عبد اللطيف اللعبي يفنى الشاعر وتحيى أشعاره ترى ماذا نقول لكاتب يحكم على تجربته الإبداعية في بعدها الفكري والاديولوجي بالفناء والموت؟ إلا إذا اقتنع أنه لا جدوى من الصراخ في بيداء يطبق عليها الصمت المهيمن؛ هكذا يطل علينا عبد اللطيف اللعبي بديوانه " قصائد فانية"معلنا في سخرية تامة عن فنائه الشعري، ليس فشلا منه ولا قلة تجربة، ولكن استنكارا لاحباطاته وخيباته بعد أن صهل كثيرا في بلده الذي يفضحه الصمت المطبق الناجم عن الأمية والفقر اللذين يرزح تحتهما المجتمع بفعل الفساد السياسي، هذا الشاعر، وهو أحد مؤسسي حركة أنفاس بمغرب الستينات والتي قلبت المفاهيم من غير أن تتكئ على أية مرجعية أخرى ، كان همه فيها تحديث الإنسان ومناهضة الاستعمار سياسيا وثقافيا ومناوءة التقليد السائد، غير أنه فوجئ اليوم بأن صرخته تتلاشى في واد سحيق، لقد كانت الحركة الوطنية آنذاك غير مهتمة بالإنسان في ذاته ولا بالأدب كمشروع تنويري مواز للحداثة بالقدر التي كرست فيه طاقتها للمقاومة المسلحة وطرد الاستعمار، وظل صوت المثقف مقموعا كما المواطن أمام السلطة بالرغم من المحاولات الجمة للمثقف الذي انزوى في الهامش مبعَدا تماما لحد اليوم عن مشاركته في مشروع التنمية، فارتفعت نسبة الأمية والجهل ومعهما تفاقمت الأوضاع الاجتماعية بالرغم من الملامسة الصورية لمجموعة من القضايا كالديمقراطية والحداثة وحقوق المرأة والتنمية البشرية، وضع كهذا غيب المثقف ومعه غابت التوعية على حساب استفراد السلطة بزمام الأمور، وإن كان هناك اهتمام ، فهو سطحي واستعجالي ، وهذا ما يفسر تراجع القراء والقراءة، حيث لا يُفك لغز ولا يُتعظ بخبرة منتو جنا الإبداعي كمشروع فكري وتنويري، يقول عبد اللطيف اللعبي: لأي غرض أتيت/أيها القارئ ؟ لقد فتحت هذا الكتاب/ دون ترو/ وهاأنت تقلب رمل الصفحات/محموما/ كأنك تبحث عن كنز دفين/ أللبكاء أتيت/أم للضحك؟/أتكون حياتك إلى هذا الحد فارغة؟ ص5، إنه يرفض القارئ العجلان، يحتاج إلى أخر ناضج واع بإشكالية الصمت السائد، الصمت الموازي للجهل، حتى أنه بات يخاف من انتهاء أجله قبل إتمام رسالته النهضوية : لو أحد يروي لي سيرتي/ مثل حكاية يخمن مسك ختامها/ كلا لم أتغير/ كل ما في الأمر/ أن لي وقتا/ أقل مما كان لي/ آخر مرة. ص.6 ،لذلك نجده منهمكا في قلقه وبحثه الذؤوب عن الحقيقة لحد أنه تعب وكل، ولا عزاء له سوى جسده الموهون الذي يتوحد معه بتيقظ بالغ على عاديات الزمن، ويكن له اعترافا جميلا ومؤثرا لحسن ضيافته: أيها الجسد المسكين/ أيها الضامر الموهون/ أشكر لك حسن الضيافة/ مفرط أنت في التسامح/ وأنا أنتهز دون حياء/ أنهكك/ وتنهكني/ متلازمان نحن/ لكن غير مغفلين.ص7، ولو بلغ به التيقظ كي يشتغل ويواصل مشروعه من أجل إنسان حداثي، نراه يستمر في ذلك استمرارا جنينيا كنوع من الحصانة والتربص على تشابه أيامه المبتذلة: غذا اليوم ذاته/ لن أكون قد عشت سوى لحظات/ وجبهتي لصق الزجاج/ لاستقبال موكب الفجر/ سأكون قد كتمت صرخة/ لم تسمع في هذه البيداء/ واتخذت وضعا جنينيا/ على مقعد عزلتي القديمة.