قنصلية المملكة بكورسيكا تحتفي بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    المنتخب المغربي للفتيان يسحق كاليدونيا الجديدة ويعزز آمال التأهل    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    الركراكي يوجه الدعوة لآيت بودلال لتعويض غياب نايف أكرد    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    في العودة إلى العتاد النقدي القديم المطلوب للتغيير    التجمع الوطني للأحرار بسوس ماسة يتفاعل مع القرار التاريخي لمجلس الأمن حول الصحراء المغربية    أولمبيك الدشيرة يقسو على حسنية أكادير في ديربي سوس    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    بعد حكيمي.. إصابة أكرد تربك الركراكي وتضعف جدار الأسود قبل المونديال الإفريقي    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ترجمات القرآن الكريم إلى الإسبانية: إشكاليات وراء العناوين
نشر في هسبريس يوم 15 - 02 - 2018

يسعى هذا المقال إلى بسط نقطة معينة، تتعلق بالعناوين التي وضعها مترجمو القرآن الكريم لتسمية عملهم، والتي ليست أكثر من نقطة ضمن مجموعة من النقاط التي يلزم الإحاطة بها في أية دراسة علمية لترجمة القرآن الكريم وفق آليات علم الترجمة المعاصر، من قبيل المكونات النصية والنصية الموازية في إطار ما يعرف بتحليل البنيات الصغرى والكبرى في الترجمة.
ومن البديهي أن التطرق إلى نقطة معينة وإغفال باقي المحاور من شأنه أن يقدم رؤية مبتسرة وغير كاملة حول الموضوع المطروق، غير أننا اخترنا هذه النقطة بالذات لكونها تطرح إشكالية عميقة من شأنها قد تكون موضع اهتمام من قبل الجمهور العام كما سنبين في حينه.
وعليه، سنقوم بتحليل ومناقشة العناوين التي اختارها المترجمون لمجموعة من الترجمات المنشورة للقرآن الكريم إلى اللغة الإسبانية سواء من قبل مستشرقين أو من قبل مسلمين في العقود الأخيرة:
خوليو كورتيس: El Corán- edición preparada por Julio Cortés- introducción de Jaques Jomier
خوان بيرنيت:- El Corán- introducción, traducción y notas de Juan Vernet
محمد أسد:El Mensaje del Qura'n - traducción y comentarios de Muhammad Asad
بهيج الملا: El Corán- interpretación al español actual
عبد الغني ميلارا نابيو:el Sagrado Corán y su traducción-comentario en lengua española
عيسى غارثيا:traducción comentada- El Corán- traducción del Lic. M. Isa García
يمكن التعليق بداية أن الترجمتين الأوليين من إنجاز مستشرقين وأكاديميين مرموقين هما خوليو كورتيس وخوان بيرنيت، وهي تسمى "ترجمة" إضافة إلى الإشارة إلى من قام بإنجاز المقدمة والهوامش. وفي حالة بيرنيت، فهو نفس الشخص الذي ينقذ الترجمة للنص ويتكلف بالمقدمة والهوامش، أما في حالة كورتيس، فالمقدمة من إنجاز الراهب الفرانسيسكاني الفرنسي جاك جوميير في حين قام كورتيس بتنفيذ الترجمة والهوامش.
وهذه المعطيات تكتسي أهمية بالغة لو وضعناها في سياقها، فنحن نتحدث عن مترجمين ينحدران من الوسط الأكاديمي بخلفية علمية ضخمة في مجال الدراسات العربية والإسلامية. فالأول، نقصد بيرنيت، مستشرق شهير له عدة كتب في هذا المجال، أهمها في السياق الذي يهمنا هو كتاب حول سيرة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وآخر قيم حول تاريخ الأندلس بعنوان "ما تدين به أوروبا لإسلام إسبانيا" على سبيل المثال، ونجد له صدى في التوثيق المدقق للنص القرآني، من وجهة النظر الدراسات الاستشراقية طبعا، على يد فطاحلة هذا المجال مثل بلاشير ونولدك وبوهل وغيرهم. وهذا ينطبق سواء على المقدمة أو على طبيعة الهوامش.
