نزل الوحي القرآني بلسان عربي في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي ليخاطب الإنسانية جمعاء على اختلاف ألسنتها. وقد انتشرت رسالة الإسلام بعد ذلك لتعم أقطار الأرض وتصبح المرجع الروحي للمسلمين العرب والعجم. ويستعين المسلمون العجم الذين لا يجيدون العربية بترجمات معاني القرآن للاطلاع على آياته ومحاولة فهم معانيها. لكن صعوبة ترجمة الآيات القرآنية التي أُعطي لها أكثر من تفسير تظهر جليا في بعض الترجمات، إذ يجد المترجم نفسه أمام إشكالية اختيار أحد التأويلات. وقد يؤدي اختيار المترجم إما باتباع ترجمة حرفية أو اعتماد أحد تأويلات المفسرينإلى إبعاد النص القرآني عن معناه الحقيقي وتقديم معنى مختلف تماما عن المعنى القرآني. وتظهر جسامة هذا الأمر في اعتماد القارئ الأجنبي على تلك الترجمة لتشكيل صورة عن الدين الإسلامي ومضامين رسالته. ومن ثم يمكن أن تنقل بعض الترجمات مفاهيم خاطئة وأفكار مغلوطة عن الإسلام في علاقته بمجموعة من القضايا منها قضايا النساء. وفيما يتعلق بقضايا النساء التي نزل الوحي القرآني لمعالجتها، ترد مفاهيم كثيرة أُسيئت ترجمتها عبر نقل حرفي للمصطلح القرآني الذي اجتهد المفسرون في تأويله، وحصره في معنى واحد فقط. ونقدم في هذا المقال مصطلح "واضربوهن" (النساء:34) الذي قدمته ترجمات كثيرة بمعناه اللغوي الأولوالحرفي. ويكون لزاما في البداية على المترجم دون شك العودة إلىالمعنى اللغوي للمصطلح القرآني وكذا مختلف التفاسير والتأويلات التي أُعطيت له قصد ترجمته. فكيف أول المفسرون هذا المصطلح؟ وكيف تُرجم في محاولات ترجمة معاني القرآنالمنشورة؟ ورد مصطلح "واضربوهن" في قول الله تعالى في سورة النساء: " 0لرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى 0لنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ 0للَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ فَ0لصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰت ٌحافِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ 0للَّهُ وَ0لَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ0هْجُرُوهُنَّ فِي 0لْمَضَاجِعِ وَ0ضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ 0للَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً"[1].كما ورد المصطلح من خلال اشتقاقاته في مواضع أخرى بمعاني مختلفة مثل قول اللهجل وعلا: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ"[2] (بمعنى أعطى مثلا)؛ "وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ"[3] (أي ضرب الشيء بالعصا)؛ "ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا"[4] (بمعنى قضى الله عليهم الذلة)؛ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ(بمعنىقطعوا الرقاب)[5].