ص8، من هذه العزلة التي كرستها له السلطة يبني هامشه الذي يعتبره ايجابيا ويفتح جبهة على الوضع القائم على الأمية وصمت المجتمع، يشهر كتاباته كاحتجاج مستمر، إنها الصعلكة التي من خلالها يبني قيمه وآراءه ومفاهيمه واستقلاليته المطاردة من قبل القبيلة والحزب والسلطة ...: يتربص بي المذهب/ أتظاهر بعدم الانتباه.ص87، فقد الثقة في قناعته السياسية التي رافقت أحلامه رفقة رفاق دربه اليساري الذين تنكروا لمبادئهم بمجرد وصولهم المبكر إلى السلطة، هكذا وجد نفسه يواصل تجديفه وحيدا منفردا، فيصف نفسه في بورتريه رائع على هذه الوضعية: جالسا إلى طاولة، أراني شخصا يعبر الرصيف المقابل، بيده محفظة. بدلته فضفاضة بعض الشيء. ظهره مائل إلى التقوس، ورأسه مشتعل شيبا. لارتجاج خطاه إيقاع من يعرف وجهته، أو يريد، على الأقل، أن يعطي انطباعا بذلك، نظرته، كنظرات كبار السهاة، ثاقبة، وابتسامته المختلسة غامضة، كابتسامة من لا يسقط في كمين. على هيأته تلك، لا يوحي العابر إلي بتعاطف أو نفور، ولا أبذل أي جهد لإشعاره بوجودي، لا أريد أن يهوش أحد عزلتي. ص70. إنها إيماءات لشخصية غريبة الأطوار، متفردة، محبة للوحدة، تخفي أكثر ما تظهر. إنها الوثوقية المتيقظة التي ترفض النيل منها، أيمكن أن نعيب على الشاعر تقوقعه على نفسه؟ ربما لن نجازف بذلك وهو الأدرى بنفسه التي تحتاج إلى هدوء وتفكير داخليين بدل معاينة شارع مشوش ومنغص يعج بالفوضى الجهلاء: بخيلة، بلهاء/ نافذتي/ الأفضل فتح الباب/ المفضي إلى الرواق.ص21، خاصة حين ينعدم للحياة معناها الحقيقي المفترض وللكلام بعده النافذ وللوطن حضنه الأثير في وجه مواطنيه: من أين ستأتي/ رعشة ما قبل الكلام؟/ ثمة مياه المضيق/ هذه الجارفة للطيور المطرودة من افر يقيا/ وهذا الجدار المانع/ البليد حتى البكاء/ هذه السماء المقتضبة/ وأنشوطة غيمها/ عموما/ لا شيء مما ينسب للحياة. ص 20، إنها حياة يحدها جدار الصمت وتخنقها سماء لا تتسع للمزيد من الحرية، فأيها يريد؟ إنها ببساطة حياة المطلق، تلك التي تفي بوعودها وتمنح آفاقا أرحب للأحلام الكبيرة وإلا سقط في موت نفسي أمام إله جبار، إله الراهن المزري، إله وصي على الفجر الآتي ناشرا جهله وفقره للناس: أحلام بالجملة/ كأن أيامي طافحة/ وريشتي خضراء/ أنام وأشباحي/ واستفيق بدونها/ أيها الليل/ قاوم/ فإله الفجر/ يفترس ذريتك. ص9، هذا الاغتيال للأحلام التي نحتها الشاعر منذ مطلع الستينات - كما أسلفنا – رفقة جيله، لم تسعفه اليوم، فبات يشكك في رؤاه وتصوراته ويحكم على بنات فكره بالفناء: الآن أكتب/ مثلما يبصر الأعمى/ ينزلق النور على جفني/ ثم ينسحب عبر ثقب/ الصفحة/ تذرع الكلمات قفصها/ أسمع اصطفاق سوط المروض/ وما من زئير/ كلها الآن لاغية صوري/ في متاه الفؤاد أسير وما من كلب – مرشد. ص10، حكم كهذا قاس على تجربته أمام سوط المروض/السلطة، جعله متشتتا داخليا ومتسكعا نفسيا، لا يعرف له وجهة: لا وجهة/ لخطوي هذا. ص78، بل بات يشكك في جدوى شاعريته: أهو صوتي/ أم صوت شاعر مجهول/ قادم من القرون المظلمة؟ ص14، أو في صلاحيتها: هل عاشت أشعاري بعد موتي؟ ص15، فيستشرف نهايته المنطفئة بأسئلتها الحارقة: في هزيع الحياة/ سيكون لي أن أتغيب/ فوق مقعد ما/ وفي حل من الألم/ سأطفئ نار الشغف الذي قصر الرحلة/ أوقف لازمة أسئلة/ هرمت وأجوبة/ أخرج من حقل الرؤية المتهافتة. ص13، إن هذا التعاقد مع التقاعد المبكر لأحلامه ورؤاه مرده الرفض لحياة العبودية التي أنهكت مسيره من أجل ضمان رمق الحرية، فما كان له سوى الندم على يوم ولادته: لأجل فتات حرية/ يجب أن أواصل جدفي/ ولقاء أقل حقيقة/ يجب أن أعنف ذاتي/ أماه/ أية أمة كنت/ يوم حبلت بي؟ ص23، كل هذا ولد في نفسه قلقا دائما سواء دفعا للموت أو استحضارا للحياة: سواء كتبت إرجاء للموت/ أو استعجالا للحياة/ فالقلق هو القلق. ص25، وحتى في أشد حالاته التمردية يرفض الانصياع والخنوع – وهو المحب للحياة – وتسليم روحه: روحي/ ملك يميني/ فلم أسلمها؟ ص25،هاهنا لا يزال متشبثا بحياة كريمة، حياة حقيقية لا تشوبها شوائب فظة: ينبغي منح قوام/ بدل معنى للحياة. ص26، لذلك نجده مستعدا في أي لحظة لخوض المعركة مع الواقع، فبدون الثورة على الأوضاع الجامدة لا يمكن حتى الكتابة: ألم شتات ما يكابر داخلي/ شقف من غضب/ مزق من فرح/ أخيط، ألصق ثم أكوي/ افتح يا سمسم!/ وها أنا من جديد/ لأية معركة قادمة؟ ص27، فأي معركة يقصد هازئا، وقد فات الأوان، أضد الصمت، وأي صمت؟ وقد أصبح الصمت سمة المجتمع الفضلى، أم أمام تعب الحياة وهزء ألمها؟ لقد أصبح حبيس سجنين متناقضين، فكره الذي تعب من حمله، وواقع مرير، لا يتجاوب معه، فما انفك يريد خلاصا وتحررا وكفى: حسبت أني/ بالفكر/سأنجو من سجوني/ لكن الفكر نفسه/ سجن/حاولت صد حواجزه، ولا أزال. ص31، بل تمادى به التعب إلى جسده، هذا السجن الذي يقيده ولا يمنحه حق التحرر والانطلاق، إنها قمة التضجر والتأفف والاختناق: الجسد قبو/ يعد الأيام معذبه/ وما من مهرب/ فالضربات من الداخل آتية/ ولا فائدة من الاعتراف/ وأي اعتراف؟/ هل يتهم الإنسان/ نفسه/بإنسيته؟ ص32، وليس هناك أشد من أن ترجرج إنسانية الإنسان وتهز كرامته، فالإنسان الذي تتعمق جراحه ومآسيه لا يسعه سوى الإمعان في الخيبة والإحباط ولو على حساب مشروعه الفكري: تارة أحيا/وأخرى أموت/من الجرح أقترب/ من الكلمات أبتعد.ص35، وما عساه يفعل لدرء الحزن مادام الشقاء مطبق على كل شيء: الحزن ليس مهنتي/ لكن ما أنذر الفرح الخالص. ص42، والخوف والفراغ ملازمان له منذ القديم: ما الهاوية/ التي أتقراها/ منذ القديم/ إلا فراغ أرفض أن أراه بداخلي. ص45. إن معركة الشاعر التي يشنها هي في الواقع ضد بؤر خلل تتقاسم الإنسان والمجتمع، كالبذاءة والقبح: أضحك/ وأضحك غيري/ كي أدلل البذاءة. ص 44، أو الخيانة : أينك من صديق/ يحييك/ ذات صباح/ وحسب/ عبر الهاتف؟ ص45، أو نكران الوطن لمواطنيه حتى في أبسط الأمور، حقوق قبل الضروريات: أينك من بلد/لا يطالبك/ عاما بعد عام/ بثمن ولادتك؟ ص45، أو تلك الثقافة المبتذلة السطحية التي يتظاهر بها أفراد يزعمون أنهم من حراسها وديدبانها: أطنان الكتب التي قرأت/ نسيت مجملها/ فهل صرت/ إنسانا مثقفا؟ ص48، أوحين يتأفف من المنافقين المتزلفين والمؤمنين بقضية وهمية: الملحدون/ يقسمون بأكابر آلهتهم/ والمؤمنون/ يجدفون. ص49،وهو يوثر الوضوح والصراحة في القول والفعل مهما كان سيئا صاحبهما: لا يقنعني في الحقيقة/ سوى صاحب أسنان منضدة/ أو، على الأقل، من يشع/ وميض شيطاني/ من حدقتيه. ص60 ،ويعتبر الإنسان مهما صمت – تحت مانع ما – أنه كائن ذو سلوك تمردي، لا يألف وضعا مستقرا، وهذا ما يظهر نواياه الخبيئة المضغوطة التي تنفجر يوما ما بفعل عقدة التسامي قرينة الإنسان التواق إلى التغيير أو الإبداع حتى: ظميء/وأكثر من متمرد/هذا الجسد المؤرق/ منطقتي الزلزالية/ قسمتي الحيوانية/ حان وقت الاعتراف/ دون التواء. ص61، الظمأ نفسه من أجل بعث روح التجدد والانسلاخ من مألوف ختم على الواقع والمجتمع، ونشر المنفعة الدائمة المتجددة للناس: بدل دبح شاة/ عند ولادة طفل/ لم لا تغرس شجرة. ص54؛ ويواصل انتقاده الساخر للمشهد الثقافي بالحدة إياها حين تغدو نواديه وملتقياته مجرد تجمعات ماجنة تعكس روح مجتمع غير قارئ وسطحي التواصل: افتتاح معرض/ أمام لوحة/ يتفاوضان/ بشأن لحظة/ من بغاء. ص57، أو لقاءات شماتة : ضحك ورائي/ضحك علي. ص58، حين يساء فهم حقيقة المرء الأصيلة، وعلى منوال هذه السطحية المبتذلة يغدو الحب أكثر من ذلك زائلا في أوانه : ما أن تهم بعابرة/ حتى يكون الحب قد عبر. ص63، تداعيات كهذه ينذر بها الشاعر على استشراف الموت لبلاده: فجأة المستقبل/ متفسخا. ص79، ومعه يعلن عن قرب نهايته الرافضة للموت الخاضع، بل ستكون ميتة شامخة لا تثنى: ثم أنام/ نوما هنيا/ كالشجر. ص13، مفضلا أن يكون مثواه الأخير أرض منفاه، فرنسا، الأرض التي استضافته: مهما سيحدث/ سوف آوي/ إلى حضن الأرض المضيفة/ وحيثما اتفق/ ستكون مقبرة الغرباء/ مثواي الأخير.ص18، ويبقى عزاؤه الوحيد هو هذا الصمت الجميل الذي يشيد بفورانه ذات يوم: الصمت/ ونعمته/ مطلع الصوت الداخلي. ص81، ضد صمت المجتمع القاسي، نبوءته هذه تؤشر على ثورة ما ضد هذا الواقع الميت، واقع الجهل والأمية والسذاجة وعدم الإتقان واللاوعي...:خضراء مغراء/ هي الأرض الهائجة/ زوبعة الأكياس البلاستيكية السوداء/ الصومعة الساقطة من السماء/ ثم الغابة/ المنبثقة من الأمواج/ متراجعة/ تحل العاصفة. ص80، إذ مادام هناك وجود إنساني متجدر بحكمة بالغة فلن يفقد الإنسان شيئا ليس في متناوله بعد: أنت هنا/ لم يضع كل شيء. ص92. ومهما قلنا أو تناولنا، انطلاقا من هذه المقطوعات الشعرية القصيرة الجميلة، تبقى تجربة عبد اللطيف اللعبي تجربة المعلمين الكبار الذين أناروا الطريق منذ مطلع استقلال المغرب، ومهما خاب أمله أو حكم على مشروعه بالفناء، فإن كلماته سيكون لها الوقع الحسن آجلا أم عاجلا، ما دام أن جل العظام لم تفهم تجاربهم في أوانها، ولم يلتفت إليها إلا لكونهم قد سبقوا عصرهم، إنهم بكل بساطة يهدهدون أشجارا في المستقبل لتسقط ثمار في الماضي. * ديوان: قصائد فانية. ترجمه عن الفرنسية عبد القادر هجام/2004. سعيد السوقايلي كاتب من المغرب