وقعت عيني على الفاكهة ذات اللون الأخضر الداكن، على حبات الكيوي والأفوكوتا في ركن سوق الخضار الشعبي، فجذبتني اليها ووجدتني أهتف بصورة عفوية وبصوت ليس منخفضاً: هذه بضاعة اسرائيلية. قلت ما قلت بنبرة أسف حرصتُ أن تبدو ودية، نبرة من يتطوع لتوجيه نُصح خالص لشخص يهُمه أمره. يستهويني هذين الصنفين من الفاكهة فقد سبق أن تذوقتهما قبل أن أعرف مصدرهما، ولم أقل ما قلته كشرطي ضبط بضاعة مسروقة، ولا كمفتش تموين اكتشف بضاعة فاسدة. كان البائع دون العشرين من عمره: بديناً حليق شعرالرأس، بفانيلة بنية نصف كُم تحمل رسماً باللون الكحلي لم أتبينه وبنطلون جينز حائلي الألوان، يقف ببوط رياضي قماشي قديم كان لونه أبيض، بسحنة من تم زجه في هذا العمل على كُره منه. أما جناح البيع لديه فهو من أصغر الأجنحة في سوق العبدلي في عمان، الذي يفتح أبوابه صباح كل جمعة وهو يوم العطلة الأسبوعية. وفي حين توقع البائع أن أسأله عن الأسعار، أن أدخل معه في مساومات مألوفة ربما تدرب عليها، كما تدرب عليها المشترون وأنا أحدهم، فقد فوجىء بملاحظتي.. ومع سماعه للملاحظة غير المتوقعة، انتابه وجوم وبدا وقد فقد فجأة خبرته المستحدثة في التجارة، وعاد تاعساً كسيفاً لم يكمل تعليمه المدرسي، وظهر قليل الحيلة في أمور الدنيا، وبدا وقد أشاح ببصره عني اتقاء للنظر المتبادل في العينين، مثل ابن يقف أمام أبيه المحافظ وقد اكتشفه هذا وهو يرتكب موبقات. ولا أذهب بعيداً في التشبيه فهو بالفعل في عمر أصغر أبنائي، دون أن أكون على تلك الدرجة من المحافظة. قلت لنفسي وأنا أنقل من يد الى يد أخرى كيساً بلاستيكياً أسود وثقيلاً، اشتريت محتوياته من بائع آخر في السوق.. قلت إني أرغب بهذه الفاكهة لكن مصدرها يجعلها في فمي سيئة المذاق. وأخبرته أنه ليس الخطاء الوحيد. ليس البائع الوحيد الذي يبيع مثل هذه البضاعة. لم يكن هناك أحد سواي من الزبائن أمام ركنه، ما شجعني أن أتباسط معه بعض التباسط، دون التسبب بإحراجه أمام خلق الله. حتى أني سألته على عجل عن بلدته الأولى، فأجاب إنها يازور* وأوضح لي أنه لم يرها أبداً حتى الآن. لست أباً للشاب اللاجىء الذي تفصح سحنته عن هويته، ولم أكن أنوي التدخل من قريب أو بعيد في خصوصياته. لم يقدم لي من جهته أي عرض للشراء، فقد انكمش على نفسه، بينما داهمتني مجدداً حالة تشاؤم خرجت بها من مزاج شراء خضار وبقوليات وفواكه وأعشاب ودخلت في مزاج مختلف، إذ عدت لتفكيري المعهود في دولة جارة حانقة أشد الحنق على شعب آخر، لأن الشعب صاحب الأرض التي أقيمت عليها الدولة عام 1948، لم ينتحر بعد ولم يعتذر عن وجوده إكراماً لبناة الدولة الأوروبيين، وهؤلاء وفدوا بأسلحتهم من وراء البحار. جرى ذلك صبيحة يوم جمعة في شهر أيار عام 2009 ، وهو الشهر الذي يحتفلون فيه على مبعدة نحو مائة كيلومتر من المكان الذي كنا فيه، بإقامة دولتهم على أرض فلسطين. كنتُ قصدتُ سوق الخضار لا للشراء فحسب، بل للتمتع بالهواء الطلق.. بأشعة الشمس الدافئة. خرجتُ لقليل من التريض بالمشي في السوق غير الفسيح، وكي أضع حداً لحديثي الدائم مع نفسي، ولاستطلاع الشوارع الهادئة غير المزدحمة بالمركبات في يوم العطلة، ورؤية الناس المهمومين المنفردين في «أكوانهم» وبعض