لا يمكن للفلسفة أن تُخيفنا، كما لا يمكن للثقافة أن تكون شراً، أو شيئاً سيِّئاً، من الأشياء التي تُفْسِد طباع الناس وأخلاقهم. الفلسفة هي طريقة في التفكير، وهي رؤية للعالم والأشياء، وهي سؤال لا يفتأ يلد المزيد من الأسئلة، كما أنها قلق، ورغبة في إشعال مزيد من النور في عالم انقطعت عنه الأضواء، أو كادت أن تنقطع. منذ شرع الإنسان في الخروج من الفكر السحري والأسطوري، وضع الفلسفة نصب عينيه، باعتباره العكازة التي ستقوده في الطرق والأسواق، وستدفعه لمحاورة الناس، وتعليمهم الحكمة. لا تعني الحكمة، هنا، أن نصير شيوخاً، يخرج من فمنا كلام هو صورة لما عشناه من تجارب وحيوات، بل الحكمة، هنا، بمعنى التفكير، والتأمل، وبمعنى النظر في يجري حولنا من أحداث ووقائع. كما أن الحكمة، هي بُعد النظر، وهي تفتيق لمواهب الشبان، ووضعهم في سياق زمنهم، وما يحتاجونه من مفاهيم، وأدوات، ومناهج لمجابهة الحياة. في أحد كتب التربية الإسلامية، في السنة الماضية، دار النقاش حول نص لابن تيمية يكفر فيه الفلسة، أو يمنع تعاطيها، في الوقت الذي سيخرج فيه التلميذ من حصة للتربية الإسلامية، ويدخل إلى درس الفلسفة، كان سؤالي، آنذاك، لمن اختاروا هذا النص، من سيصدق التلميذ، أستاذ الفلسفة، أم أستاذ التربية الإسلامية!؟ وهذه من المعضلات التي تجعل المدرسة مصدر مشاكل، بدل أن تكون حلا. ها نحن اليوم، أمام واقعة، فيها خرج شبان بمدينة الرباط، ليتجمعوا في ساحة عامة، للحوار الفلسفي، أو للتفلسف في الشارع، بمعنى، لطرح بعض مشكلاتنا الراهنة، وهي حرية التفكير والتعبير، وما يترتب عنهما من اعتقالات، ومن كتم للأنفاس، وكأن الديمقراطية عندنا، هي غير الديمقراطية التي جرت بها القوانين والأعراف، أو هي، بالأحرى، مجرد واجهة نستعملها للاستهلاك لا غير. الشبان الذين نزلوا إلى الشارع، لم ينزلوا ليتعاركوا مع أي كان، ولا ليمنعوا حركة المرور، أو يعرقلوا سير الناس في الشارع، هم أرادوا فقط، إثارة الانتباه إلى ما يجري من كتم للأنفاس، ومعاقبة للشبان على ما يبدونه من رأي في وسائل التواصل الاجتماعي. وفي وجودهم في الشارع، هم سَعَوْا إلى جعل نقاشهم وحوارهم نوعاً من «الأغورا»، ونوعاً من الحوار الجدال، وقد يختلفون في أفكارهم وآرائهم، وقد ينتهي بهم المطاف إلى إدراك معنى الحرية، ومعنى المسؤولية، وكذلك معنى الحق والواجب. فهم لا يحملون سيوفاً، بل حملوا أفكاراً. ألهذا الحد باتت الأفكار تُخيف وتزعج وترعب، وتجعل رجال الأمن ينقضون عليهم، ويعتقلون بعضهم، بذريعة أنهم حاجُّوهم وناقشوهم، ورفضوا أن يفضُّوا حلقتهم؟ لو كان بين رجال الأمن من هو مخول بالتفاوض مع هؤلاء الشبان، وحمل رسالتهم إلى الجهات المعنية، ما كان ليصل الأمر إلى مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام المختلفة، وتصبح القضية قضية فكر ورأي ونظر، وقضية حرية. في حقيقة الأمر، فخروج هؤلاء الشبان إلى الشارع، وإلى الفضاء العام، كان فيه اختبار لحرية الرأي، ومدى قابلية الدولة لقبول احتجاجهم الحضاري، هم نجحوا في استنفار واستفزاز القوات العمومية، وفي تأكيد أن هامش الحرية ضيق، والدولة خسرت، لأن صدرها ضاق، وأخرجت قوات الأمن لترفض أي نقاش أو حوار، علماً أن مشجعي الفرق الرياضية يجوبون الشوارع في كل مباراة، وهم يرددون الشعارات، ويزعجون المارة والقاطنين من الناس، وتصدر عنهم سلوكات غير مقبولة، في غالب الأحيان، ورجال الأمن، فقط، يراقبونهم، ولا يتدخلون لمنعهم، إلا في حالات الفوضى. الشبان الفلاسفة، أُحِبُّ أن أسميهم هكذا، لم يقوموا، لا بشغب، ولا بفوضى، وقفوا ليشرعوا في الكلام في موضوع يهمنا جميعاً، فجاء الأمر بتشتيتهم، لا لشيء إلا لأن الكلام في الفلسفة، هو كلام في الممنوع، وما لا يمكن السماح به. نحتاج أن نعيد النظر في علاقة السلطة بالمجتمع، وخصوصاً مع مثل هؤلاء الشبان الذين هم في حاجة لأن نستمع إليهم، ونحاورهم، ونتفاوض معهم، ونعرف مشكلاتهم، ونفتح لهم آفاق المستقبل، بالعمل معهم، هم، وليس مع غيرهم، ليكونوا طرفا في البناء، وفي التنمية، وفي ضمان استقرار المجتمع، وما يمكن أن يعم من أمن وآمان. غير هذا، سيكون صبّاً للنار على الزيت، إن لم يكن اليوم، فغداً، لأن كثرة القهر، تولد الطوفان.