كانت أحداث "الفوضى الخلاقة" [2011-2013] في المنطقة العربية، منعطفاً للكشف عن العديد من الظواهر في الساحة، والتي كانت قائمة قبل هذا التاريخ، وتشتغل في صمت أو بعيداً عن الأضواء، دون إثارة انتباه الباحثين والمتتبعين وصناع القرار، في سياق القيام بأدوار وظيفية معينة، إلى أن جاءت تلك الأحداث ليتم الكشف عن طبيعة تلك الأدوار، ومنها ظاهرة "يسار الإخوان"، وهي ظاهرة منبثقة عما كان يُصطلح عليه قبل 2011 بالحوار القومي الإسلامي، أو الحوار اليساري الإسلاموي. انتهت ظاهرة الحوار اليساري الإسلاموي إلى زوال، لأنها لم تكن قائمة على أسس إصلاحية صلبة، بقدر ما كانت قائمة على تقية يمارسها الإخوان، مقابل مهادنة يقوم بها اليسار، ورغم أفول الظاهرة، ارتأت نسبة من اليساريين، الإبقاء على العلاقة مع الإسلاميين، ووصل الأمر هنا إلى درجة الدفاع عن المشروع الإخواني، باعتبارها ظاهرة مجتمعية إصلاحية، وقد اصطلح على هذه الفئة من بقايا اليسار، ب"يسار الإخوان"، أو اليسار الإسلامي في نسخته الإيديولوجية التي لا تجمعها أي علاقة مع أطروحة "اليسار الإسلامي" التي اشتغلت عليها بعض الأقلام الفكرية في الساحة العربية، ويتقدمها المفكر المصري حسن حنفي. نعاين الظاهرة نفسها في الساحة الفرنسية، عبر وجود تحالف بين التيار الإخواني والتيار اليساري، ويُصطلح عليه هنا بتيار "اليسار الإسلامي" [Islamogauchisme] في نسخته الفرنسية، كأننا إزاء تحالف هجين من منظور المرجعية، أو "تحالف غير مقدس" بتعبير توماسو فيرجيلي، وهو باحث زائر في مركز ويلفريد مارتنز للدراسات الأوربية، كما جاء في مقالة له بعنوان: "تحالفٌ غيرُ مقدس: اليسار الليبرالي والإسلام السياسي"، ومؤرخة في 26 يناير 2020، وصدرت في موقع "عين أوربية على التطرف". نحن إزاء تيار قائم عملياً في الساحة البحثية والإعلامية، وحتى في الساحة الجامعية، وقد أشار الخبير برنارد غودار، الذي شغل منصباً كبيراً في وزارة الداخلية الفرنسية، وكان مكلفاً بمتابعة المسألة الإسلامية، بين 1997 و2014، في مقدمة كتابه المرجعي حول المسألة الإسلامية في فرنسا [2015]، إلى أن تحولات خطاب الإسلاموية الإخوانية في فرنسا، "أفضت خلال السنوات الأخيرة، إلى ظهور نضال إيديولوجي، جاء مسجداً في "حركة السكان الأصليين للجمهورية" من جهة، وفي ظاهرة اليسار الإسلامي من جهة ثانية، بسبب التقارب مع اليسار المتطرف في فرنسا". بدأت أولى بوادر هذه الظاهرة في الحقبة التي كانت فيها وسائل الإعلام الفرنسية تروج لإسم الداعية والباحث طارق رمضان، وتقربه من مجموعة من الأسماء اليسارية، من قبيل آلان سورال، وإدغار موران حتى إنهما اشتركا في تأليف كتاب، إضافة إلى أسماء أخرى، يتقدمها في المجال الإعلامي، إدوي بلنيل، ولو إن مصير هذه العلاقات تطور لاحقاً إما مزيد من توطيد العلاقة، كما هو الحال مع إدوي بلنيل، أو إلى النقيض، كما هو الحال مع آلان سورال، الذي سيأخذ مواقف نقدية من طارق رمضان. ضمن رموز "اليسار الإسلاموي" في فرنسا، نجد على الخصوص الثلاثي ألان غريش وإدوي بلنيل وفرانسوا بورغا: أ ألان غريش، وهو باحث ازداد في مصر، ومحسوب على المرجعية الإلحادية كما يؤكد على ذلك في أعماله، متخصص في متخصص في شؤون الشرق الأوسط، له مؤلفات عديدة منها "أغنية حب، فلسطين وإسرائيل، قصة من تاريخ فرنسا" بالاشتراك مع هيلين آلدغير (2017)، وكتاب مشترك آخر مع طارق رمضان، بعنوان أسئلة حول الإسلام [2002]، وصدر سنة بعد اعتداءات نيويورك وواشنطن. ينشر غريش على الخصوص في شهرية "لوموند دبلوماتيك"، المحسوبة على المرجعية اليسارية، وكان أحد أهم أصوات "اليسار الإسلاموي" في نسخته الفرنسية، ممن اعترضوا