وعليه فإن تعدد المعاني اللغوية يدفع المترجم إلى الاستعانة بالتفاسير الدينية لفهم أفضل للمصطلح وتحديد معناه الدقيق في الآية الأولى. اجتمعت عدة تفاسير تراثية على معنى الضرب بالمفهوم الفيزيائي، إذ ورد مثلا في تفسير الطبري أن المقصود في الآية 34 من سورة النساء هو الضرب غير المبرح الذي لا يُكسر فيه عظموالذي أباح الله لزوج الناشز[6]. وعلى نفس المنوال اعتبر الزمخشري في تفسيره أن المصطلح يحيل علىالضرب غير المبرح الذي لا يجرح ولا يكسر ويجتنب الوجه عقابا على نشوز المرأة بعد عدم نجاعة الوعظ والهجران[7]، كما جاء في تفسير الرازي أنه الضرب الذي لا يفضي إلى الهلاك[8]. أما في تفسير ابن عاشور، فإن المصطلح يعني الضرب المترتب عن العصيان، إلا أن المفسر يوضح أن "الضرب خطير وتحديده عسير" ويدعو إلى ضرورة تعيين حد فيه لكي لا يُتجاوز مخافة وقوع ضرر[9]. وفي مقابل هذه التفاسير، أخضعت بعض الكتابات المعاصرة مفهوم "الضرب" في هذه الآية للدراسة والتحليل مثلما جاء في كتاب "القرآن والنساء قراءة للتحرر"[10]للدكتورة أسماء المرابط حيث تناولت سياق نزول الآية لفهم المصطلحات الواردة فيها، واستحضرت السيرة النبوية التي تبين رفض النبي معاملة النساء معاملة سيئة وآيات أخرى في العلاقات الزوجية تعزز هذا الموقف النبوي. أما فيما يخص تأويل المصطلح في هذه الدراسة، فإن فعل الضرب لا يتجاوز بعدهالرمزي ومعانيه الدالة على نهج طريقة أخرى في التعامل مع النساء حينما تتحرك الدوافع الداخلية للعنف البشري. ومن ثم تطرح الكاتبة معنى آخر ل"واضربوهن" يتجلى في "الهجر في المضجع" وهو ما ينسجم في نظر الكاتبة مع المعنى العام للرسالة القرآنية وأفعال وأقوال النبي (ص). وفي دراسة أخرى لهذا المصطلح، توقف الكاتب الدكتور محمد شحرور في حديثه عن القوامة عند هذا المصطلح الذي استبعد أن يحمل معنى الضرب لقول الرسول (ص) "لا تضربوا إماء الله"[11]. ويشرحالكاتب معنى هذا المصطلح في سياق الحديث عن نشوز المرأة وتعسفها في ممارسة القوامة، ومعالجة هذا النشوز من خلال ثلاثةحلول يتمثل الحل الأول في النصيحة والثاني في الهجر والثالث في "الضرب على يدها" عبر سحب القوامة منها. ويسترسل في شرحه بأن الضرب في اللسان العربي يعني أيضا ضرب الأمثال والضرب في الأرض واتخاذ التدابير اللازمة كالقول: ضربت الدولة بيد من حديد على المتلاعبين بالأسعار[12]. وبعد الإحاطة بما جاءت به بعض التفاسير والدراسات في مصطلح "واضربوهن"، سنعرج عند بعض الترجمات الفرنسية والإنجليزية للمصطلح التي حاولت تقريب المعنى للقارئ الأجنبي. فهذه الترجمات تعكس فهم المترجم لمعاني الآيات القرآنية. وتُظهر معظم الترجمات المدروسة في هذا المقال اعتمادها على المعنى الأول الذي ورد في التفاسير التراثية. ففي ترجمة "صحيح إنترناشيونال"في نسختها الثانية (2004) الصادرة باللغة الإنجليزيةوالتي أنجزتها ثلاث مسلمات أمريكيات اعتنقن الإسلام، تُرجم المصطلح بمقابله الأول (Strike). لكن أضيفت في الحاشية ملاحظة مفادها أن هذا الفعل حل أخير وأنه لا يجب ضرب الوجه أو إلحاق الضرر بالجسد.وتوضح مقدمة الترجمة أنها تروم في المجمل تحقيق أهداف دعوية لغير المسلمين، وأنها اعتمدت على كتب تفاسير عديدة وكتب النحو أيضا. إلا أنها تبرز عدم اعتمادها على المعاجم اللغوية المعاصرة لأن معنى بعض المفاهيم تغير مع مرور الوقت. أما في ترجمة يوسف علي (1934)، وهو عالم هندي مسلم، فهو ينقل نفس معنى الضرب (beat ) ويضيف بين قوسين كلمة "بلطف" (lightly)[13] وهو ما يبين رغبته في تقديم توضيح بناء على تأويل المفسرين السالف الذكر دون وجود لهذه المعلومة في النص القرآني.