أما كورتيس فهو صاحب المعجم الشهير للعربية المعاصرة، الذي يعد أحد المراجع الأساسية للاستعراب الإسباني إلى اليوم، وهذا يظهر جليا في طبيعة الهوامش التي تتضمنها الترجمة –وهي بمعدل هامش لكل آية تقريبا- التي يغلب عليها الطابع اللغوي. أما المقدمة، فإنها تعتبر مدخلا عاما لتاريخ الإسلام، وعلى الخصوص فجر الإسلام وصدره ولا تخلو من أحكام قيمة وتلميحات تمس قيمتها العلمية.
أما عن الترجمات التي قام بها المسلمون، فإن الملاحظة الأولى أنها أعمال فردية، باستثناء ترجمة بهيج الملا وترجمة عيسى غارثيا التي تتضمن إشارة إلى وجود أشخاص آخرين تكلفوا بمهمة المراجعة اللغوية أو المضمونية أو كليهما، وهي إشارات لا توجد في الغلاف بل في الصفحات الداخلية.
أما الملاحظة الأساسية، وهذا بيت القصيد بالنسبة لنا، فهي المتعلقة بتسمية الترجمة، ويمكن في هذه النقطة أن نميز بين اتجاهين واضحين: تجنب استخدام كلمة "ترجمة" من جهة، ومن جهة أخرى ربطها بكلمة أخرى: ترجمة تفسيرية/تأويلية/تعليقية.
فبالنسبة لترجمة محمد أسد، ثمة محاولة لتفادي تسمية الترجمة مباشرة عبر عبارة "رسالة القرآن"، أما باقي المترجمين فقد اختاروا عبارات وضع كلمة "ترجمة" وإرفاقها بكلمات "مخففة" أو "مدققة" لطبيعة الترجمة. وضمن المجموعة الثانية، يمكن أن نلاحظ أن العبارة الأكثر طولا في التسمية تعود لترجمة ميلارا نابيو التي تضع العنوان باللغتين العربية والإسبانية: القرآن الكريم وترجمة معانيه باللغة الإسبانية. وبالإسبانية ما يمكن أن يترجم حرفيا (وسنوضح الهدف من الترجمة الحرفية في السطور التالية) على الشكل التالي: القرآن الكريم وترجمة(ه)-تعليق إلى اللغة الإسبانية. أما ترجمة بهيج الملا، فيضع لها تسمية أقرب في اللغة العربية إلى "تأويل/تعليق" منها إلى تفسير (بمعناه الأكاديمي). أما تسمية عيسى غارثيا، فهي، حرفيا، "ترجمة مع تعليق"، وهما ما يجعلها الأقرب إلى تسمية العمل صراحة على أنه ترجمة.
بعد هذه التعليقات الأولية على التسميات، ندخل في صلب الموضوع، وهو التحفظ والتحرج الواضح من ترجمة القرآن الكريم من جهة نظر إسلامية من استخدام كلمة "ترجمة" لتسمية العمل الذي تم القيام به. والواقع أن هذا الأمر يعود إلى إشكالية فكرية رافقت هذا الموضوع منذ العصور الأولى للإسلام، يمكن تلخصيها في عبارة الباحث صالح البنداق "هل يمكن ترجمة كلام إلهي إلى لغة بشرية؟".
في مقال صدر لنا في الفصلية المتخصصة في قضايا الترجمة "ترجمان" (المجلد 25، عدد 2، 2016)، تضمن دراسة تاريخية تحليلية لآراء العلماء المسلمين قديما وحديثا حول موضوع ترجمة القرآن الكريم إلى لغات أخرى، وكانت خلاصته أنها تتسم على العموم بخاصيتين: الهامشية والتحفظ.
الهامشية: يكاد الباحثون في تاريخ الترجمة في الإسلام يجمعون على أن الحصيلة التنظيرية جد محدودة في هذا المجال، تنظيرا أو تأطيرا، مما يوحي بمكان هامشي للترجمة مقارنة بالحجم الهائل من المؤلفات في علوم أخرى تدخل في دائرة علوم القرآن الكريم مثل التفسير والفقه مثلا. وعلى أن هذا الوضع قد شهد تغيرا إيجابيا كما سنرى في العصر الحديث، فثمة عوامل بنيوية في تكوين العقل الإسلامي وعلاقته بالقرآن الكريم واللغة العربية يلزم أخذها بعين الاعتبار لترشيد وتشجيع عمل ترجمة القرآن الكريم تنظيرا أو تنفيذا.
