حُقُوقُ المْرْأَةِ بَيْنَ مَنْظُورَيْنِ فِي التُّرَاثِ الْإِسْلاَمِيِّ وَالمْوَاثِيقِ الدَّوْلِيَّةِ لقد اهتمت عديد من الدول بدراسة حقوق المرأة بناء على المرجعية الدينية والعلمية لكل دولة، مما جعل من جهة - خصوصا الدول العربية - بروز تيارات دينية تحاول التأسيس لفكرة عدم المساواة بين الرجال والنساء في المجتمع تمسكا ب 'الدين' والعرف، لكن من جهة أخرى، نجد أن حقوق المرأة الدولية أخذت الجانب الغربي، وبالتالي فالغرب يحاول فرضها على الشعوب الإسلامية، حيث يعتبره هؤلاء اكتساحا ثقافيا ماسا بمعتقداتهم. إلا أنه في مقابل هذه التيارات - ومن خلال اجتهاد فقهاء المذاهب والإسلاميين المعاصرين - أثبتوا أن الإسلام لا يتعارض مع حقوق المرأة المنصوص عليها في المواثيق الدولية. وفي مقالتنا هذه سنعمل على مناقشة حقوق المرأة من ثلاث زوايا أساسية لتبيان أوجه التشابه والإختلاف بين هذه الحقوق، وهل سارت في الطريق الصحيح أم لا؟ وكذا مدى اتفاق شعوب العالم فيما بينها على هذه الحقوق، والتي يعتبرها المنتظم الدولي قيما وحقوقا إنسانية وطبيعية لا بد وأن تحظى بها المرأة. من خلال هذا التأطير البسيط، ارتأينا تقسيم عرضنا إلى ثلاث محاور أساسية مدعمة بفقرات: المحور الأول: حقوق المرأة في القانون الدولي المحور الثاني: حقوق المرأة في الحركات الإسلامية المحور الثالث: حقوق المرأة في الفقه الإسلامي المحور الأول: حقوق المرأة في القانون الدولي يرتكز القانون الدولي لحقوق الإنسان على الشرعية الدولية لهذه الحقوق التي تتكون من: 1- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948 م. 2- العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية سنة 1966 م. 3- العهد الدولي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية سنة 1966 م. أما فيما يخص المرأة، نضيف لهذه المواثيق اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة لسنة 1981 م. وضمن هذه الترسانة من المواثيق المحددة لحقوق الإنسان عامة، نجد بعض فقراتها اهتمت بالمرأة حيث جاء في الفقرة 16 من المادة 1 في الإتفاقية السابقة: "للرجل والمرأة متى أدركا سن البلوغ حق التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين، وهما متساويان لدى التزوج وخلال قيام عقد الزواج ولدى انحلاله". أما في الميثاق المتعلق بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية، نجد أن المادة 7 تنص على: "تعترف الدول الأطراف في هذا العهد بما لكل شخص من حق في التمتع بشروط عمل عادلة ومرضية تكفل على الخصوص مكافأة توفر لجميع العمال كحد أدنى للأجر، على أن يضمن للمرأة خصوصا تمتعها بشرط عمل لا يكون أدنى من تلك التي يتمتع بها الرجل، وتقاضيها أجرا يساوي أجر الرجل لدى تساوي العمل". وفيما يخص الحقوق المدنية والسياسية، نجد أنه في المادة 3: "تتعهد الدول الأطراف في هذا العهد بكفالة تساوي الرجال والنساء في حق التمتع بجميع الحقوق المدنية والسياسية المنصوص عليها في هذا العهد". كما جاء في المادة 1 من اتفاقية القضاء على التمييز ضد المرأة: "يعني مصطلح (التمييز ضد المرأة) أي تفرقة أو استبعاد أو تقييد يتم على أساس الجنس ويكون من آثاره أو أغراضه النيل من الإعتراف للمرأة على أساس تساوي الرجل والمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والمدنية والثقافية وفي أي ميدان آخر، أو إبطال الإعتراف للمرأة بهذه الحقوق أو تمتعها بها وممارستها لها بغض النظر عن حالتها الزوجية". يتضح من المواد التي أشرنا إليها سابقا أن الحقوق المنصوص عليها في القانون الدولي الخاصة بالمرأة، تجمل عموما فيما يلي: الفقرة الأولى: الحقوق الإجتماعية والإقتصادية 1) الإجتماعية: وتشمل المساواة التامة بين الرجل والمرأة في عقد الزواج وفي خلال العلاقة الزوجية وعند انتهائها، وهذا يعني أن المواثيق الدولية لا تقبل بتعدد الزوجات ولا سيادة الرجل على المرأة خارج البيت – فما بالك بداخله - ولا تفرده بحق الطلاق وإنهاء العلاقة دون الزوجة، ولا بأي تشريع يفرض على المرأة أغلالا تقيد حركتها في المجتمع من مظهر وزينة وزي، أو تقليص حقها في المشاركة على قدم المساواة مع الرجل في كافة الأنشطة الإنسانية. 