يشير مصطلح القوامة إلى واحد من أهم المفاهيم التي تؤطر النظام الأسري وتحفظه من التفكك والانحلال، فهو مصطلح ينتسب إلى ترسانة المفاهيم التي تعكس جانبا من التصور الإسلامي للأسرة، من حيث البناء والوظيفة، سواء كانت الأسرة نووية محدودة، أو أسرة ممتدّة تتصل بالمجتمع كله، وتبني أركانه وتقيم جوانبه وتشيّد عمرانه. والقوامة في جوهرها تنظيم اجتماعي، له قواعد وأصول وضّحتها نصوص القرآن والسنة، وغرضها ضبط علاقة الزوجين بتقرير شرعي يسمو بوظيفتها من طبيعة العادة الاجتماعية، التي قد يقع فيها الحيف والظلم، إلى ممارسة شرعية منضبطة بضوابط الأمر والنهي الإلهيين. إلا أن الملاحظ أن هناك فروقا جوهرية بين مقتضى القوامة الشرعية التي تدل عليها نصوص القرآن والسنة ويعكسها فهم السابقين من العلماء الأولين، وما أصبح يحتمله مصطلح القوامة عند المتأخرين من دلالة على التسلط والاستبداد؛ فلا جرم -والحال هذه- إن بادر المتسائلون اليوم، إلى البحث عن حقيقة هذا المفهوم وفحواه، وعن وظيفته وجدواه، ولا ضير إن حظي المصطلح بمزيد اهتمام، بُغية رده إلى أصله الشرعي الشامل، ليُسنِد بمفهومه السليم ترسانة المفاهيم الأسرية التي يقع منها موقع الجزء من الكل؛ فلا يصح أن يناقض مفهوم القوامة مراد باقي المفاهيم في تحقيق الكرامة والحرية والمساواة والعدالة التي كفلها الله لكل إنسان. نعم هذا هو المطلوب، ولكنه مبلغ عزيز تحول دونه جملة من المغاليق المعرفية والمحاذير المنهجية التي رانت على المفهوم، وأثقلته بما لا يدل عليه، حتى أصبح مسخا على غير طبيعته الأولى، وأحلّته سياقات ليست من جنس فكرته ولا من عين مظانه وأصوله. -القوامة في منظور تيارات الفكر الحديث: إن مصطلح القوامة كثيرا ما يُدرج ضمن أنساق معرفية غريبة، بعضها لا يعترف للمرأة بوضع السواء والكفاءة التي أقرّها لها الوحي المنزّل، وبعضها يتَوهّم الحرية والكرامة والمساواة والعدالة بغير ما أرادته حكمته وطلبته مقاصد التنزيل الحكيم. ولذلك وجب لفت الانتباه إلى المنطلقات الفكرية العامة التي تحكم الأقوال في هذا الموضوع وتُنازِع بعضها الصواب؛ إذ لا سبيل إلى ي استخلاص النظر الشرعي لمسألة من المسائل دون تخليصها من العوالق والزوائد، وحيث التبس مفهوم القوامة وتنافر في إطلاق المعاصرين، فقد صار لزاما سبر موارده في متون الأفكار والفلسفات التي تؤطر النظر إلى موضوع المرأة جملة، إذ لا تستقل مسألة القوامة عن هذا النظر بحال. لقد أصبح مفهوم القوامة في العصر الحديث حمّال ثقافات ومرجعيات مختلفة، يمكن تصنيفها في فئات متمايزة، لكل منها خصائص مائزة، تحكم النظر إلى هذا المفهوم، وتطبعه بطابعها، ويتصل هذا الموضوع بالخصوصيات الفكرية والمنطلقات المعرفية التي نَسَلَت منها مختلف الفهوم، وذلك مجال واسع يصعب حصره في هذا الحيّز الضيق، وأكتفي منه هنا بعرض اتجاهاته العامة التي أحسبها لا تزيد عن ثلاثة اتجاهات: أولا: الاتجاه التقليدي: وأقصد به هنا، ذاك الاتجاه الذي يجمد على النقول دون تمييز بين طبيعة النص وحيا منزلا أو حديثا نبويا، أو اجتهادا من اجتهادات الأئمة الأعلام؛ فالأعلام من الأئمة بحسب هذا الاتجاه، أصدق حديثا وأقوى حجة