على مضامين خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المؤرخ في 2 أكتوبر 2020، والذي تحدث فيه حينها عن معضلة "الانفصالية الإسلاموية"، حيث نشر مقالة حينها بعنوان "فرنسا. تحريف العلمانية لاستهداف الإسلام" [2020]، ومن أعماله كتاب "الإسلام، الجمهورية والعالم" [2004] والذي في معرض تحرير المقدمة الخاصة بالطبعة العربية، والمؤرخة في أكتوبر 2015، أي عشرة أشهر بعد اعتداءات شارلي إيبدو، لا نجد أي نقد للمعضلة الإسلامية الحركية، بقدر ما يوجه النقد إلى الدولة الفرنسية، وإلى معضلة العنصرية ومعاداة الإسلام [2016]، وبسبب هذه الخيارات في النقد، يُصنف في خانة "اليسار الإسلامي"، خاصة أن الإحالة على دور المحدد الديني، تبقى حاضرة حتى عند أقلام بحثية مسلمة، داخل وخارج فرنسا، بخصوص الاشتغال على القلاقل التي تتسبب فيها الإسلاموية، الإخوانية والجهادية، موازاة مع باقي الأسباب، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ب إدوي بلنيل، إعلامي وباحث، قادم من مرجعية يسارية تروتسكية، وهو مؤسس منصة "ميديا بار" المتخصصة في التحقيقات، وليس صدفة أن غلاف "مجلة العالمان" الفرنسية التي خصصت ملفاً حول الظاهرة، وهي مجلة فكرية محسوبة على اليمين، تضمن صورة إدوي بلنيل بالتحديد، لأنه أكثر حضوراً في المجال الإعلامي، وإن كان أقل حضوراً بحثياً مقارنة مع ألان غريش أو فرانسوا بورغا. واشتهر إدوي بلنيل بكتابه "من أجل المسلمين" [2014]، والذي تناول فيه واقع الجالية المسلمة في فرنسا انطلاقاً من أرضية نظرية مفادها أن الديمقراطية ليست قانون الأغلبية، موجهاً الدعوة إلى فهم هوية الآخرين، والدعوة أيضاً إلى التلاقح مع الثقافات الوافدة على الساحة الفرنسية. ج بالنسبة لفرانسوا بورغا، فهو مدير الأبحاث في معهد البحوث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي في جامعة "إيكس أون بروفانس" (جنوبفرنسا)، والذي اشتهر عند المتتبعين العرب بالاشتغال على واقع الوطن العربي الظاهرة الإسلاموية، ومؤلف ثلاثة عناوين في الموضوع، تصب في ما يُشبه إبراء ذمة الإسلاموية، بما يُفسر الرواج الكبير الذي حظيت به أعماله لدى الأقلام الإخوانية على الخصوص، ونخص بالذكر أعماله التالية: "الإسلام السياسي في المغرب العربي: صوت الجنوب"، "الإسلاموية في زمن تنظيم "القاعدة" والذي صدرت ترجمته إلى العربية لاحقاً، و"فهم الإسلام السياسي: مسار بحث حول الآخر المسلم، 1973- 2016″. ومن القواسم المشتركة في هذه الأعمال ما يُشبه تبييض صورة الإسلاموية، بدءاً بما جاء في كتابه الأول، والذي حظي باحتفاء إسلاميي المنطقة، إلى غاية كتابه الأخير، ونتوقف هنا عند إشارتين من باب الاستئناس: مع "الإسلام السياسي في زمن تنظيم "القاعدة"، نقرأ قراءات اختزالية لبعض المشاريع الإخوانية في المنطقة، من قبيل حديثه عن مواقف نادية ياسين، كريمة مرشد ومؤسس جماعة "العدل والإحسان المغربية"، والتي تؤكد أن الجماعة لا تخضع أبدأً للإخوان، أو التنويه ب"المسار الإصلاحي الذي انخرط فيه راشد الغنوشي"، وأمثلة أخرى، اتضح أنها لا تترجم واقع الحال، كما هو الشأن مع نادية ياسين التي لا تعبر عن مشروع الجماعة المعنية، إضافة إلى أنه تم إبعادها كلياً عن الجماعة مباشر بعد وفاة مؤسسها، وهي الجماعة التي تدعو إلى "الخلافة على منهاج النبوة"، وغير معترف بها رسمياً من طرف السلطات المغربية؛ أو أن الواقع التي استشهد بها بورغا، تغيرت كلياً، كما هو الشأن مع نموذج راشد الغنوشي، وما صدر عنه وعن حركة "النهضة" مباشرة بعد اندلاع أحداث "الفوضى الخلاقة"، ضمن وقائع أخرى. أما في كتابه "فهم الإسلام السياسي: مسار بحث حول الآخر