2) الإقتصادية: وتشمل المساواة التامة بين الرجل والمرأة في حق العمل، وفي الأجر المتساوي في نفس العمل، وفي كل ما هو مرتبط بالإقتصاد من ضرائب ومنح اقتصادية التي يقدمها المجتمع لأفراده أو يطالبهم بها، وهذا التعادل على المستوى الإقتصادي يشمل أيضا التساوي في الميراث. الفقرة الثانية: الحقوق السياسية والقانونية 1) السياسية: وتشمل المساواة التامة بين الرجل والمرأة في حق الترشيح والإنتخاب والولوج لكافة الوظائف في الدولة على قدم المساواة، ومنه يعني أن للمرأة الحق في تولي المناصب العليا التي تكون فيها مسؤولة فيها عن غيرها من النساء وكذا الرجال أيضا. 2) القانونية: وتشمل المساواة التامة بين الرجل والمرأة أمام القانون كمتقاضين وكشهود، كما يحق للمرأة تولي القضاء ورفض أي قانون يمكن أن يصدر عن جهة معينة يفيد التمييز بين الرجل والمرأة على أساس الذكورة أو الأنوثة بشكل مباشر أو غير مباشر. يتضح مما سبق أن هذه الحقوق تبدو وكأنها تخالف الفكر الإسلامي عموما، إلا أنه بطبيعة الحال هناك العديد من النصوص القانونية الأخرى التي لم نذكرها تتماشى والفكر الإسلامي ولا تعارضها مجملا، لكن كل ما هنالك هو أننا أدرجنا النصوص والحقوق التي منحها المنتظم الدولي للمرأة والمعارضة بتاتا للفكر الإسلامي، لأنه من جهة، تماشيا مع طبيعة بحثنا كمقاربة بين عنصرين، ومن جهة أخرى، إذا لم يكن هناك خلاف ونقاش لا يمكن التحدث عن دراسة ومقاربة. المحور الثاني: حقوق المرأة في الحركات الإسلامية يتناول هذا المحور عرض بعض أفكار زعماء ومفكرين الحركات الإسلامية التي تعرف تباينا فيما بينها في عديد من القضايا، وفي المقابل نجد الفكر الإسلامي السلفي الذي اعتمد على القرءان والسنة بصفة مطلقة والذي فرى فريه بعض المفكرين الإسلاميين المحدثين. الفقرة الأولى: حقوق المرأة في الفكر الإسلامي السلفي أشهر التفاسير المقبولة لدى الإسلاميين نجد تفسير ابن عباس والجلالين والقرطبي والرازي والنسقي وابن كثير، وهم يعتمدون على الأحاديث الموثوق بها والمضمنة بصحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجة. وعلى أساس أن هذا الفكر ينطلق من العقيدة الإسلامية، فإن الأحكام المتعلقة بالمرأة تمثل رأي المصدر الإلهي الأعلى وليس في وسع البشر التدخل فيه، وهكذا فإن الفكر السلفي يرفض أي رأي مخالف سواء كان مبنيا على تفسير مختلف للمعاني الدينية أو مبنيا على العقل المجرد وما اكتسبته الحضارة الإنسانية في هذا المجال. والفكر السلفي لا ينبذ الإجتهاد وإنما يحبذه فيما لم يرد نص يحدد حكما ما، ومنه فالنص الصريح سيان كان في الكتاب أو السنة فإن اتباعه واجب ومناقشته باطلة، مما جعل هؤلاء السلفيين يتعصبون للرأي المخالف ويتهمون مصدره بالكفر والإلحاد مع العلم أنهم عاشوا في عصور تاريخية قديمة كانت فيها أفكارهم ترتبط بقوة مع واقعهم. 