"اسمه الغرام"* رواية إغواء الكتابة، مثلما هي لعبة "الغرق في الرغبة" كما تعبّر نهلا مفسرة غيابها، في النهاية، لكاتبة حياتها أو صانعة حياتها. رواية تحتال فيها الكاتبة بالإتفاق مع شخصياتها على القاريء. فعلوية، حتى تهرب من تحمل مسؤولية دور المقرر لمصير شخصياتها، كما يفعل الكتاب كخالقين مؤقتين، تتفق مع بطلتها نهلا على أن تجعل من الكاتبة ذاتها امرأة لها لون وطعم بطلتها، فتتهمها بطلتها_ متخذة من القاريء شاهدا على حوارهما، فتبدوان،البطلة والكاتبة، في صورة حملين وديعين_ بأنها اتخذت من حكايتها سبيلا للحديث عن إحساسها الشخصي بالفقدان وسط حرب تموز.. فمن منهما الكاتبة أو الكاذبة إذن؟ سأتساءل. و سأقرأ، فأكتشف، أن الحكاية حكاية بطلتين، إحداهما تلعب دور الموزاي الفني للأخرى، إلى حد تتماهى فيه الشخصيتان رغم أنهما لا تتشابهان، وستكون في ذلك فرصة لمعاينة التماع التماهي الذي يعني بالضرورة أكثر من كون اثنين لهما الجسم نفسه، وإن كان لا ينفي أن لهما توتر وفوران الروح ذاته. سعاد التي لم تكف عن صمتها على امتداد ثلثي مساحة الرواية، فجأة تصير تتكلم، ويظهر ذلك بوضوح_ وإلّا كيف يفسّر؟_ وكأنه حدث بقدرة القادر/ الكاتب الإله، فسعاد لم تتكلم إلا لتكمل دور نهلا التي لم تكف عن الكلام في لعبها دور الشخصية الراوية، مثلما هي الكاتبة التي أسلمت خيوط الحكي لبطلتها، لتنعم بالجلوس صافنة لا ينقصها توتر من نوع معيّن، مرخية قلمها، وكفاها تحت ذقنها، وكوعاها يرتكزان على الطاولة التي تمارس عليها فعل الكتابة: تراقب، بقلق أتوقعه، بطلتها تتكلم عنها، لأنها، بطريقة أخرى للقول، تراقب حالها تتكلم بلسان بطلتها، وهذا، بالضرورة، يجعل القاريء، في الفصول الثلاثة الأخيرة، يكتشف أن لعبة الكتابة تشكل العمود الفقري لرواية الغرام، فيما كان الغرام على امتداد الرواية ككل، كما تعرّفه نهلا في أحد صفحات الرواية الأخيرة، بأنه صاحب نوافذ الشغف والعشق والجوى والوله والهوى، رئتيها. وكي لا ينسى القاريء فسوف تذكره الكاتبة/ البطلة، أو العكس، مرارا أن الحرب كانت الرحم الذي ولد فيه وتاه فيه الغرام، ففي الحرب نهلا و هاني التقيا، وتكوّن بينهما ذلك الوهج المضيء، وليس في غيرها، إن كان ذلك فعلا ما أرادت أن تقوله الرواية، انطفأ، فعلى مشارف حرب تموز فقد هاني رجولته فاضمحل وتكوّر، واختفت نهلا قبل أسبوع من اندلاعها، بعد أن فقدت ذاكرتها، وصارت الصديقات سعاد، وعزيزة، ونادين، وهدى، وحتى الكاتبة ذاتها_ وربما تخيّلت بطريقة روائية اللبنانيين كلهم_ يبحثن داخل تلك الحرب عن نهلا بين الإشلاء أو المشردين، امرأة شريدة، متسخة، وتفوح منها عفونة ما: وإلّا، لماذا يتوزّع الحكي عن الغرام بين زمنين تشعلهما الحرب؟ سيحدث ذلك، وسيكون الغرام يفتح نوافذه، و يتفتح مثل حبق نهلا ومثل كل الورود التي عشقتها، وعبر قصص مختلفة لصديقات يعشن حكاياتهن غير المتكررة، وسيظهر نجاح الكاتبة في حصر تلك العيّنات المتباينة له، وقد يبدو الأمر غريبا مؤقتا، لكنها، في النهاية، حكايات، سيكون جليّا، أنها لمسمى الاسم ذاته، أ وَ ليس لأجل ذلك جعلت الكاتبة، وربما لن تستطيع أن تنفي أنها وراء ذلك، كلمة" غرام" تتردد على لسان تلك الشخصيات واحدة واحدة، و إن كان أكثره على لسان نهلا/ بطلتها المتواطئة، إما على شكل خبر أو استفهام؟، ولأجل ذلك لن تكون نهلا وحكايتها مع هاني سوى خيط آخر من خيوط لعبة الكتابة، شكلته الكاتبة التي ستنجح في النهاية في إقناع القاريء بأنها بريئة من لحمها ودمها، وليس فقط من لحم ودم شخصياتها، هذا الخيط سيتعقد، أو ينحل، يرتخي أو يشتد لينسج حكايات الغرام، فكان ذلك النسيج واجهة الحكي، الموهم بأنه حكايته الفريدة، فيما الأكيد هو أن كل الحكايات تلك كانت حكايته الفريدة التي لو أخذناها جانبا ونفخناها، بتواطؤ مضاد، لصارت النسيج. فالغرام، مثلما أرادت علوية أو نهلا، ليس مجرد حكاية تروى، وليس مجرد واجهة جاهزة للتعليق أو الترتيب، وليس تفاصيل حاضرة في زمن ما لنتذكرها ونجلعها مرجعنا الأكيد، وإن كان الضروري والمتمكن فينا، فهو، مثلما له نوافذه، له أشكاله، يعيش عبر الأجساد وبالطرق التي يشاء، حتى وإن خرجت عن منطقنا المبرر، فهو في لحظة ما ضمن ظرف محدد_ وكل حالة لها شرطها وظرفها المحددان_ سيجد شكله الذي يختاره ليتكون بين اثنين مختلفين في الدين مثلا، كما حصل بين نهلا وهاني، أو عبر جسدين متشابهين بيولوجيا، كما حصل بين نادين وميرنا. وسيحق للقاريء أن لا يستسيغ غراما من هذا النوع أو يلعن الحرب التي تخلق، من ضمن ما تخلق من بشاعات، غراما كهذا، أو يكفر بحقيقة وجوده، أو يتخذ له تسميته الخاصة، كأن يصير الاسم: وسخا، لكنه هو هو، الغرام له أشكاله، وفي النهاية سينفتح على مسمياته، وسيستنتج القاريء ذلك وقد لا يفعل، وستكون الكاتبة قالت ذلك أو لا، لكنها، على الأغلب، أقنعتني أنها بريئة مما ورد في رواية"اسمه الغرام" وأنا صدقتها ما دمت لا أنظر إلى الغلاف، لأجدها قد نسيت، سهوا، أن تمحو اسمها عنه، فأقول في سرّي وأتخيّل أني أكوّر كفّي ولا أفعل، وجيد أن لا أعض على لساني وعيناني تتكوران فتصغران أكثر: "اللئيمتان!" وأكرر تلك الكلمة غير مرة، وأكون أقصد، بلا أدنى شك ولا رغبة في التملّص، الكاتبة وبطلتها، مشيرة إلى ذلك التحايل الفنيّ غير البريء. ======================= * اسمه الغرام،علوية صبح، دار الآداب، 2009 ============ أحلام بشارات قاصة فلسطينية