بعد الكتاب والسنة وأعلم بالنصوص، وأدرى باللغة، وأجمع لعلوم الأولين، لذلك ترى هذه الفئة أن الاجتهاد يقتصر على الترجيح بين الأقوال ولا يتعداها إلى إبداع نظر جديد من النصوص المؤسسة. وعلى هذا الأساس فإن القوامة -كما ينقل هؤلاء من أقوال الفقهاء السابقين- وظيفة شرعية، أقرّتها نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ولكنها في نظر أغلبهم، امتياز خُص به الرجل دون المرأة؛ فبموجبه ينفق عليها، وهي مقابل هذا الامتياز، لابد أن تكون طائعة مؤتمرة بأمر صاحب الامتياز ومنتهية بنهيه. وينفي أصحاب هذا الاتجاه أن تكون قوامة الرِّجال على النِّساء مجرد قوامة تكليف شرعي، بل هي قوامة تكليف وتشريف كما يقولون، استنادا إلى قولِ الله جل وعلا: ﴿الرِّجالُ قوَّامون على النِّساء بما فَضَّلَ اللهُ بعضهم على بعض وبما أنفقوا﴾ [النساء:34]، قال الشيخ ابن باز[1] في تفسيره للآية: "فالرجل له قوامة على المرأة، لأن الله فضله عليها؛ فالرجال أفضل من النساء في الجملة، مع قطع النظر عن الأفراد. قد يكون بعض الأفراد غير ذلك، وقد تكون بعض النساء أفضل من بعض الرجال، لكن جنس الرجال أفضل من جنس النساء، ولهذا جعل الله لهم القوامة على النساء، ثم أمر آخر وهو الإنفاق (ما بذل لها من المال من الجهاز من المهر وتوابعه) فصار له القوامة عليها بالأمرين بتفضيل الله له عليها، وبما بذل من المال"[2]. وقال ابن عثيمين مثل قول صاحبه ابن باز، ولم يكن رأيهما معا نشازا من الأقوال حديثا وقديما، ذلك أن نظرتهم للقوامة لها أصول مبثوثة في بعض تفاسير القدماء، التي ترى أن القوامة امتياز للرجل بسبب فضله على المرأة، كما جاء في تفسير ابن كثير والطبري[3]. ولم يقتصر هذا الفهم للقوامة على رموز المدرسة السلفية الوهابية[4] بل نجده حاضرا حتى عند رموز السلفية التقليدية[5]، مثل الشيخ محمد رشيد رضا، الذي اعتَبر بدوره أن سبب القوامة هو تفضيل الله تعالى الرجال على النساء في أصل الخلقة[6]. ولم يكن رشيد رضا الوحيد الذي نقل هذا النظر، بل سواه كثيرون لا يخلو منهم هذا الزمان أيضا، وهم نقلة عن غيرهم من الفقهاء السابقين الذين نقلوا بدورهم الأحكام عن سابقيهم، ونقلوا معها ثقافات أصحابها وظروف عصورهم وأحوال الزمن الذي عاشوه. ثانيا: الاتجاه التجديدي: وأقصد به ذاك الاتجاه الذي يرى أن الأحكام الفقهية تحتاج إلى تجديد، وأن التصحيح لا بد أن ينطلق من إعادة النظر في أقوال الفقهاء والمفسرين، على اعتبار أن النصوص المؤسسة إنما هي إطارات نظرية أنبتت رأي الفقهاء، ولذلك يفترض في التصحيح أن يُلغي الفهوم الخاطئة، التي عطّلت كثيرا من القيم السامية للشريعة، فهذا هو المنطلق الذي يكون منه البدء في نظر هؤلاء؛ إذ هو سبيل الإصلاح ومؤداه حتما -بعد النخل- إخراج النموذج المثالي البديل عما يعرضه الغرب من تصورات للتحرر. ومن أبرز رموز هذا الاتجاه، نذكر الشيخ يوسف القرضاوي، الذي نفى أن تكون في القوامة أفضلية للرجل على المرأة، لأنه لا يوجد في القرآن ولا السنة نص صريح بذلك. فالزواج في نظره بمثابة شركة لابدّ لها من مدير[7]، وهذه الإدارة لا تتنافى مع ضرورة الاستشارة. وقد سئل الشيخ عن الرجل العابث الذي لا يأبه بأسرته، هل له من قوامة؟ فأجاب أن الله تعالى قال: الرجال قوامون على النساء ولم يقل الذكور قوامون على الإناث، ومثل هذا النموذج –يعني من العابثين المهملين- لا يستحق أن يكون قواما[8]. وبالمثل اعتبر الشيخ محمد الغزالي، أن القوامة من أبرز المعاني التي ينبغي تصحيحها، وأكّد أنها لا تعني القهر ولا تعني ضياع المساواة الأصلية بين الذكر والأنثى والتي فطر الله الناس عليها. وهي "تكليف قبل أن تكون تشريفاً … ولا تزيد عن أن يكون للرجل "الكلمة الأخيرة بعد المشورة ما لم يخالف بها شرعا،ً أو ينكر بها معروفاً، أو يجحد بها حقاً، أو يجنح إلى سفه أو إسراف، ومن حق الزوجة إذا انحرف زوجها أن تراجعه وألا تأخذ برأيه، وأن تحتكم في اعتراضها عليه بالحق إلى أهلها وأهله، أو إلى سلطة المجتمع الذي له وعليه أن يقيم حدود الله"[9]. ومعلوم أن الشيخ القرضاوي والشيخ الغزالي هما شيخان أزهريان، إلا أن نظرهما كان أجنح إلى الإصلاح، مع أن الأزهر على التقليد في العموم. وعلى نفس المنوال سار الدكتور محمد عمارة، فقد كان أكثر وضوحا في بيان ما يجب من تصحيح في الموضوع؛ حيث قال إن القوامة ليس تفضيلا في المقام، بل هو تكليف إضافي "رعاية وخدمة " .. والصحابة فهموا القوامة على أن المرأة والرجل متساويان في المقام، مختلفان في المهام، وأضاف قائلا: وليس معنى القيادة هنا أن تكون المرأة مقهورة مظلومة، بل واجبٌ اتخاذ القرارات الأسرية بالشورى، فتارة يصيب هو وتارة تصيب هي[10]. ولما كانت القوامة ضرورة من ضرورات نظام البيوت، فقد ربط القرآن هذه الدرجة في الريادة بالمؤهلات والعطاء، وليس بمجرد الجنس، كما يقول الدكتور عمارة، فجاء التعبير ﴿الرجال قوامون على النساء﴾، وليس كل رجل قوام على كل امرأة، لأن إمكانات القوامة معهودة غالبًا لدى الرجال، فإذا تخلفت هذه الإمكانات عند واحد من الرجال، كان الباب مفتوحًا أمام الزوجة، إذا امتلكت من هذه المقومات أكثر مما لديه، لتدبير دفة الاجتماع الأسري، على نحو ما قد يحدث في بعض الحالات[11]. ولا تعني قوامة الرجل على المرأة، في نظر عمارة، أنه القائد وحده، وإنما تعني ارتفاع مكانته إذا أهلته إمكانياته درجة تتيح له اتخاذ القرار في ضوء الشورى، وليس الانفراد الذي ينفي إرادة المرأة وقيادتها (…) ولو لم يكن هذا المضمون الإسلامي (للقوامة) لما أمكن أن يكون كل من الرجل والمرأة راعيا في ميدان واحد، هو البيت (…) فهما أميران راعيان وقائدان في ذات الميدان … والقوامة درجة أعلى في سلم القيادة وليست السُلّم بأكمله[12]. ومن المفيد القول إن الدكتور عمارة يعتبر أن المفهوم القرآني للقوامة مفهوم راقي، يتسم بالرفعة والسمو، وأما الفهم المعوَج والمشوّه لمعنى القوامة، كما تناسل في رأي الكثيرين، فيمثل انقلابًا على تلك المعاني القرآنية السامية التي تحدثت عن الزواج ب(الميثاق الغليظ)، والمودة، والرحمة، والسكن. ثالثا: الاتجاه الحداثي العلماني: وأقصد به ذلك الاتجاه الذي يسعى إلى تحسين وضع المرأة وتأهيلها، لتكون كفؤا للرجل في الحقوق والواجبات، بما يوافق القيم الدولية ذات الأصول الوضعية، التي تلغي الخصوصيات وتتجاوز الثقافات المحلية؛ على اعتبار