1) القوامة: مفهومها في فكر المجتمع الإسلامي السلفي التقليدي يعني أن للرجل القيادة والوصاية على المرأة داخل الأسرة وفي المجتمع ككل، وهو المكلف بحمايتها ورعايتها وتوفير الأكل والسكن لها في مقابل طاعتها التامة له في غير ما حرم الله. قال تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم، فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا) - النساء 34 - وقد فسر ابن كثير الآية بكون أن الرجال قوامون على النساء، أي أن الرجل قيم على المرأة فهو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت، ومعنى (بما فضل الله بعضهم على بعض) أن الرجال أفضل من النساء، ولهذا اختص الرجال بالنبوة دون النساء وكذا الملك، استنادا على قول المصطفى الحبيب رسول الله (ص): "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" – رواه البخاري -. (واللاتي تخافون نشوزهن) فعظوهن وخوفوهن من عقاب الله واهجروهن أي ابتعدوا عنهن في الفراش، وإذا لم يتعظن ففي مقدور الرجال ضربهن ضربا غير مبرح، كما أن وجوب طاعة الزوجة للزوج يظهر في قول الرسول (ص): "فإنهن عوان عندكم بمنزلة العبد والأسير وعليها تمكينه من الإستمتاع بها إذا طلب ذلك". 2) الزواج والحقوق الإجتماعية: أ_ الزواج: إن تعريف الزواج في المذاهب الأربعة يتفق من حيث المعنى وإن اختلفت الألفاظ، فالحنفية عرف بعضهم النكاح بأنه عقد يفيد ملك المتعة قصدا، والشافعية عرف بعضهم النكاح بأنه عقد يتضمن ملك وطء بلفظ إنكاح أو تزويج، أما المالكية فعرفوا النكاح بكونه عقد يقوم على مجرد التلذذ بآدمية، ومنه يتبين أن الزواج يقوم على حق الرجل في الإستمتاع الجنسي بالمرأة. وهنا جمهور الفقهاء يقول بأن النفقة لا تجوز للمرأة المريضة التي لا تمتع، أما الحنفية فيقرون بجواز النفقة للمرأة المحبوسة في المنزل ولو كانت مريضة. ومن أهم أركان الزواج لدى الفكر السلفي هو الولي، أي تولي الرجل أمر المرأة حتى في زواجها، وكذا اعتبار المهر كبيع وشراء فيصح الزواج إذا قالت للرجل "بعت نفسي منك بكذا، ناوية بك الزواج، وقبل هو". ب_ الطلاق: إذا اتفق على كون الدخول لمؤسسة الزواج حق للمرأة مصداقا لقول الرسول (ص): "لا تزوج الثيب حتى تستأمر ولا تزوج البكر حتى تستأذن وإذنها صمتها" – رواه الشيخان - فإن الخروج من هذه المؤسسة بيد الرجل وحده دون المرأة نظرا لأن كل الآيات نسبت الطلاق للرجل كقوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف) – البقرة 231 - وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن)، لكن يمكن للرجل منح المرأة حق تطليق نفسها، إلا أن هذا الحق لا يكرس المساواة إذ أنه يبقى عطاء من الرجل. ج_ الحجاب: أما فيما يتعلق بالحجاب فقد اعتبر الحنابلة وبعض الشافعية أن سائر جسد المرأة هو عورة وجب ستره إلا عند الضرورة كالطبيب للعلاج والخاطب للزواج والشهادة أمام القضاء، أما الحنفية والمالكية وبعض الشافعية أقروا بكشف الوجه والكفين إلا إذا كانا سيثيران فتنة لجمالهما الطبيعي أو عليهما زينة وحلي وجب سترهما فأصبحا عورة. د_ مصافحة النساء: حتى في مصافحة النساء الأجنبيات، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي (ص) يبايع النساء بالكلام وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها" (أي يملك نكاحها). ه_ تعدد الزوجات: يرى مفكرو الفكر الإسلامي السلفي أن الأصل في الإسلام هو تعدد الزوجات لقوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) – النساء 30 - لكن النقاش كان محتدا حول ما معنى العدل في الآية؟ فقال أحد مفكري الإسلام السلفي المعاصر أن العدل هنا ليس ماديا ومعنويا أي مطلقا، وإنما هو عدل مادي يستطيعه المسلم كالمساواة بين الزوجات في المأكل والملبس والمسكن والمبيت. وعموما فجمهور الفقهاء اتفقوا على تعدد الزوجات حسب الآية السابقة وكون أن زهاد الصحابة رضي الله عنهم كانوا كثيري الزوجات والسراري وكثيري النكاح. 3) الحقوق السياسية: يرى الفقهاء القدامى أن تولي الرئاسة ليس من حق المرأة لأنه يمكنها من الولاية على الرجال، وذلك استنادا لآية القوامة وقول الرسول (ص): "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، وقد رد الشيخ المودودي على من يعترض على أنه ما دخل آية القوامة التي لا علاقة لها بالسياسة بل بالأسرة؟ قائلا: "إن القرءان لم يقيد قوامة الرجال على النساء بالبيوت ولم يأت بكلمة (في البيوت) في الآية، مما لا يمكن بدونه أن يحصر الحكم في دائرة الحياة العائلية، ثم هبنا نقبل منكم هذا القول فنسألكم لم لم يجعلها الله تعالى قواما في البيت بل وضعها موضع القنوت؟ أأنتم تريدون أن تخرجوها من مقام القنوت إلى منزلة القوامة على جميع البيوت؟" (أي على جميع الدولة). 4) الحقوق القانونية: أعطى الفقهاء السلفيون حقوقا قانونية للمرأة أقل من الرجل استنادا على الآية الكريمة: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) – البقرة 282 - وقد فسرها المفكرون القدامى بكون أن المرأتان تقومان مقام الرجل الواحد لنقصان عقلها، كما قال مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن الرسول (ص) قال: "يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الإستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال تكثرن اللعن وتكفرن العشير أما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن، قالت: يا رسول الله ما نقصان العقل والدين؟ قال: نقصان عقلها فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل وتمكث الليالي لا تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين" وهذه الشهادة تتعلق بالأموال فقط، ودون ذلك لا تقبل شهادة المرأة في الحدود كالزنا، القذف والسرقة، الحرابة، البغي وشرب الخمر. 5) الحقوق الإقتصادية: تعرف المرأة حقوقا مالية متعددة متفق عليها لدى الفقهاء القدامى والجدد، فلها التصرف في مهرها وفي مالها المكتسب من ميراثها ولها حق التجارة والذمة المالية المستقلة. إلا أنها في الميراث لها نصف ما للرجل حيث قال تعالى في سورة النساء الآية 11: ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) وذلك لأن – حسب تفسير ابن كثير - الرجل يحتاج إلى مؤونة النفقة والكلفة ومعاناة التجارة والتكسب وتحمل المشاق لذلك يأخذ ضعف ما تأخذه المرأة. وفي وجه آخر، فإن سبب تضعيف حصة الرجل هي مسألة القوامة التي تفيد تحمل الرجل لمسؤولية المرأة من أكل وشرب ومسكن وتطبيب، لذلك فحقه المالي تأخذ المرأة حقها منه، وفي المقابل لها حرية التصرف في ميراثها دون أن تستوجب النفقة عليها. الفقرة الثانية: حقوق المرأة في الحركات الإسلامية الحديثة تتفق الحركات الإسلامية الحديثة في موضوع حقوق المرأة عموما، وهذا لا يمنع من وجود اختلافات شاسعة في بعض القضايا، فنجد الإختلاف في تنظيم واحد كالإخوان المسلمين، قائم بين المفكرين القدامى مثل حسن البنا المقتربين من آراء الفقهاء السلفيين، والمفكرين المحدثين المتأثرين ب 'العلمانية' والحضارة الغربية وتطور الفكر الإنساني. وأهم الحركات الإسلامية التي سندرج آراءها بالإضافة إلى الإخوان المسلمين بمصر، الجماعة الإسلامية في تونس وقاداتها المتواجدين في السودان ودول أخرى. 1) القوامة: يتفق مفكرو الحركات الإسلامية الحديثة على كون أن الريادة للرجل، إلا أن التفاسير والمبررات تختلف عن الفكر السلفي حيث يفسر حسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين بمصر آية القوامة بأن التعاون بين الجنسين لم يجعله الإسلام جافا، بل قائما على الحب والتسامح والتقدير، فعلى المرأة أن تكون طائعة وعلى الرجل أن يكون رحيما ولا بد للشركة من مدير لتسيير الأمور، وقد جعل الإسلام الإدارة للرجل لأنه أكمل عقلا من المرأة، كما يرجع سيد قطب أحد مفكري الإخوان المسلمين سبب قوامة الرجل على المرأة في كونها لا تستطيع المحافظة على كيان الأسرة من التفكك في مهب النزوات الطارئة وصيانة العش المتعلق بحقوق الأطفال، ومن الملاحظ أنهما أخذا بالفكر السلفي، لكن مبرراتهما تنقص