المسلم"، فلا يتردد بورغا في اختزال الأسباب المركبة التي أفضت إلى اعتداءات شارلي إيبدو بأنها ترجمة لفشل السياسة الفرنسية، حيث يسحب البساط عن أي مسؤولية ذاتية لأي خطاب إسلامي حركي في فرنسا، مقابل تسليط الضوء على مسؤولية الحكومات الفرنسية وراء تفاقم الأزمات التي طالت الأقليات المسلمة، متوقفاً ملياً عند المُحدد السياسي باعتباره مفتاح التعامل مع الظاهرة الإسلامية الحركية، في نسختها السياسية و"الجهادية"، وبمقتضى الإشارة السابقة إلى أن طارق رمضان لعب دوراً مركزياً في تأسيس تيار "اليسار الإسلاموي" الفرنسي، وبإقرار فرانسوا بورغا، فقد اعتبر هذا الأخير أن علاقته "الوطيدة مع طارق رمضان، تسببت له في صدور انتقادات سلبية عديدة من باحثين وإعلاميين فرنسيين، ويعزو ذلك لإشادته بالدور الذي يقوم به رمضان في عدة جبهات بحثية وإعلامية في أوروبا والخليج العربي، وفي مقدمتها الدور الذي يقوم به في إدارة "مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق". اشتهر بورغا بغزارته في التأليف، وخاصة نشر مقالات الرأي التي يُلاحظ أنها تنشر في المواقع الإعلامية الإخوانية على الخصوص، أو المقربة من الإخوان، بما في ذلك بعض المواقع الغربية التي أسست دفاعاً عن الإسلاموية وعن المشروع التركي في المنطقة [من قبيل موقع: middleeasteye.net]، ولهذا لا نجده "يتحدث عن المضمون الحقيقي للإيديولوجية الإسلاموية، لأن اختبار هذه الإيديولوجية يجعله أمام حقائق لا يريد معاينتها"، بل إنه من منظور "بورغا، النسخة الحقيقية للإسلام، هي نسخة الإسلاميين"، كما لاحظ ذلك حواس سنيقر، الباحث الفرنسي المتخصص في الحركات الإسلامية، في مقال له صدر تحت عنوان دال: "بالنسبة لفرانسوا بورغا، الإسلاميون هم دائماً على حق" (21 غشت 2017) والشاهد هنا أن مواقف فرانسوا بورغا، ذات الصلة بملف الحركات الإسلامية، أنها أقرب إلى تبييض صورة هذه الحركات والجماعات، مقابل اختزال أسبابها وحضورها في ما تقوم به دول المنطقة، باعتبارها أصل الداء، موازاة مع نقده لصناع القرار في الدول الأوربية، وهناك دراسة مرجعية في خطاب فرانسوا بورغا، وعلاقاته بالمجرة الإخوانية، لأنه حالة خاصة في هذا المضمار، ولا هناك باحث فرنسي يمكن أن ينافسه في الموضوع، بحكم جمع بين الاشتغال على الظاهرة الإسلامية الحركية من جهة، والانخراط في علاقات تنظيمية، تحت بوابة البحث العلمي، مع المشروع الإخواني بشكل عام، ومن هنا بعض أسباب مشاركته في الندوات والمؤتمرات التي يُنظمها إخوان فرنسا وإخوان المنطقة، وخاصة إخوان المغرب وتونس. يتعلق الأمر بدراسة للباحث محمد لويزي، وصدرت تحت عنوان "معالم فرانسوا بورغا في طريق الإخوان"، حيث توقف ملياً، وبالتوثيق والوقائع، عند معالم هذه العلاقة، وحضوره في الفعاليات الإخوانية، ونذكر من العناوين الفرعية للدراسة: "فرانسوا في قطر: مجال الإخوان"، "فرنسا بورغا الذي يمرر الحديث الإخواني في جميع الأزمنة"، "فرانسوا والجزيرة: شهر العسل المستمر"، "فرنسوا بورغا في خدمة عمار لصفر"، "فرانسوا بورغا، خبير بين أيدي يوسف القرضاوي"، ضمن عناوين أخرى. [أنظر: محمد لويزي، معالم فرانسوا بورغا في طريق الإخوان، مدونة الباحث، 31 ديسمبر 2017، ص 47]. ولعل أهم مفاتيح هذه الدراسة، التفرقة التي يقيمها لويزي بين فرانسوا بورغا الذي تخصص في دارسة الحركات الإسلامية منذ أربعة عقود، وهذا أمر يُشرفه، إن كان يندرج في سياق البحث العلمي، وبين فرانسوا بورغا نفسه الذي ينخرط في الدعاية منذ سنوات، للمشروع الإخواني، والانخراط، قلباً وقالباً، في الترويج أن الإيديولوجية الإخوانية مهمة للعالم العربي وللغرب"، وشتان ما بين المقامين.