أن هذا النمط العالمي هو مقياس التقدم والمدنية، وغيره مكرّس للانحطاط والتخلف؛ وحسب رموز هذا التيار فإن الوضع المتردي يستوجب العمل من أجل التخلص من كل معوقات التقدّم، التي قد تتلبس في دعوى حفظ التقاليد، أو التمسك بتعاليم الدين في تنظيم أمور الدنيا؛ فالدين إما أن يُحصر في الشعائر التعبدية، وإما يُخلّص من كل فهم لا يوافق ما توافق عليه الفكر المادي الحديث. ومن أبرز رموز هذا الاتجاه الطاهر الحداد، فهو يرى أن الأحكام القرآنية التي تخص المرأة هي أحكام تاريخية مرتبطة بزمن النزول، وهي قابلة للتغير بتغير الزمان، ولو كانت من الآيات المحكمات. ولا يستقل نظر حداد عن عموم رؤية غيره من الحداثيين العلمانيين وما تداولوه بينهم من أفكار، فالدكتور شحرور[13]، وهو مصنّف في دائرة هذه الفئة، استنكر ما قيل من أن القوامة المذكورة في آية النساء هي قوامة فطرية بالخَلق؛ أي أن جنس الرجال قوام على جنس النساء بالفطرة والأفضلية. واتفق في ذلك مع نظرة التجديديين، ورؤية محمد عبده ومن نحا نحوه من بعد، ورأى أن قول الله تعالى:﴿ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ تشمل كل الرجال والنساء ليصبح المعنى: بما فضل الله بعض الرجال والنساء على بعض آخر من الرجال والنساء (…) ما ينفي الأفضلية بالخَلْق، وفي المقابل يعلق شحرور هذه الأفضلية على حسن الإدارة والحكمة ودرجة الثقافة والوعي، وهي قيم تتفاوت بين عموم الناس، فمن الرجال من هو أفضل فيها من النساء والعكس صحيح. واستدل على ما ذهب إليه من تفصيل بالشق الثاني للآية وفيه قوله تعالى: ﴿ فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله﴾ (…) وقال ولفظ "فالصالحات هنا يعني الصالحات للقوامة، إذ القوامة هي المدار الذي تدور حوله الآية[14]. والملاحظ أن شحرور انتبه إلى مقتضى السياق الذي وجّه رؤيته، ولكنه أهمله حين ادعى أن القوامة لا تتعلق فقط بالزوج والزوجة وإنما هي قوامة مطلقة، وكان حريّ به أن يلتفت هنا إلى السياق أيضا، إذ الآيات التي وردت فيها نص القوامة لا يعدو الحديث فيها عن تنظيم العلاقة الزوجية، وبيان أحكامها. وما كانت القوامة إلا جزءا من الحديث ولم تكن محوره. وعموما فإن المنهج العلماني يعاني من عيوب الانتقائية من النص وإهمال أدوات الاستنباط التي تحفظه من العبث، ويؤخذ عليه أيضا إقرار السلطة المطلقة للواقع على النص، وكل هذه المآخذ كانت بسبب وقوع هذه الفئة في الزلل والشذوذ. مما سبق نخلص إلى أن الاتجاه الأول (الاتجاه التقليدي) يدعي تفضيل الرجل على المرأة أفضلية كاملة، وهذا أمر مخالف لما أقرّته نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية من تسوية بين الجنسين، فالنصوص تجعل من التقوى معيارا وحيدا للتفاضل بين بني البشر، وقد كان هذا الرأي من قِبل هؤلاء خطأ فادحا، تسبّب فيه التقليد غير المشروط للسابقين، وعدم الاهتمام بالظروف التي وجّهت آراءهم. وقد ترتب على اعتقاد هذا الاتجاه ما نجد من تحقير للمرأة وبخس لقدرها ودورها في المجتمع والبيت. بينما نرى أن الاتجاه الثاني (الاتجاه التجديدي) يدعو إلى تصحيح ما اعوج من معنى القوامة، ويُنكر–استنادا إلى النصوص- على