رهان الخطاب البنكيراني في الوصول إلى فئات واسعة من الجمهور المغربي من جهة ثانية. أسئلة وجيهة تقتضي وقفات بحثية، وإجمالاً، يبقى العمل إضافة نوعية في سياق الاشتغال على موضوع الإسلاموية المغربية، وإن ارتأى المؤلف الاشتغال البحثي بالتحديد على ظاهرة الشعبوية عند أحد رموز المشروع، لكنه توفق في الإحالة على مجموعة أسباب أفضت إلى بروز الظاهرة. بخصوص الملاحظات النقدية حول الكتاب، سواء تلك التي جاءت في المناقشة، والتي تفاعل معها المؤلف بالرد والنقاش في مضامين الكتاب، أو المفترض أن تنشر هنا وهناك بعد صدور الكتاب، خاصة أنه حديث الإصدار، فهذا أمر متوقع، لأنه لا يسلم أي عمل بحثي من النقد، ما دام الأمر يتعلق باجتهادات بشرية إنسانية، أولاً وأخيراً، وبالتالي اجتهادات نسبية لها ما لها وعليها ما عليها.