للإثبات العلمي أو الواقعي مما يدل على تأثرهما بالفقهاء القدامى دون النظر إلى الواقع الحديث الذي يعيشانه. كما أن الضرب غير المبرح للمرأة في حالة نشوزها يعتبر جورا على كرامتها، فإن رأى الرجل حالة النشوز في زوجته يمكن أن لا تعتبرها هي كذلك، إضافة إلى أن الضرب لا يأتي إلا بعد استنفاذ الوسائل السلمية، مثل الرجل الذي يتحجج إذا ضرب زوجته بأنه وعظها ونصحها لكنها لم تستقم كما ارتأى الأستاذ محمد قطب. وتبقى هذه الآراء مندرجة في خانة اللامساواة كما صاغها الإخوان المسلمون، لأن الرجل هو الذي يقيم تصرف المرأة وله تقرير عقابها، علما أنهما شريكين في المؤسسة الزوجية، والأصل هو أن حكم النزاع يجب أن يكون محايدا وليس طرفا. 2) الحقوق السياسية: في قضية الإنتخاب يرى حسن البنا أن المرأة لا يحق لها أن تنتخب ولا أن تولى مهام السلطة أو تشتغل في المحاماة، ودليله على ذلك هو كونها ناقصة عقل، إضافة إلى أن الرجال وهم أكمل عقلا لم يحسنوا أداء هذه الحقوق، فكيف للمرأة أن تتقنها؟ لكن الإخوان المسلمين في مصر أصدروا سنة 1993 كتيبا بعنوان "المرأة المسلمة في المجتمع المسلم الشورى وتعدد الأحزاب" الذي سمح للمرأة بالإنتخاب وولوج المجالس النيابية مع التحفظ على توليها القضاء، وجاء هذا التغير في الرأي نتيجة ما أعطاه الشيخ محمد الغزالي والشيخ القرضاوي من التفسير المتمثل في كون أن عدد النساء اللائي يرشحن للمجلس النيابي سيظل محدودا بالمقارنة مع عدد الرجال، مما يمكن القول معه أن المرأة لا تصل إلى حد الولاية على الرجال، ومن جهة أخرى فإن آية القوامة تتعلق بالأسرة داخل البيت وليس هناك ما يمنع ولاية المرأة لبعض الرجال خارج الأسرة، بل الممنوع هو أن تولى على القوم ككل، وهذا ما يعنيه الحديث الشريف "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، ولو أن الحديث كان تعليقا على حالة خاصة، إذ لا يجب إطلاقه إن كان من ورائه جلب الفتن في عصرنا هذا. 3) الحقوق القانونية: بالنسبة للشهادة فإن الفكر الإسلامي الحديث يتفق مع الفكر السلفي، أي يعتد بشهادة المرأة في قضايا الأموال على النصف من شهادة الرجل ولا يجوز في الدم والحدود، ولا يوجد اختلاف على مستوى التبرير الذي يتبنى ضعف عقل المرأة وهشاشة عاطفتها، إذ لا يرون الفقهاء المستحدثون في أمر الشهادة انتقاصا لقدر المرأة، بل يرون فيه ضمانا للشهادة كما جاء على لسان المفكر محمود عبد الحميد محمد: "أما موضوع الشهادة وجعل شهادة امرأتين مقابل شهادة رجل واحد، فإن هذا التشريع ليس فيه الإتجاه إلى تحقير المرأة، وإنما هو ضمان لسلامة الشهادة التي يترتب عليها بعض الحقوق.. ولأن الإسلام ينزع دائما في كل تشريعاته إلى تحقيق العدالة، فقد حرص على أن تكون الشهادة بحيث لا يقربها ما قد يؤثر فيها بعض التأثير، ولما كانت النساء عاطفيات بحكم طبيعة الأمومة فيهن وسريعات التأثر.. فإن هذه النزعة العاطفية.. قد تخرج بالشهادة عن الوضع الصحيح". 4) تعدد الزوجات: إن معظم الحركات الإسلامية لا تعتبر تعدد الزوجات أمرا مطلوبا اليوم، بل تفضل الزواج بواحدة خلافا للسلفيين حيث يقول محمد قطب إن الأصل في الزواج هو واحدة، فحسب الآية المتعلقة بالتعدد نجد أن القسط والعدل غير مضمون التحقيق، أما عن الدكتور حسن الترابي زعيم الجهة القومية الإسلامية بالسودان فإنه يقول بعدم إمكانية إغفال التعدد وإقرار وحدانية الزواج لأنه نص قرءاني صريح. ومنه نجد أن المعاصرين انساقوا مع القدامى في كون أن العدل في الآية هو مادي يمكن بصعوبة تحقيقه مما يجعله قائما. 