من يقول بأفضلية الرجل على المرأة، فالقوامة مربوطة بالنفقة، ولا تعني الاستبداد بالسلطة والرأي. وعلى هذا الأساس ينتقد هذا الاتجاه فهم الاتجاه الأول وممارسته للقوامة على الشكل الذي تبدو عليه خالية من معاني المودة التي أرادها التنزيل، والرحمة والسكن اللذان جعلهما الله تعالى عصب الرباط الزوجي. وتعني القوامة عند هذا الاتجاه التجديدي أيضا، أن يكون للرجل الكلمة الأخيرة بعد المشورة، فهي في نظرهم تكليف إضافي، مربوط بالمؤهلات والعطاء وليس بمجرد الجنس، فإذا تخلفت هذه الإمكانات عند من لا يستحق القوامة من الرجال، كان الباب مفتوحًا أمام الزوجة، إذا امتلكت من هذه المقومات أكثر مما لدى الرجل لتدبير دفة الأسرة. ويعتبر هذا الاتجاه أن الشريعة فتحت في عمومها هذا الباب، سواء في دلالة الولاية، أو فيما أقرّته من إمكانية الحجر مطلقا، مما يفيد أن التفاضل نسبي، كما قال الدكتور عمارة، وهذا الرأي هو الأقرب للصواب، وهو الذي ينسجم مع مقتضيات العصر الراهن والسياق المعاصر، دون أن يخل بشروط الاستنباط السليم. في حين يقول الاتجاه العلماني بالمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة دون فواصل أو حدود، وعلى ذلك يرتب فهمه للقوامة، ولا يبني القول على تحرّ حقيقي لمعاني الآيات انطلاقا من أدوات الفهم الطبيعي من لغة وقواعد أصولية، وكذا القرائن الصحيحة التي تقرّر المعاني. لقد تضافرت عدة عوامل في ترسيخ الالتباس الحاصل حول مفهوم القوامة، منها الفهم المغلوط للدين، البعد عنه، والجهل، والأمية، وطابع البداوة الذي يغلب على المجتمعات العربية، والموروث الثقافي قبل الإسلام العادات الراسخة في المجتمعات الإسلامية، وخلط معنى القوامة بمفاهيم إسلامية أخرى، والقابلية للتسلط في نفسية المرأة العربية …إلخ، وهذه العوامل وغيرها أثرت سلبا على مستوى الفهم مثلما أثرت سلبا على مستوى الممارسة، إلى الحد الذي اختلطت فيه السلوكات السلبية بالواجب الشرعي، مما أصبح يتطلب التفكير في تصحيح الجهاز المفاهيمي حتى يتناسب مع التصور الشرعي السليم، على أن يستتبع بخطوات عملية تحوّل الأفكار من النظرية إلى التطبيق لتحال إلى واقع عملي. سبل تصحيح الوضع المتردي للقوامة على مستوى الفهم: إن التدابير الواجب اتخاذها في هذه القضية والتصحيح المطلوب ينبغي أن يتجه إلى النظر في الأسباب التي أفرزت المفاهيم المغلوطة حول القوامة بما هي مقدمات خاطئة لنتائج سلبية، ويتوقّف التصحيح على سلك مناهج علمية سليمة تقوم على القواعد الآتية: أ-إعادة النظر في مفهوم القوامة: فلا بد من التأكيد على أهمية التقويم الاصطلاحي لمدلول القوامة؛ إذ الظاهر أن إطلاق هذا المصطلح لا يثبت عند الغالبية على مقصود واضح. وليس يخفى أن المصطلح -أي مصطلح- إنما يعني صلاحية اللفظ لتأدية المفهوم، والخلاف إنما يقع في المفاهيم حتى وإن اتفق اللسان، وعلى هذا الأساس وجب الاستهداء –عند السعي إلى استخلاص المفهوم السليم للقوامة- بالنسق المفاهيمي للقرآن الكريم والذي يقع ضمنه المفهوم الذي نعالجه، وهو نسق يحتاج إلى كشف من المتن القرآني وبطون كتب السنة، مثلما يحتاج إلى تركيب صحيح يقدمه سائغا للتفعيل. ب-السعي إلى