التحفظ: ويجمل العلوش آراء العلماء المسلمين في التقسيم التالي:
1. الترجمة الحرفية: " يعمد المترجم إلى كل كلمة في اللغة الأصلية ويضع بدلها ما يرادفها في اللغة المترجم إليها مع مراعاة محاكاة الأصل في نظمه وترتيبه على قدر ما تسمح به قواعد اللغتين وإن أدى ذلك إلى خفاء المعنى المراد في الأصل"
الترجمة المعنوية أو الترجمة التفسيرية، بمعنى تفسير الألفاظ دون التقيد الحرفي بالمرادفات
وحكم الأولى الاستحالة العادية (لغوية) والشرعية (استحالة وجود ترجمة تعتبر مثلا للقرآن الكريم) "لإن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا" (سورة الإسراء، الآية 77)
وقد نهى عنه علماء المسلمين مثل الزركشي والغزالي وابن حزم والزرقاني والشاطبي والقفال. وبناء على هذا التصور نفسه ينبني قول الفقهاء بعدم جواز قراءة القرآن بغير العربية (في صلاة أو غيرها في مذهب الشافعية مثلا) غير أن الإمام أبا حنيفة قد أجاز هذه القراءة استنادا إلى سابقة الصحابي سلمان الفارسي رضي الله عنه، غير أن بعض الفقهاء من حجم ابن حزم القرطبي ضعفوا هذا الرأي وذهب بعض الباحثين إلى أنه رجع عن هذا الرأي فيما بعد. ( العلوش وذاكر و الحمدان) أما بخصوص التعريف الثاني، فثمة اختلاف في مواقف الداعمين والرافضين، وفيه أيضا تفصيل كثير عن ترجمة تفسير القرآن الكريم.
غير أن الدخول الغوص في التفاصيل والتصنيفات والتعاريف لا ينبغي أن يشدنا عن الغاية الأساسية من الإقدام على ترجمة القرآن الكريم وغيره من أعمال الدعوة، مما يتعلق بأداء واجب البلاغ والدعوة إلى العالمين التي وكلت إلى هذه الأمة بكل الوسائل المتاحة.
غير أننا لم نلمس وعيا بهذا البعد الترجمي لدى علماء المسلمين في العصور السابقة وهم يتطرقون لقضية ترجمة القرآن الكريم ومختلف إشكالاتها كما أسلفنا. فالآراء التي سردناها تكاد لا تستحضر هذا البعد في الحكم على الترجمة و لا نكاد نلمس فيها ترغيبا أو رؤية عامة لأبعاد هذا العمل وعظم منزلته في القيام بواجب الدعوة ليس فقط بالنسبة للمسلمين من غير الناطقين بالعربية (وهم على ما يبدو محل هذه الآراء) بل لغير المسلمين أيضا.
ولعل هذا التصور السائد، الذي تستلهمه العديد من الدراسات والأبحاث في الموضوع إلى اليوم 1تنم في باطنها عن تصور معين للنص القرآني من جهة، باعتباره نصا إلهيا معجزا بإطلاق، شكلا ومضمونا، وأنه لا قبل لبشر بأن يأتي بمثله أو بجزء منه، وهذه النقطة تشكل محل إجماع لا خلاف بشأنه. غير أن مدار الخلاف يكمن في مفهوم اللغة أولا وما يستتبعه في مجال الترجمة، أما ولماهية الترجمة من جهة أخرى، وقد تم تقسيم الترجمة عموما إلى نوعين أو أكثر تبعا للتقسيم اللغوي الأول، وهذا هو الموقف السائد على ما فيه من نظر في مستنده ونتائجه على ترجمة القرآن الكريم إلى لغات أخرى. غير أن أن هذا الموقف في الوقت الحالي لا يصمد أمام أدنى تحليل نقدي جاد، سواء انطلقنا من نظريات الترجمة المعاصرة أو من الممارسة الترجمية في مستوياتها المهنية. فأي دارس للترجمة أو ممارس لها على نحو مهني يسهل أن يكتشف بسهولة أن تقسيم الترجمات إلى حرفية ومعنوية ليس تصنيفا نوعيا بل إجرائي، بمعنى أننا نتحدث عن حلول ترجمية إزاء عبارات أو مقاطع معينة وليس منهجية عامة يتم تطبيقها بشكل منهجي، خصوصا في نص كبير ومتعدد المستويات الاصطلاحية والدلالية والتداولية (ونعتقد أنها لا متناهية بحكم مصدرها الإلهي المطلق والمتعالي والكوني على حد تعبير طه عبد الرحمن). وعليه، نعتقد أنه من الأجدى في دراسة البعد التاريخي البحث في طرائق ومجالات الترجمة التي كانت سائدة في العصور التي تمت فيها صياغة هذه التصورات، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره كما يقول الفقهاء. فلا ريب أنه كانت لدى علماء المسلمين، ممن لم يكونوا يعملون بالترجمة فكرة أو تصور مسبق انطلاقا من اطلاعهم العلمي أو اتصالهم بالمترجمين في عصرهم وطرق عملهم.