5) الحقوق المدنية: تعرف الحركات الإسلامية الحديثة ثلاث آراء حول خروج المرأة؛ فمنهم من وافق على خروجها والمشاركة في بناء المجتمع شريطة لبس الزي 'الإسلامي'، وهناك من ادعى بقاءها في البيت إذ هو الأفضل لها من أي شيء آخر، وهناك من يقول بمشاركتها بناء على حاجة التنظيمات الإسلامية السياسية لهذه المشاركة كما قال الغنوشي: "تحتاج الحركة الإسلامية في الميدان السياسي والثقافي والإجتماعي والنقابي إلى إبراز زعامات نسائية يخضن معترك الميدان السياسي والإجتماعي والنقابي، متسلحات بخلق الإسلام"، كما أنه لايحرم الإختلاط إذ يعتقد أنه كان شائعا في العهد الأول، فلا عزل بين الرجال والنساء في الصلاة ومجالس العلم والأسواق وساحات الجهاد ومجالس التشاور. بينما الموقف الذي يقول ببقاء المرأة بدارها تبناه الإمام حسن البنا، حيث أكد على أن الإسلام يقف من هذه المسألة موقفا محددا فحرم إبداء الزينة والخلوة والإختلاط، ولا يكون الخروج إلا للضرورة مع الحفاظ على وقارها، فمهمة المرأة هي أن تكون زوجة صالحة وأما رحيمة تلتزم بيتها وتدير شؤون منزلها وتصلح من شأن زوجها وأولادها. وبالنسبة للزي فقد أقر المستحدثون بكونه يجب أن يكون واسعا غير شفاف ومغطيا لجميع أنحاء الجسم. 6) الحقوق الإقتصادية: لم يختلف فقهاء الإسلام المحدثين في حق المرأة في العمل، لكن ما طبيعة هذا العمل؟ لقد أكدوا على أن عملها يتوجب أن يكون الأمومة، أما الأعمال الأخرى فلا تمارس إلا للضرورة أو لحاجة المجتمع لوظائف معينة ينجح النساء في القيام بها. فمحمد قطب لا يجعل حق العمل للمرأة شبهة نظرا لأن المجتمع يتطلب مهنا تمارسها النساء كالممرضة والطبيبة والمعلمات... شرط ألا تأثر هذه الوظيفة على عملها داخل البيت باعتباره العمل الأساسي من رعاية للمنزل والزوج والأبناء. أما في مسألة الإرث (للذكر حظ الأنثيين) فإن التفسير الرائج والحجة المنتشرة بين المفكرين الإسلاميين هو الذي جاء به محمد قطب حيث قال: "يقول الإسلام في الإرث (للذكر حظ الأنثيين..)، ذلك حق ولكنه يجعل الرجل هو المكلف بالإنفاق ولا يتطلب من المرأة أن تنفق شيئا من مالها على غير نفسها وزينتها، فأين العلم الذي يزعمه دعاة المساواة المطلقة؟ إن المسألة مسألة حساب لا عواطف ولا ادعاء، تأخذ المرأة كمجموعة ثلث الثروة الموروثة لتنفقها على نفسها، ويأخذ الرجل ثلث الثروة لينفقها أولا على زوجه وثانيا على أسرته وأولاده فأيهما نصيبه أكبر من الآخر بمنطق الحساب والأرقام؟". لكن هناك من الفقهاء من أقر بالمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة وما جاء في الشرع من أحكام في حق المرأة، فإن قدرها لا يهبط ولا يتغير جوهره التي تمثله مع الرجل على السواء في هذا الكون. من خلال هذا المحور يمكننا أن نخلص إلى نقط اتفاق واختلاف بين الحركتين الإسلاميتين السلفية والحديثة: _ يتفق المستحدثون مع السلفيين على عدم المساواة بين الرجل والمرأة، إلا أن تبريراتهم تعتمد على دعاوى جديدة لم يطرحها الفكر السلفي مما يؤكد الحاجة الماسة إلى إعمال الفكر والإجتهاد. _ المفكرون الجدد لا يؤيدون تعدد الزوجات ويفضلون زواج الواحدة، لكن لم يجرؤوا على المطالبة بالحد منه أو إلغائه صراحة عن طريق إصدار قوانين تفيد ذلك. _ حظي حق المرأة في العمل بنقاش واهتمام كبيرين لدي المستحدثين نظرا للواقع في مجتمعاتنا الحديثة، الشيء الذي لم يسنح للتقليديين الخوض فيه بعمق نظرا لطبيعة مجتمعهم آنذاك. _ لجوء بعض مفكري الفكر الإسلامي الحديث إلى التعميم والإنشاء هربا من مجابهة القضايا بوضوح. المحور الثالث: حقوق المرأة في الفقه الإسلامي هل المساواة تعني التساوي الكامل بين البشر في الحقوق بغض النظر عن التساوي في الواجبات؟ أم هي تعني المساواة أمام القانون بصرف النظر عن التكافؤ والغبن في واقع الحياة؟ أم أن المساواة هي سلسلة تترابط فيها كل من الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص؟ قال الله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وقال تعالى أيضا: (ولقد كرمنا بني آدم)، كما قال الرسول (ص): "إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى". حيث ساوى الإسلام البشر كلهم في الكرامة الإنسانية، كما ساوى الإسلام البشر في جزاء أعمالهم، يقول سبحانه: (ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره). ومنه يتضح أن مبدأ الإسلام هو المساواة بين جميع أبناء البشر ذكرا وأنثى دونما أي تمييز، وتتحقق هذه المساواة في ربط المساواة في الحقوق بالمساواة في الواجبات حيث يقول عز وجل: (ولكل درجات مما عملوا ويوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون). الفقرة الأولى: الميراث والقوامة 1) الميراث: إن الإرث في الإسلام يعبر عن المساواة وليس العكس، حيث يرتكز على التساوي في الحقوق والواجبات إذ أن الإسلام حمل الرجل من الواجبات ما لم يحمل بها المرأة، ومن ثم فالمساواة أن ينال الإنسان من الحقوق ما يتساوى مع واجباته وإلا كان عكس ذلك ظلما وإخلالا بمبدإ المساواة. ومسؤولية الرجل في الإنفاق ترتبط بقدراته حيث يستطيع السعي والسفر وتكبد المشاق التي لا تستطيع المرأة تحملها نظرا لطبيعتها الجسمانية الهشة، زيادة على ما تعرفه من حمل وولادة واللذان يمنعانها من الكد. 2) القوامة: يجب أن تأخذ قضية القوامة بمفهوم المساواة في الإسلام، وتأخذ أيضا مفهوم التكليف لا التشريف، حيث إن التكليف الذي لحق الرجل من تحمل مسؤولية النفقة يجب أن يقابله حق قال تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)، والتفاضل هنا لا يدل على – كما يظن البعض - أفضلية الرجل، وإنما يدل على ما يميز كل منهما من قدرات تساعد على بناء الأسرة. أما فيما يخص الطلاق فسبب إسناده للرجل هو الإنفاق وما يدفعه من مهر، والدليل على ذلك هو عندما تطلب المرأة الفسخ تكون ملزمة بأن تعيد ما أنفقه الرجل، لكن هناك من يقول بأن المجتمع قد تغير وأصبحت المرأة قادرة على العمل والإنفاق كالرجل، والجواب هو العودة إلى المساواة في الإسلام إذ قد تساوت واجبات المرأة بالرجل، والحل هو الآية الكريمة: (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما)، وإن لم يتفقا فعليهما بحكم من أهله وحكم من أهلها كما بين ذلك القرءان الكريم. الفقرة الثانية: الشهادة والولاية والزواج 1) الشهادة: لا يمكن التعلل بكون أن المرأة ناقصة للعقل، لذا تعتبر شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد، لأنه في المجتمع نجد أن المرأة تكون أذكى أحيانا كاستيعاب الطالبة لدروسها في الجامعة أكثر من زملائها الذكور، وهذا التعليل الذي أقره السلفيون معارض للواقع وللقرءان حيث يتجاهلون أن الآية الكريمة تنص على أن الغرض من وجود المرأة الأخرى هو للتذكير، لأن المرأة بحكم نشأتها ونوع ميولاتها بعيدة عن أمور القضاء التي لطالما ولا زال الرجال غالبا هم المشرفين عليها، إضافة إلى أن الخطأ والنسيان ليسا من طبيعة المرأة في لبها كما يؤكد ذلك الشيخ محمد حسن فضل الله والدكتور محمد الجابري، وإنما يعودان إلى الوضعية الإجتماعية والتعليمية واهتمامات المرأة مستدلين بذلك كوننا نجد نساء حكيمات رزينات راشدات عن كثير من الرجال في مجتمعنا الحالي. 2) الولاية: حاول السلفيون نقل قضية القوامة في التنظيم الأسري إلى الحياة العامة في إدارة المجتمع، حيث اعتبر ذلك الشيخ راشد الغنوشي شططا لم يذهب إليه أحد من العلماء الإسلاميين المحدثين والقدامى، كما يرى الشيخ محمد حسين فضل الله أن القوامة لا تتجاوز نطاق الأسرة، أما قول الرسول (ص): "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" لا يعتبره الغنوشي إلا تعليقا على حادثة موت كسرى وتولي ابنته العرش الفارسي، واللفظ العام لا يعني أن الحكم عام، وفوق ذلك فسند الحديث ضعيف لا يجوز أن يستدل به كدليل ليلغي المساواة في الإسلام. وبالعودة إلى القرءان الكريم، نجد أن الله عز وجل قد جعل الرجل والمرأة مستخلفين في الأرض وهي مدعوة ضمن الأمة لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وهي بذلك صاحبة ولاية كالرجل، يقول الله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، ويقول الرسول صلوات الله عليه: "النساء شقائق الرجال لهن ما لهم وعليهن ما عليهم". 