وبنفس الطريقة يترجم محمد محسن خان، طبيب مسلم باكستاني، بمساعدة تقي الدين الهلالي، مصطلح "واضربوهن" مضيفا أيضا توضيحا وجملة شرطية بين قوسين مفادهما (بلطف، إذا كان مجديا). وقد اعتمد في ترجمته على تفاسير الطبري والقرطبي وابن كثير.وقد تعرضت الكثير من ترجمات معاني القرآن للنقد لأسباب مختلفة من بينها أنها تخدم الجهة الممولة لمشروع الترجمة أو ركاكة اللغة أو عدم الدقة أو تأثرها بتوجه المترجم الإيديولوجي. ولا شك أن الترجمة تتأثر بالأهداف المتوخاة منها، لذلك يضيف مترجمون شروحات تنير فهم القارئ. ومن جهة أخرى، تقترح الدكتورة زينب عبد العزيز، أستاذة الحضارة الفرنسية في جامعة الأزهر، في ترجمتهالمعاني القرآن باللغة الفرنسية[14](2013) مقابلا مختلفا عما سبق يتمثل في (corrigez-les) أي أصلحوهن أو صوّبوهن. وتوضح الدكتورة زينب في مقدمة الكتاب أنها اعتمدتفي ترجمتها على كتب التفسير، وخصوصا تفسيرَيْ القرطبي والرازي،والمعاجم اللغوية ومعاجم المصطلحات القرآنية. وعليه يتبين أن المترجمة تفادت استعمال فعل "ضرب" ولاسيماأنها سعت قدر المستطاع إلى تفادي الحواشي والشروحات الجانبية. وبالرجوع إلى تفسير القرطبي[15]، فإنه لا يخرج عن التفاسير التراثية باعتبار مصطلح "واضربوهن" يعني "ضرب الأدب غير المبرح"، إلا أنه أضاف بأن "المقصود منه الصلاح لا غير". ويبدو أن المترجمة اعتمدت على هذا التفسير الأخير في اختيار مقابل أقل حدة من مصطلح "ضرب" في اللغة الفرنسية. فرغم أن التعاريف المُقدمة لفعل corriger في المعجم اللغوي الفرنسي تُضمر معنى العقاب الجسدي، إلا أن المعاني في المداخل الأولى تحيل على تصحيح الخطإ. ولا شك أن هذا الاختيار أخذ بعين الاعتبار عدم الاعتماد على الحواشي أو شروح هامشية تجيب عن التساؤلات التي يمكن أن تخطر بذهن القارئ الأجنبي. وختاما، يجد المترجم نفسه أمام تفاسير كثيرة ومختلفة ومتباينة أحيانا تُصعب عليه تحديد الترجمة المناسبة، ولاسيما في مثل هذه المصطلحات القرآنية التي قد تترتب عنها أحكام خاطئة عن وضع النساء في الإسلام. وتبقى ترجمة معاني المصطلح محاولة لتقريب القارئ من المعنى دون إمكانية الإحاطة به كاملا. فاجتهادات بعض الباحثين المعاصرين في دراسة هذه المصطلحات تأخذ بعين الاعتبار القيم الأخلاقية التي جاء الإسلام لإحيائها بين البشر والدفاع عنها، وكذا السيرة النبوية التي تروي رحمة النبي (ص) وتعامله الإنساني مع الناس عموما والنساء خصوصا. ويمكن لنفس المعطى أن يكون وراء تأويل الفقهاء "واضربوهن" باعتباره ضربا غير مبرح وغير مؤذ. وتُعد اجتهادات السلف مهمة جدا في فهم معاني هذه المصطلحات، إلا أن هذا لا يمنع العلماء والباحثين المعاصرين من متابعة مسيرة البحث التي بدأها هؤلاء السلف للكشف عن معاني مستترة وقيم أخلاقية تفيض بها المصطلحات القرآنية. وعليه فإن هذه التفاسير والدراسات حجر الزاوية الذي تنبني عليه ترجمات معاني المصطلحات القرآنية. *بشرى لغزالي: الرابطة المحمدية للعلماء