إذا أخذنا بعين الاعتبار هذه الاعتبارات النظرية، يمكن أن نفهم سر هذا الجهد الجهيد لتلافي استخدام لفظ "ترجمة" أ استخدام ألفاظ "مخففة" إذا جاز القول، وفي المقدمة، نجد ترجمة ميلارا نابيو، وهي ترجمة من نشر مركب الملك فهد لطباعة المصحف بالمدينة المنورة. ونلاحظ أن العنوان مكتوب باللغة العربية إضافة إلى اللغة الإسبانية ولا ندرك المغزى من ذلك كم وجهة النظر التواصلية. ومن جهة أخرى، فثمة إشارة إلى أن نص القرآن يوضع باللغة العربية ويوضع إلى جانبه النص المترجم، وهو نفس المنهج المتبع في الترجمات إلى لغات أخرى التي تنشرها هذه المؤسسة الرسمية السعودية، وهو الأمر الذي يمكن أن نتساءل عن مدى جدواه بالنسبة لمتلقي النص القرآني. أما في الجانب الذي يهمنا، فإن مناقشتنا للتسمية تنصب على عبارة "ترجمة معاني القرآن الكريم"، مع علمنا أن هذه التسمية شائعة في أوساط الباحثين في هذا المجال العلمي. فكما أشرنا في العرض النظري الموجز، فإن هذه التسمية نابعة من التقسيم التقليدي بين "الترجمة الحرفية" و"الترجمة المعنوية" الذي يعود إلى تصنيف الإمام الشاطبي رحمه الله، والذي بينا تهافته من وجهة نظر علم الترجمة. فهذان المفهومان شكلا محور نقاش قديم في أوساط الدارسين للترجمة منذ القرن التاسع عشر، لكن مع تراكم الدراسات، تراجع المفهومان إلى أسلوبين في التعامل مع مشاكل الترجمة أكثر من نوعين مختلفين من الترجمة من ضمن مجموعة من الأساليب الممكنة (أنظر فيناي وداربلنيت مثلا). علاوة على ذلك، فإن العبارة تطرح أكثر من إشكال في طريقة تركيبها فهي مركب إضافي يمكن أن يفيد الحصر، فهل تعني أننا نترجم كل معاني القرآن الكريم مما يعني أننا فهمنا كل معانيه؟ فهل أحصينا كل معاني القرآن الكريم، حاشا لله؟ وعلى افتراض ذلك، فهل نترجم كل المعاني الممكنة دفعة واحدة أم نختار أحدها؟
وبدرجة أقل، لكن تبعا لنفس المنطق، نجد محاولة بهيج الملا عبر عبارة "تأويل إلى الإسبانية المعاصرة"، وهي محاولة أخرى لتلافي إدراج كلمة "ترجمة" في العنوان، لكنها في رأينا المتواضع غير موفقة تماما، فهذه الكلمة تشير إلى تفسير أو فهم شخصي للقرآن الكريم أكثر منه إلى تفسير بالمعنى الاصطلاحي ويسند إلى مراجع ومحددات لغوية وتاريخية وأسباب النزول وغيرها.
أما عن ترجمة عيسى غارثيا، فهي تشير بصراحة إلى أن الأمر يتعلق بترجمة، غير أنه يضيف كلمة "مع تعليق"، وهو ما يمكن أن يتضمن الهوامش التي تتضمنها الترجمة. وبخصوص ترجمة محمد أسد، فقد فضل استخدام كلمة "رسالة" لوصف ترجمته، وهو اختيار معقول لتلافي استخدام كلمة ترجمة.
