المتمعن في تدوينة حسن بناجح، عضو الأمانة العامة للدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان، بمناسبة مرور ثمان سنوات على حركة 20 فبراير، يدرك جيدا ودونما حاجة لكثير من التدقيق والتمحيص، بأن "الثابت والمتغير" هما من الأمور النسبية التي تحددها منطلقات الشخص وخلفياته العقدية والإيديولوجية، وهما أيضا انعكاس ذاتي لانطباعات الجماعة حول سمي يوما "بالقومة"، لكن في تجليات محيّنة وأكثر راهنية، تتخذ صورة "الثورة الهجينة". فالثابت، أن من يريد تلمّس التغيير ورؤيته على سجيّته، عليه أن ينزع عنه أولا نظارات "الجماعة"، التي تمعن في النظر إلى المغاربة كحطب للثورة ووقودها، وليس كشعب تواق للحياة وأمة مشرئبة للحرية. وهي زاوية للرؤية تحجر على المغاربة وتسلبهم تنوعهم واختلافاتهم، وتوغل في تعليبهم في صورة المنذورين للموت (Chaire à canon) على مذبح "القومة" الموعودة. والثابت أيضا، أن سيرورة تغيير الأنساق السياسية والمجتمعية تتحقق بتفاعل العوامل الحية داخل المجتمع، من مواطنين وأحزاب ونقابات ومنظمات مدنية ومؤسسات عمومية! فأين تتموقع الجماعة ضمن هذه الفسيفساء المفرزة للتغيير؟ وهي التي اختارت دائما التنظير من الهامش، وتجييش الأتباع والتابعين في التوترات الاجتماعية، فضلا عن الدعوة للثورات بأسلوب الوكالة. ومن الثوابت الثلاثة أيضا، أن التغيير ليس له منحى واحدا ولا مسلكا وحيدا هو الانقلابات على السلطة، والثورة ضد الأنظمة، وحلحلة الدول، وجرّ الشعوب إلى ميادين التحرير وساحات الشهداء، كما هي مختزلة صورة التغيير في تدوينة حسن بناجح الانطباعية، وإنما التغيير المنشود يكون بالتدافع الحزبي المشروع لتحقيق تعاقد سياسي، في ظل أنظمة الحكم القائمة، بعيدا عن أردية الدين وعباءات العقيدة ومصادرة حقوق المواطنين في الاختيار والتفكير. ولعلّ أكثر ما يستفز القارئ في تدوينة حسن بناجح، هي تلكم البرغماتية التي لا مزيد عن نفعيتها، عندما حاول التأسيس لجبهة جديدة في مواجهة السلطة تقوم على "التحالفات الهجينة"! صحيح أن نائب الناطق الرسمي بلسان حال الجماعة استعمل عبرات مُلطّفة من قبيل "الاصطفاف على أساس سياسي"، ولكنه يحيل واقعيا على التقاطبات المبنية على تلاقي المصلحة السياسية وتقاطعها في مواجهة الدولة. وبتعبير أكثر وضوح، فالجماعة تختزل فشل حركة 20 فبراير في الاختلاف المذهبي والإيديولوجي بين اليسار الراديكالي وجماعات الإسلام السياسي. وبمفهوم المخالفة، فإن ثورات الغد المنظور يجب أن تترفع عن هذه الاختلافات المبدئية وأن تنصهر في ظل تحالفات هجينة!. لكن هذا المقاربة في التفكير تفرض علينا الرجوع سنوات خلت، وتحديدا إبان دينامية 20 فبراير من شهر شباط (فبراير) من سنة 2011، لنتساءل مع الأستاذ حسن بناجح: هل فعلا الاختلاف المذهبي والإيديولوجي هو الذي كان سببا في تضييع الفرصة على المغرب ليلتحق بركب دول الثورات من قبيل مصر وسوريا وتونس وليبيا واليمن؟ وهل استغلال السلطة لانقسامية "الثوار" هو من أفشل مخطط التغيير السياسي الذي حددته الجماعة وقتها؟ لا أعتقد أن واحدا من المغاربة يمكنه أن يتقاسم هذه الزاوية في التفكير، إلا من تحركه نفس المنطلقات السياسية والمخرجات الإيديولوجية لحسن بناجح، لسبب بسيط وهو أن السياق الوطني في ربيع 2011 لا يمكن فصله عن السياق العام للمحيط الإقليمي وقتها، حيث كانت جماعات الإسلام السياسي تحاول سرقة الثورات من أصحابها، ولنا في مصر وليبيا وتونس أبلغ الرسائل وأكثر الأدلة بيانا وتبيينا. كما أن انشراح صدر الدولة في المغرب كان أكثر اتساعا قبل وبعد 2011، بدليل أن الملكية فتحت ورش تعاقد سياسي جديد، لم تمليه أو تمنحه وإنما ساهمت فيه العوامل الحية في المجتمع، وتَجسّم في وثيقة دستورية جديدة. أكثر من ذلك، فإن جماعة العدل والإحسان هي من انفرطت تلقائيا من سلسلة المتدافعين نحو شوارع المدن المغربية أيام الأحد من سنة 2011، وسحبت من جانب واحد مكبرات الصوت وسيارات نقل الطرود (الهوندات) التي كانت تسخرها في المسيرات والوقفات، بدون التشاور أو حتى التنسيق مع باقي المشاركين في حركة 20 فبراير؟ واختارت وقتها تبرير خروجها الأحادي الجانب بمسوغات ظاهرية لم تقنع حتى مريدي الجماعة أنفسهم. واليوم، يعود حسن بناجح ليراهن على تحالفات واصطفافات على أساس سياسي، وكأنما هناك شيء ما تغير في عقيدة الجماعة، والحال أن لا شيء تغير سوى شكل الهرم، حيث أصبح المرشد العام ينعت بالأمين العام بعد وفاة عبد السلام ياسين. صحيح أن تخلي جماعة العدل والإحسان عن حركة 20 فبراير لم يكن لصالح الاستقرار بمفهومه المجتمعي وليس السياسي، لأن قادم الأيام سيثبت بأن هذا الخروج كان من أجل المناورة الفردية، بعيدا عن أحزاب اليسار والنزق السياسي لبعض الشباب. إذ أصبحت الجماعة تراهن على التوترات الاجتماعية ذات المطالب المعيشية بغرض إحراج النظام حقوقيا وسياسيا. وهكذا، سنجد "الأيادي البيضاء" للجماعة في كل الحركات المطلبية ووراء كل التوترات الاجتماعية، ولم تعد نصرة الأقصى هي الموعد الوحيد للخروج، وإنما أضحت مسيرات الطلبة والأساتذة المتعاقدين وسكان دور الصفيح والمحتجين على غلاء فاتورة الماء والكهرباء والمطالبين بتوفير الماء الشروب… كلها مواعيد تحتاج للشحذ والشحن والتأجيج. وعلى صعيد آخر، فالقراءة المتأنية لما وراء كلمات تدوينة حسن بناجح، أو القراءة في ما بين ثنايا السطور والمفردات، تكشف بأن هناك العديد من الأشخاص ممن يعيشون بيننا لا يستنكفون يوما عن تأليب المواطنين وجرهم جرا نحو المواجهة المباشرة مع الدولة. فالتدوينة جاءت زاخرة بخطاب الحماسة، صادحة بألفاظ الثورة، واعدة بالنصر الوشيك، وحاولت أن تصور للمغاربة -بكثير من السطحية- بأن التغيير الجدري على مرمى حجر لا ينقصه سوى تحالف هجين يتجرد من الاختلافات السياسية والإيديولوجية!، كما قدمت المؤسسات الوطنية والدولة وكأنها أوهن من بيت العنكبوت لا تقوى على هدير الثوار! بل أكثر من ذلك، فقد توهمت بأن المغاربة سيخرجون عن بكرة أبيهم مع أول "تهليلة" في الأسحار ينطق بها حسن بناجح، يقول فيها " حي على الثورة"! ولكن، ماذا عسانا أن ننتظر كمغاربة من الأستاذ حسن بناجح الذي لا يكاد يفارق حسابه الشخصي في الفايسبوك، هائما في التدوين الافتراضي باسم الجماعة في مواقع ومنصات التواصل الاجتماعي؟ فالتدوين الافتراضي لا يمكنه أن يفرز سوى ثورات افتراضية، يشغل فيها الخيال والوهم الحيز الأكبر على حساب الحقيقة والواقع. وفي المقابل، فإن التحالفات الهجينة لا يمكنها أن تنتج سوى ذلكم "المسخ" الذي يصر على النظر إلى المغاربة كشعب قاصر محجور عليه، لا يمكن أن يتلمس طريقه إلا من خلال عمامة الشيخ ولوح المريد.