3) الزواج: أ_ تعدد الزوجات: وجهة نظر الإسلام تكاد تحرم التعدد، لأن الله تعالى اشترط العدل ثم أكد بأنهم لن يستطيعوه ولوا حرصوا، وهذا ما يدل على تقنين التعدد ليلا يتم الإجحاف في حق المرأة وذلك دون توخي تحريمه قطعا كالغرب، نظرا لأنه يكون ضروريا في حالات معينة كرعاية اليتامى للأخ المتوفي أو لظروف صحية قاهرة، كما أن التعدد أصبح محدودا في مجتمعنا وذلك للظروف الإقتصادية التي لا تسمح به، بل أصبح الشباب عاجزين عن الزواج بواحدةَ؟؟ ب_ الحرية في الزواج: إن القانون الدولي في المادة 16 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أقر بحرية المرأة والرجل الزواج دون قيد، لكن الإسلام وبنص قرآني يحرم الزواج من مشرك أو مشركة حيث يتعارض مع المادة السابقة، يقول الله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون). وليس هناك نص في القرءان الكريم يحرم زواج مسلمة من كتابي، فعند بلوغ سن الرشد يصطفي الرجل زوجته وتختار المرأة بعلها بالتراضي شريطة أن لا يكون أحدهما مشركا. هناك من ينظر إلى موضوع حقوق المرأة من زاوية أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وهذا سوف يعيدنا إلى قضية المواطنة المتساوية في ظل 'الدولة الإسلامية'، وهي قضية قد سار الإجتهاد فيها خطوات واسعة في اتجاه المواطنة المتساوية، والتي تنص عليها أغلب الدساتير العربية والإسلامية ابتداء من صحيفة الرسول صلى الله عليه أفضل الصلاة والسلام لأول دولة إسلامية في التاريخ. إن أرقى ما يمكن أن نختم به بحثنا المتواضع، هو ما أخرجه الدكتور القاري من قلمه من حقائق ترتبط بإشكالية حقوق المرأة على مر العصور: إن "الفقهاء الأوائل اختاروا النصوص الملائمة لهم، أي تلك التي تلبي حاجات عصرهم وتناسب طاقة مجتمعاتهم وأقاموا عليها بناءهم الإيديولوجي، فهم كانوا أبناء زمانهم متسقين معه عارفين باجتماعه، ولو وجدوا في عصرنا هذا لما اختاروا نفس تلكم النصوص. إن أس المشكلة يكمن في الخطإ الشائع أن النسخ أبدي وأنه يمثل إلغاء نهائيا للنصوص المنسوخة، وقد ترتبت على هذه الفرضية الخاطئة نتائج في غاية الخطورة: الأولى: إن العقل المسلم ظل سجينا في أسوار نصوص تم اختيارها تاريخيا، هذا السجن أدى لإضعاف الحس الإجتماعي للفقهاء ومن سار على دربهم من المنظرين الدينيين الذين تجاهلوا تبدل الدنيا وظلوا عاكفين على النصوص. الثانية: إن جميع الحركات الإسلامية المعاصرة تقع أسيرة هذا النموذج التاريخي، فهي تعتمد اعتمادا كاملا على الفقه الكلاسيكي من غير تعديل يذكر، اللهم إلا تعديلا فرضه الواقع مثل اختفاء الرق وانتشار التعليم الحديث. الثالثة: إن النصوص المنسوخة تحتوي على أسس بناء إيديولوجي كامل يقوم على السلام وعدم استخدام العنف في الدعوة للدين، أي الدعوة بالتي هي أحسن، ويقوم على الديمقراطية في الحكم، وعلى العدالة الإجتماعية في الإقتصاد، وعلى حرية العقيدة وحرية التنظيم والمعارضة، وعلى المساواة الإجتماعية. هذا الكنز المعرفي الهائل هو رصيدنا المتلائم مع عصرنا وعالمنا الذي نعيش فيه، وهذا ما أبانه المجدد الإسلامي محمود محمد طه، بيد أن تجديده ما زال يرقد غير ملتفت إليه بالقدر الكافي حتى من قبل أنصار التجديد، مما يعتبر إهدارا معرفيا هائلا ". بقلم: نور أوعلي طالب باحث بماستر القانون ووسائل الإعلام بتطوان