هؤلاء من ميسوري الحال والسخرية في نفسي من هؤلاء، ولتبادل ما تيسر من أحاديث مع الباعة، ولو كان هؤلاء يبرمجون أحاديثهم لغايات اجتذاب الزبون للشراء فقط، وكذلك لرؤية أصناف الخضار والفواكه من شتى الحجوم والأشكال والألوان، التي تسرني رؤيتها واعتبرها من أفضل الأطايب. وباستثناء اكتشافي أن البضاعة اسرائيلية وهو اكتشاف لا فضل ولا أسبقية لي فيه، فهذه الفاكهة لا تزرع في الأردن ومصدرها معروف للقاصي والداني، وباستثناء إبداء رفضي لها، فلم أتبادل حديثاً مستفيضاً مع البائع الممتلىء الوجه، وقد وهبه الفقر ويا للمفارقة البدانة لا النحول، والذي يبدو كمن انتقل منذ عهد قريب من ملعب كرة قدم في حي شعبي أو مخيم للاجئين إلى هذه المهنة، والذي لم ينجح في تجارته، ولم يفلح في العثور على سبيل للتمسك بكبريائه أمام من شردوا أجداده وأبويه، وها هو يبيع منتجاتهم ويتعيًش من فتات تجارتهم. وحين تأهبت لمغادرة ركنه فقد فاجأني إذ استدركني واستوقفني قائلاً باستسلام وتلقائية لكن بشيء من الحشرجة: إن الجزر أيضاً إسرائيلي. وشرح لي بنبرة العارف الواثق، أن الجزر الذي يباع في أكياس شبكية من النايلون القريب لونه للون الجزر، زنة خمسة أو ستة كيلوغرام، مصدره اسرائيلي وانه يباع للتجار بسعر أقل من ذاك الذي يباع من مصدر محلي. قال ما قاله وهو يشير الى كومة جزر ليس بعيداً عن كوم الأفوكاتا والكيوي على البسطة الخشبية. شكرته على الملاحظة المفيدة، ولم أشتر شيئاً فلست في وارد الشراء من منتجات الأرض المسروقة. في مرة سابقة قبل أشهر على هذه المرة، سمعت ذات مساء دفاعاً محموماً على طريقة الشُطار من بائع محترف، يبيع منتجات من المصدر نفسه في السوق المركزي وسط البلد، ومفاد دفاعه أن منشأ بضاعته كما قال فلسطينالمحتلة، وعندما أنكرت على البائع تلاعبه بالوقائع، أشاح بيده نحوي بشيء من الازدراء، إمارة عن استغنائه عن زبون لم يأت للشراء بل للمناكفة. لعله ليس أب البائع اليافع الذي لم أسأله عن أبيه، وما كانت بي حاجة ولا كان لائقاً أن أسأله، ولا سألته عن اسمه فلا يقدم ولا يؤخر في الأمر معرفة اسمه أو الجهل به. وكان قد ابتسم بخجل المراهقين المفعمين بروح مثالية، وهو مُطرق برأسه الكبيرة الحليقة الى الأرض الاسفلتية. لقد بدا على شيء من الانشراح المكتوم لهذه النتيجة، حتى أنه جعلني أشعر بامتنانه نحوي لامتناعي عن شراء بضاعتهم التي يُضطر لبيعها . في طريق الإياب ولم تكن طويلة، وفي غمرة حذري أن أخطىء نتيجة انفعالات داخلية في توجيهي لقيادة السيارة، فقد فكرت كيف أن لصوصاً نقلوا العراك معهم إلى خلف الحدود، إلى أسواق الخضار في قلب عواصمنا، وكيف أن السجال بات يدور بيننا وبيننا حول أنجع السبل للتعامل مع منتجاتهم ( من جهتي فقد توقفت عن الذهاب الى تلك السوق)، وليس بيننا وبينهم حول الأرض المقدسة. وقد رغبت لو يشاركني آخرون هذا التفاكر، وأن يستذكروا صورة بائع يافع اقتلع من جذوره بأيسر مما يُقتلع الجزر، وبات يبيع منتجاتهم المزروعة في أرض أجداده، وكان ينتظر ويرغب بسماع من يزجره على ما يفعل. ====================== محمود الريماوي يازور: قرية عُرفت ببساتينها، دمرتها مع 45 قرية أخرى ميليشيات صهيونية العام 1948 ، تقع قرب يافا.