الاجتهاد والتجديد في إطار الضوابط الشرعية: الاجتهاد في اصطلاح الفقهاء هو: " بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي، بطريق الاستنباط"[15] و"يدل عموما على استفراغ المجتهد للوسع وبذله أرفع مستويات الجهد الفكري والعلمي والبحثي في مجالات دراسة الأفكار والمفاهيم والنظريات والأحكام، وبالشكل الذي من المفترض أن يحقّق قدرا من الاكتشاف والابتكار والتجديد"[16]. وما دام الخلاف واقع حول مسألة القوامة فذاك يعني أن باب الفهم مشرع لمن استجمع شروط النظر والاجتهاد ومفتوح للبحث والتقليب لكل مؤهل لهذا الأمر، فإذا عز مطلب الاجتهاد فذاك نذير احتباس وجمود يطال ضرره المرأة بشكل خاص والأسرة، ومن خلالها الأمة كلها. لا بد للناظر اليوم أن يعتبر بالمستجدات المعاصرة التي أوجدت هذا الواقع الجديد المختلف عن مألوف القدماء، فالمرأة المعاصرة لم تعد على الهامش كما كانت من قبل، واستعادت وعيها الذي أضاعته في زمن النكوص الحضاري، وأصبحت في وضعية تساوي الرجل في غالب الأحيان، وقد تفوقه علما وحكمة وتدبيرا، فلا يمكن -والحالة هذه- أن تُلزم بأحكام طبعتها الأزمان المتغيّرة بطابعها، ففي الشريعة متسع لاستيعاب كل المستجدات ما دامت صالحة لكل العصور. ج-التزام المقاربة المقاصدية المناسبة لمضامين التنزيل: ولا يخفى أن الاختلال الذي وقع في فهم الشريعة ما كان إلا بسبب تغليب القضايا الفرعية والإغراق في تفاصيلها، وإدارة الخلاف في دقائقها على حساب القضايا الأصولية الكبرى والكليات الشرعية التي تندرج ضمنها الفروع والجزئيات. فلا مناص عند التفكير في تصحيح النظر إلى القوامة من تجاوز النظرة التبسيطية والسطحية ليحصل استيعاب المقاصد العامة للشريعة وكلياتها، من ذلك استحضار قصد الشارع التسوية بين الناس والأجناس، وسعيه إلى إقرار الكرامة الإنسانية لكل البشر، استهداء بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء: 70) وقوله أيضا:﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (النحل: 97) فلا امتياز لجنس على آخر إلا بالمعيار القرآني المتمثل في قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: 13) وقوله صلى الله عليه وسلم: " أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى"[17]. والأكيد أن مسألة القوامة إذا نظرت بمنظار القيم العليا للشريعة ومقاصدها العامة، ولم تحصر في دائرة القصد الجزئي في تدبير العلاقة الأسرية، فإن النتيجة ستكون بلا شك أسمى من كل ما قد يَتحصّل من نقل لا يقيم اعتبارا لجوهر الشريعة ومقصودها العام. د-الالتزام بالتصور الشمولي لقضايا الإنسان: وهذا الالتزام يقتضي النظر إلى القرآن الكريم بما يوافق رؤيته لطبائع الإنسان ووظائفه داخل محيطه الإنساني، بغض النظر عن جنسه، ويشمل هذا النظر حاجته إلى الاجتماع البشري ودوره في إنجاز استمرارية الخلافة على الأرض، كما يشمل التماس نظرة القرآن إلى الإنسان في جانبه التكويني مادة وروحا؛ فالإسلام منهج متكامل للحياة وعلى هذه القاعدة يبني أحكامه وتصوره للقضايا الإنسانية، ومن خلال هذه الزاوية يخوض في الدقائق الاجتماعية والنفسية والاقتصادية وحتى البيولوجية على وجه