أما عن ترجمة المستعربين بيرنيت وكورتيس، فهي تضع لفظ "القرآن" دون أي لفظ إضافي، مما يشير إلى أن الإشكالية غير مطروحة فقط في أوساط المترجمين المسلمين.
لا شك أن القرآن الكريم يطرح إشكالية فريدة في مجال الترجمة، ويشكل تحديا حقيقيا لنظريات الترجمة المتداولة قديما وحديثا. فالنظريات المعاصرة التي تتحدث عن ترجمات نصوص بدل ترجمة لغات، وتحاول مقاربة الترجمة من مختلف جوانبها على أنها عملية تواصلية نسبية سواء في إعداد النص الأصلي، أو في عملية نقل كل المكونات التواصلي أو من ناحية تلقي المنتج النهائي، وذلك لاعتبار التواصل الإنساني اللغوي عملية نسبية بالأصالة.
غير أنه بالنسبة للمسلمين، فإن النص القرآني مطلق باعتبار مصدره الإلهي ونقله إلى لغات بشرية نسبية من قبل بشر تعتبر عملية يتم التعامل معها بكثير من التحفظ. لكننا نعتقد أن هذا التحفظ غير مبرر إذا تم النظر إلى هذه العملية من وجهة نظر علم الترجمة الحديث ذي النزعة التواصلية. فإن كان النص القرآني من وجهة النظر الإسلامية نصا مطلقا (يتميز بالتعالي والسعة –اللاتناهي والكونية وفق تعبير طه عبد الرحمن، فإن هذه الإطلاقية مجردة لأن كل قراءة بشرية لها هي قراءة نسبية بالضرورة، حتى التفاسير نفسها لا تعدو كونها قراءة نسبية تتبنى منهجا معينا للقراءة. وبنفس المنطق، لا تكون الترجمة إلا نتاج قراءة معينة، نسبية بالضرورة نظرا لمصدرها البشري القاصر، وهو ما عبر عنه د. طه عبد الرحمن بقوله الترجمة من القرآن الكريم وليس ترجمة القرآن الكريم، أي أن علاقة الترجمة بالنص القرآني علاقة نسبي قاصر لا يتضمن إلا بعض القيم والخصائص المطلقة للقرآن الكريم باعتبار مصدره الإلهي المطلق.
ونعتقد بصراحة أن الوضع التواصلي الفريد للنص القرآني يشجع على الترجمة بل على تعدد الترجمات، ولا يبرر إطلاقا إحجام المسلمين على هذا الجانب الأساسي من التعريف بالإسلام لمن لا يعرفونه أداء لواجب البلاغ. بل يمكن أن نصف وضع الترجمة في الحالة القرآنية بالمفارقة إذا ما قورنت بالترجمة الإنجيلية. فالأولى بالتحرج من الترجمة هي المسيحية لأن مفهوم الأصل غاية في التعقيد، فالأناجيل هي تجميع لعدد من النصوص من فترات مختلفة بعد مضي أيد من ثلاثة قرون على رفع عيسى عليه السلام، وقد تم هذا الجمع بانتقاء نصوص معينة مترجمة بين العبرية واليونانية، وع وجود خلافات بين الكنائس في مسألة الكتاب المقدس حتى في مواضيع عقدية، ومع ذلك نجد أنه الكتاب الأكثر ترجمة في العالم، ونضيف أنه الأكثر تراكما على مستوى مؤسسات البحث العلمي والنشر (وهذا موضوع مقال قادم لنا بحول الله). وفي المقابل، نجد أن حيزا هاما من كل الملتقيات والمحافل العلمية والمنشورات المهتمة بترجمة القرآن الكريم مازالت تجتر مسألة الجواز والحرمة بدل أن تنتقل إلى مسألة الكيفية والأسلوب.
وفي المحصلة، فإن دراسة عناوين الترجمات وما وراءها من إشكاليات تبين أن الإشكال ليس في كتابة ترجمة من عدمها، بل في توضيح معناها وحدودها في الحالة القرآنية. فإن تم القيام بذلك بمنهجية علمية، وهذا هو الأهم، يتم حفظ إطلاقية النص القرآني الفريدة، وكذا توجيه القراءة، وبالتالي الترجمة، إلى أهدافها التبليغية الحضارية التي تراعي مقتضيات الزمان والمكان، والله أعلم.
*أستاذ الترجمة والدراسات الإسبانية- كلية الآداب بالمحمدية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.