التفسير والتشريع. ولاشك أن استحضار هذه الرؤية في مقاربة موضوع القوامة من شأنه الدفع بالتصحيح إلى الغايات المرجوة والتي تستحق أن تنسب لسماحة التشريع. إن الإعاقة التي عطلت سير الأمة نحو النهضة، لا تتعلق فقط بالأفكار النيّرة التي يجود بها المصلحون، وإنما تتصل أيضا بغياب القدرة والإرادة على تمكين الجهود العلمية والملكات الفكرية من الآليات المناسبة والكفيلة بنقل الأفكار من المسطور إلى المنظور، وتصحيح النظر والعمل معا في موضوع القوامة محكوم أيضا بهذه الحقيقة، وعلى هذا الأساس أرى تسخير مختلف الإمكانيات التي لها دخل وقدرة على التصويب، وفيما يلي تفصيلات يمكن الاستهداء بها في هذا الباب: مد جسور التعاون مع العلماء والباحثين والأساتذة في الجامعات تحفيزا لخدمة البحث العلمي في موضوع المرأة وقضاياها الكبرى، ومنها مسألة القوامة والولاية. عقد ندوات دورية تربط قضية الأسرة بقضية الأمة، على أن تستمد منهجها من التصور القرآني الشمولي لقضايا الإنسان. الإسراع في إبرام الشراكات مع وحدات البحث والتكوين في سلك الماستر والدكتوراه بغاية توجيه الطلبة للبحث في موضوع القوامة والولاية وغيرها من المواضيع الملتبسة. السعي إلى تأسيس المزيد من المراكز للدراسات والبحوث حول قضايا الأسرة والمرأة، والدعوة إلى ذلك، وتشجيع البحوث الأكاديمية المتصلة بهذا الموضوع، إلى جانب العمل على فتح فضاءات هذه المراكز لاستقبال المتدربين والباحثين لتسهيلا لمهامهم البحثية وسعيا لتوجيهها الوجهة الصحيحة. إبرام شراكات بين المؤسسات العلمية التي تهتم بقضايا التجديد في الفقه والتفسير والسنة النبوية، وغيرها من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، ذات التخصصات المختلفة، قصد توسيع مجال عمل الفكر التجديدي، وما تعلق منه بالخصوص بقضايا الأسرة والمرأة. عقد دورات تكوينية للباحثين والمهتمين بالدراسات حول الأسرة في الإسلام، وإقامة دورات مثيلة للمقبلين على الزواج بهدف تبصيرهم بالمنظور الشرعي للكيان الأسري الخالص من الشوائب والبعيد عن التصوير النمطي. تقوية آليات التواصل من أجل إشاعة الفقه العمراني لقضايا الأسرة، من خلال إعداد برامج إعلامية تنقل الفكرة وتشجع الوعي بمقاصد الأسرة في التشريع. الانفتاح على وسائل الإعلام الأكثر انتشارا للحديث حول الموضوع، من خلال إجراء الحوارات، أو من خلال المقالات العلمية ومقالات الرأي، وكذا الانخراط في مشاريع التواصل الاجتماعي عبر الشبكة العنكبوتية. دعوة المهتمين إلى الجنوح نحو "سياسة القرب" من خلال إقامة مراكز للإرشاد الأسري تتوجه لإصلاح الأوضاع المأزومة ومتابعة العلاقات الناشئة بين الأزواج ودراسة أحوال النساء ضحايا التسلط الذكوري، لتكون هذه المراكز بديلة عن "مراكز الاستماع" من أجل خلق فرص للحوار والتوعية، بدل فتح المجال للصراع والتنافس. الإعلان عن جائزة سنوية ذات قيمة عالية، تدعم من قبل المراكز والمعاهد والهيئات المتعاونة، لفائدة البحث المتفوق والأكثر قدرة على الإبداع والتجديد في قضايا المرأة، على أن يكون البحث في موضوع القوامة والولاية فاتحة المواضيع المخصوصة. خاتمة: خلاصة القول في هذا الباب، أن القوامة رئاسة للأسرة، وهي "ضرورة تقضي بها سنة الله في الحياة، تلك هي حاجة أي مؤسسة يعمل فيها أكثر من شخص إلى رئيس يُرجع إليه في تسيير أمور المؤسسة"[18]. فحتى لا تتعرض الأسرة للتفكك، باعتبارها جماعة تتآلف في كنفها طبائع مختلفة متنافرة الميولات والاختيارات، ألزمت –لذلك- بتفويض أمرها لرئيس منها، يقوم بشؤونها ويحل نزاعاتها المفترضة، شأنها في ذلك شأن كل اجتماع عظم سواده أو قلّ، وحتى لا يتقاعس الناس على أمر التفويض هذا، نبّه الله تعالى إلى مآل محتوم لمن خالف الناموس الكوني، وشدّد على استحالة تنظيم الاجتماع برأسين اثنين، فقال: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ (الأنبياء: 22). وفي هذه الآية إشارة إلى قيوميته جل وعلا، فهو قيوم السموات والأرض، أي القائم بأمرها ومدبره، وإشارة ضمنية إلى طبيعة الاجتماع، وما يلزمه من اختلاف في النظر. ولقد حدّدت الشريعة معايير الأهلية لمن ستُفوّض إليه أمور الأمة والقبيلة والعسكر، وبيّنت شروط الإمامة العلمية والروحية وغيرها من أحوال الاجتماع البشري، وضمن بيانها وضّحت المؤهلات الواجبة في مدبر الأسرة فيما سمي بالقوامة، وتكون في الغالب بيد الرجل كلما اجتمعت فيه خصائص بيّنتها النصوص، وحين تُثبَت أهلية القوامة لصاحبها، يتعيّن عليه حينئذ -وبحسب هذه النصوص- أن يستحضر لوازمها، ويرسم حدود "رئاسته"، مثلما يتعيّن عليه استيعاب معنى انضواء غيره تحت إمرته وحدود الائتمار وما يقتضيه. هذه التوجيهات حجبها اللبس الذي وقع في الأذهان حين اختلطت الفهوم ببعضها وخصوصا في العصر الحديث، وأكثرها غالط النصوص وجاوز بالفعل حدود المباح، حتى أصبحت هذه الرؤى والاجتهادات ذرائع لتهميش النساء وإبعادهن عن الشأن العام وقهرهن أحيانا، أو إيهامهن بلا جدوى القوامة تزييفا للحقائق وخروجا عن الطبيعة، وقد أفرغت القوامة في أحايين كثيرة من كل مضمون شرعي حتى صارت بدون معنى وطائعة لتحميلها كل الأفكار والإيديولوجيات. ولكي ينزاح هذا القهر وذلك التسيّب، لا بد من إعادة ترتيب العلاقة بين الرجل والمرأة في البيت أولا، إذ أن صورة المرأة في المجتمع رهينة بوضعها في الأسرة، وحين يستبين الرجل صاحب القوامة حدود سلطته ويلتزم بما تقتضيه أصولها الشرعية، ستتحرر المرأة تلقائيا مما لحق بها من إقصاء أصابها في مقتل دون تهافت وتسْييب. إن الإصلاح الذي يُفترض أن يتوجّه إلى الكيان الأسري في المجتمعات الإسلامية يحتاج أولا إلى تصور سليم لا يختزل وظيفة الأسرة في الإحصان والإنجاب وخدمة البيت فقط، بل يقرنها بالوظائف الغائية، وذلك يستدعي صياغة فقه جديد، يلمس فيه المخاطب ما يدعوه إلى استشعار مسئولياته الكبيرة في بناء أمة الشهادة. وسيكون أمام حَمَلة الإصلاح مهمات جسام لتأسيس هذه المضامين الجديدة، بدءا بتصحيح المفاهيم، من قبيل مفهوم الأهلية، ومفهوم الكفاءة، ومفهوم الأسرة، ومفهوم القوامة، ومفهوم الولاية، ومفهوم الدرجة، ومفهوم المساواة… إلخ، على أن يدعى الجميع إلى تركيب الأفكار وتوظيف آليات الاجتهاد المقاصدي في فهم الخطاب الشرعي. *مونية الطراز: الرابطة المحمدية للعلماء – مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلام